الثورة المصرية تواجه أزمة هوية

جدل في أوساط حركة 6 أبريل.. عدد أعضائها أكثر من 20 ألفا إلى جانب 200 ألف على الـ«فيس بوك»

TT

في مكان على بعد 30 دقيقة من ميدان التحرير مشيا على الأقدام، وداخل غرفة مظلمة قديمة لا يوجد فيها سوى مصباح كهربائي واحد، جلس أعضاء حركة 6 أبريل ليحددوا مستقبل الحركة. تحول النقاش الذي بدأ هادئا إلى جدل محتدم. وتساءل أحد الأعضاء: «من نحن؟ حركة مقاومة أم حركة حقوق مدنية أم جماعة ضغط؟»، وتساءل آخر: «هل يجب أن نستمر في وجودنا؟ لقد أنجزنا مهمتنا، ورحل مبارك».

ثارت أزمة الهوية داخل الحركة خلال الأسابيع الأخيرة، بسبب النمو الكبير وتحولها من مجرد صفحة ناشئة على موقع الـ«فيس بوك» أسست من أجل دعم عمال كانوا يخططون لإضراب في 6 أبريل (نيسان) 2008 إلى حركة لعبت دورا محوريا في الثورة المصرية. وتزعم الحركة حاليا أن عدد أعضائها أكثر من 20.000 عضو، إلى جانب قرابة 200.000 متابع على موقع الـ«فيس بوك». ومعظم هؤلاء عبارة عن حرفيين في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم. لديهم خبرة في معارضة النظام الحاكم، ولكن ليس لديهم الكثير من الخبرة في مجال الإصلاح أو العمل معها. وقد بدأت الانقسامات تظهر داخل الحركة، وفاقم الإنترنت من مشكلات أخرى، بعدما كان عنصر وحدة بين الحركات الاحتجاجية. وعندما اقترح أحد الأعضاء أن تصبح الحركة حزبا سياسيا، تحول الاجتماع إلى مشادة كلامية كبيرة. وقال أحد الأعضاء إن السياسة هي التي أخذت مصر إلى نظام حكم سلطوي استمر على مدار ثلاثة عقود، في ضوء ما يصبحها من مكائد السلطة والمصالح الشخصية والفساد. وطرح تساؤل: لماذا لا نركز على العمل كناشطين بدلا من تضييع الوقت في حزب سياسي؟

وفي الكثير من الجوانب، كان الأمر أسهل كثيرا خلال الثورة، فخلال هذه الأيام الثمانية عشر، كان نشطاء مصر الشباب لديهم رؤية واحدة، وركزوا كافة جهودهم على تحقيق هذا الهدف – من خلال تحديثات موقع «تويتر» ورسائل موقع «فيس بوك» ومقاطع فيديو ومدونات والحجارة. وكان الهدف هو: الإطاحة بالمستبد حسني مبارك الذي حكم مصر على مدار ثلاثين عاما. ولكن، الآن ومع انتهاء هذا الهدف، ظهرت أهداف أخرى. وكما يقول بعض النشطاء، هناك عدد من الأهداف والتصورات يضاهي عدد الحسابات على موقع «تويتر». ويرغب البعض في تأسيس بنية تحتية للديمقراطية الجديدة داخل مصر. ويرى آخرون أنه طالما بقيت آثار من الماضي مثل قانون الطوارئ المعمول به منذ بدء عقود مبارك في الحكم، والسجناء السياسيين ما زالوا في السجون، فإنه لا يمكن للثورة أن تنتهي. وهناك هؤلاء الذين يخشون على الاقتصاد، ويقولون إن وقت الإضرابات قد انتهى. وحتى ميدان التحرير، المكان الذي كان يتقاسمه الجميع، أصبح مسرحا للانقسام، ووقعت مصادمات عنيفة بين متظاهرين ومصريين آخرين بسبب خلاف حول جدوى استمرار الاحتجاجات. وفي غمرة هذه الفوضى المتنامية، طرح تساؤل مهم: من يتحدث باسم مصر الجديدة وباسم الملايين من المحتجين الذين جعلوا ذلك يتحقق؟ هذا تساؤل تسعى كافة الحركات إلى الإجابة عنه لتزعم تمتعها بالشرعية والنفوذ، وفي النهاية، تكون له سلطة تشكيل شكل الدولة التي تظهر من هذه المرحلة المؤقتة. استمر الاجتماع داخل مقر الحركة - وهو منزل تبرع به رجل أعمال متعاطف معهم - حتى وقت متأخر ليلا. وبقي القليل من أعضاء حركة 6 أبريل بعد ذلك، وأوضحوا أن هذه النقاشات المحتدمة أصبحت شيئا شائعا بين الكثير من حركات الشباب. توجد خلافات حول الاستمرار في التفاوض مع المجلس العسكري الذي يدير الحكومة الانتقالية داخل مصر أم مقاطعته. وتوجد خلافات حول تنظيم احتجاجات كل يوم أم في أيام الجمعة فقط، وهو اليوم الذي يشارك فيه عدد أكبر من المواطنين. ويتمثل جزء من المشكلة، بالنسبة لحركات مثل حركة 6 أبريل، في الهيكلة التنظيمية أو غياب الهيكل التنظيمي من الأساس. يشير شباب داخل مصر بفخر إلى أن ثورتهم كانت ثورة بلا قيادة، وهي فلسفة متعمدة نشأت جزئيا من كتب اللاعنف وحركة أوتبور الصربية التي كانت مصدر إلهام لحركة 6 أبريل. وترتبط المشكلة أيضا بأصل الحركة على شبكة الإنترنت، حيث يستطيع الجميع نشر تعليق. وخلال الأيام التي تلت الثورة، حاولت المجموعة أن تطبق مبادئ مشابهة في الاجتماعات، ومنحت أي شخص يحضر دقيقتين للحديث. واستمرت الجلسات الماراثونية لساعات من دون الوصول إلى إجماع جيد.

ولكن تجاوزت فلسفة غياب القيادة حركة 6 أبريل. خلال الثورة، اجتمع العديد من حركات الشباب لتشكيل ائتلاف شباب الثورة، الذي يضم ممثلين من كل حركة. ومنذ ذلك الحين، حرص الائتلاف – الذي لعب دورا كبيرا في التفاوض مع الجيش المصري – على تجنب تعيين أي قيادات له. وفي الواقع، فإنه قبل تنحي مبارك، عندما أطلق سراح أحد أعضاء الائتلاف، وهو وائل غنيم، قال بعض النشطاء الشباب إنهم طلبوا من وائل أن يقلل ظهوره على وسائل الإعلام، إذ لاحظوا أن التغطية الإعلامية بدأت تصوره على أنه ممثل للثورة. ومنذ ذلك الحين، بعد وائل بدرجة كبيرة عن دائرة الضوء، ولم يجر إلا عددا قليلا من المقابلات وحصر التعليقات العلنية خلال الأسابيع الأخيرة على موقع «تويتر» و«فيس بوك». ويقول محمد عادل، (23 عاما)، وهو من الأعضاء الأساسيين في حركة 6 أبريل: «رأينا أن القائد يمكن أن يعتقل أو يتعرض للتشويه. ولكن إذا كان القائد فكرة، فهذا شيء لا يستطيع أحد قتله».

وعلى الرغم من أن الثورة انتهت، فإن زخم الثورة زاد منذ تنحي مبارك عن سدة الحكم في 11 فبراير (شباط). ونجد في كل يوم عشرات من الاحتجاجات – تنظمها نساء من أجل المساواة، ومسيحيون أقباط ضد التمييز، وطلاب الثانوية ضد الامتحانات، وسائقون غاضبون من أسعار الغاز. ونظمت راقصات الباليه وموسيقيون في أوبرا القاهرة اعتصامات احتجاجا على الرواتب. ولكن، ربما كان المسعى الأكثر إثارة للدهشة من أجل الإصلاح، هذا المسعى الذي ظهر داخل جماعة الإخوان المسلمين، أحد أهم القوى السياسية في مصر ما بعد مبارك. وبعد أن قام النظام السابق بحظر الجماعة لأعوام كثيرة، تحاول جماعة الإخوان المسلمين أن تتحول إلى فصيل سياسي قانوني، من دون إثارة ذعر بعض المصريين الذين يخشون من أن يكون هدف الجماعة هو إيجاد حكومة إسلامية في نهاية المطاف. وهدد شباب داخل جماعة الإخوان المسلمين بأن ينظموا احتجاجات خاصة بهم ما لم تقم الحركة بتغيير قيادتها. كما طالبوا بقدر أكبر من الشفافية، ودور أكبر للمرأة واستراتيجية إعلامية عصرية. وخلال الأيام الأول من الثورة، سارع شباب من جماعة الإخوان المسلمين إلى المشاركة في الاحتجاجات، على الرغم من تردد قياداتهم. ومع معرض تنظيم حركتهم، يقول أعضاء شباب من «الإخوان» إنهم يستقون دروسا من هذه الأيام تحديدا. ويقول كمال سمير فرج الله، (38 عاما)، الذي يقدم استشارات في مجال الأعمال وكان أول شيء قام به بعد الثورة هو إنشاء مجموعة على موقع الـ«فيس بوك» تدعو إلى الإصلاح داخل جماعة الإخوان المسلمين: «في كل ليلة خلال الثورة بميدان التحرير، وبعد المناوشات، كنا نتحدث مع شباب آخرين ومع أنفسنا، وكانت هذه هي المرة الأولى التي نجلس معا فيها، نحن الشباب الذين ننتمي إلى حركات مختلفة. وتعلمنا من بعضنا».

ولكن خلال سعيهم من أجل بناء جماعة إخوان مسلمين أكثر اعتدالا وانسجاما مع العصر، يعرف الأعضاء الشباب داخل الجماعة أنهم يخاطرون بإبعاد قيادتهم، التي لا تزال في موقع المسؤولية بشكل قوي. ويقول محمد القصاص، وهو قيادي شاب بجماعة الإخوان المسلمين: «هذا شيء حساس، ولهذا السبب، ترى المساعي الصريحة على شبكة الإنترنت، ولكن هناك جهود هادئة في السر». جلس كمال على مقهى بوسط المدينة مرتديا سترة رمادية ومعه تليفون ذكي، وتحدث بحذر، وقلل من شأن الانقسامات، وتوخى الحذر ليتجنب توجيه أي انتقادات إلى الحرس القديم. وأضاف قائلا: «لدينا نفس الأهداف، ولكن ثمة اختلاف في سرعة الأداء. القيادات القديمة تسير بسرعة 80 كيلومترا في الساعة، لأنها اعتادت أن تكون الجماعة محظورة. ولكننا نرغب في معدل جديد للسرعة، ونتساءل: لماذا لا نسير بسرعة 120 كيلومترا في الساعة؟».

ولكن بعد مرور نصف ساعة على حوارنا، قال: «في المستقبل، سيكون الشباب هم قادة مصر، وحتى داخل جماعة الإخوان المسلمين. هذا ما بينته لنا الثورة، فالشباب هم الوحيدون الذين لديهم مرونة التكيف على الأوضاع».

ولكن ليس سهلا على الجميع أن يعثروا على صوت في مصر الجديدة. ومن بين عدة مئات من المحتجين كبار السن والشباب الذين يتجمعون من حين لآخر في ميدان التحرير، يشعر الكثيرون بالغضب وخيبة أمل من حركات الشباب، التي تركت تقريبا ميدان التحرير ولا يعودون إلا في أيام الجمعة، وهي أكبر أيام الاحتجاجات. ويشيرون إلى أن مطالب أساسية من الثورة لم يتم تحقيقها بعد، مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين وإلغاء قانون الطوارئ، وتشكيل حكومة انتقالية تحت قيادة مدنية. ويقول أسامة إبراهيم (36 عاما)، وهو مدرس موسيقى بإحدى المدارس الابتدائية: «لماذا يتفاوض هؤلاء الشباب تحديدا مع الحكومة؟ ألم نقاتل خلال الثورة كي يكون لنا جميعا صوت؟!». سافر إبراهيم متطفلا إلى القاهرة من منزله، الذي يقع على بعد ساعتين بالسيارة في كفر الشيخ يوم الثاني من فبراير (شباط)، بعد أن رأى قوى موالية لمبارك تهاجم المحتجين من خلال الأخبار. وبقي في ميدان التحرير لأسابيع، وتحمل القنابل المسيلة للدموع ووقف في مواجهة البلطجية ونام على الأرض، وتقاسم بطانية واحدة مع محتجين آخرين.

* خدمة: «نيويورك تايمز»