ساركوزي يستخدم الأزمة الليبية لحياكة «ثياب جديدة» للدبلوماسية الفرنسية

باريس تريد قلب صفحة التخبط في سياستها الخارجية

TT

اغتنم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وجوده في بروكسل، أمس، بمناسبة قمة الاتحاد الأوروبي، ليوجه رسالة عامة إلى القادة العرب وخصوصا إلى سورية حول «المسار الجديد» للدبلوماسية الفرنسية إزاء الحركات الاحتجاجية والمطلبية التي تجتاح العالم العربي. وبعد أن عبر ساركوزي عن «قلقه الكبير» من تصاعد العنف في سورية، قال إن فرنسا «تدعو» السلطات المعنية إلى «الامتناع عن استخدام العنف ضد المدنيين الذين يتظاهرون لأن لهم الحق في التظاهر». وأردف الرئيس الفرنسي موسعا دائرة المعنيين برسالته قائلا: «يتعين على كل مسؤول وتحديدا كل زعيم عربي أن يعي أن رد فعل الأسرة الدولية ومنها الاتحاد الأوروبي سيكون من الآن وصاعدا نفسها.. مهما تكن هوية البلدان المعنية».

وجاء كلام الرئيس الفرنسي من بروكسل ليؤكد ما سبق أن صدر عن وزير الخارجية آلان جوبيه أول من أمس وعن وزارته «في الأيام الأخيرة» حول المنحى الجديد لسياسة فرنسا الخارجية بعد التخبط الذي عرفته بمناسبة أزمتين متعاقبتين: الأولى مع تفجر الأوضاع في تونس والانطباع الذي أعطته باريس بوقوفها إلى جانب النظام وضد المتظاهرين والثاني، بمناسبة اندلاع الانتفاضة المصرية، حيث تميز موقف باريس بالغموض والتذبذب والحرص على عدم إزعاج الرئيس مبارك، شريك الرئيس ساركوزي السياسي في الشرق الأوسط والاتحاد من أجل المتوسط.

وكما ساركوزي، فإن جوبيه لم يتردد في القول، تعليقا على الأحداث التي يعيشها اليمن، إن الرئيس علي عبد الله صالح «انتهى» وإنه «لا مفر من تنحيه». وأول من أمس، حث القادة العرب الذين يعانون من حركات احتجاجية في بلادهم، على «الاستجابة» للمطالب الشعبية. وكانت الخارجية الفرنسية، في الأيام الأخيرة، قد دأبت على «إدانة» استخدام العنف واللجوء إلى قمع الحركات الاحتجاجية السلمية في الدول العربية، كما سارعت إلى وقف أي تعاون أمني مع الدول المعنية. وذهبت الخارجية في تعليقها على ما تعيشه سورية إلى المطالبة بـ«خريطة طريق» للإصلاحات المتوجبة على دمشق «تنفيذ إصلاحات سياسية، الإفراج عن المعتقلين من المتظاهرين أو من معتقلي الرأي، ضمان حرية التعبير، الامتناع عن العنف».

وشكلت الأزمة الليبية المنعطف الرئيسي للتغيير الدبلوماسي الفرنسي. فقد نسيت باريس السجاد الأحمر الذي فرشته نهاية عام 2007 تحت رجلي العقيد القذافي ووعوده بتوقيع عقود بعشرة مليارات يورو وقررت التزام دبلوماسية «هجومية». وكانت فرنسا أول من دعا إلى جلسة عاجلة لمجلس الأمن الدولي أسفرت عن تبني قرار دولي (1970) يفرض عقوبات دولية اقتصادية ومالية على ليبيا وعائلة القذافي. وكانت وراء دعوة الاتحاد الأوروبي إلى قمة تخصص للتطورات في ليبيا وفيها دعا ساركوزي إلى القيام بضربات عسكرية لوقف تقدم قوات القذافي باتجاه مدينة بنغازي. واستبق ساركوزي القمة بالاعتراف بالمجلس الوطني المؤقت ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الليبي، واضعا بذلك نظراءه الأوروبيين أمام الأمر الواقع. وفي مجلس الأمن، تحالف مع لندن لتقديم مسودة مشروع قرار جديد يتيح إقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا ويمنح الدول الأعضاء حق «اتخاذ كل التدابير الضرورية لحماية المدنيين» ما يعني إعطاء الضوء الأخضر للجوء إلى الخيار العسكري ضد نظام القذافي. وبسرعة استثنائية جمع قمة موسعة أوروبية - أميركية شمالية وعربية في قصر الإليزيه لإقامة «تحالف دولي موسع» لتنفيذ القرار 1973.

غير أن أهم ما يلفت النظر أنه استبق نهاية القمة ليرسل طائرات الميراج تضرب أرتال دبابات وآليات القذافي على مداخل بنغازي. وأمس، لم يتردد ساركوزي في القول إن الضربات العسكرية «جنبت الآلاف الهلاك» في ثاني أكبر مدينة ليبية. وكان ساركوزي، القائد الأعلى للقوات المسلحة الفرنسية، قد أمر بتجميع قوة بحرية - جوية كبيرة مقابل الشواطئ الليبية محورها حاملة الطائرات شارل ديغول النووية الدفع وترافقها فرقاطات وغواصة نووية، فضلا عن الطائرات التي تقلع من المطارات الحربية في كورسيكا وجنوب فرنسا.

ورغم الكلام «الرسمي» الفرنسي القائل، إن باريس ملتزمة فقط بتنفيذ القرار 1973، فإن وزير خارجيتها أفصح علنا عن الهدف «الحقيقي» للحملة وهو إسقاط نظام القذافي عندما قال أول من أمس، إن القوات الحليفة «تعمل لتمكين المعارضة الليبية من الانتصار» على القذافي. وتفيد تقارير صحافية في باريس بمساع فرنسية لتسليح وتدريب المعارضة الليبية التي جاء وفد منها إلى العاصمة الفرنسية قبل أيام. وتفيد تقارير أخرى بأن التسليح ربما يتم عن طريق مصر التي زارها الوزير جوبيه قبل أيام قليلة. والغرض من كل ذلك التسريع في التخلص من القذافي رغبة في الانتهاء من حرب لا تريد باريس لها أن تطول إلى ما لا نهاية.

غير أن باريس التي تبدو أكثر فأكثر أنها تلعب دورا أساسيا «إن لم يكن الدور الأول» في الأزمة الليبية، لا تريد أن تغلق باب السياسة والدبلوماسية، خصوصا أن مجلس الأمن وبعده قمة باريس حددا الشروط لوقف إطلاق النار، ومنها وقف تعرض النظام للمدنيين ووقف العنف وإخلاء المدن التي احتلتها قوات القذافي بالقوة وعودتها إلى ثكناتها وقبول وقف النار وفق رؤية مجلس الأمن ودول التحالف.