حزب البعث.. 48 عاما في السلطة

أسسه ميشال عفلق وقام على المثقفين والطلبة ثم اندمج في حزب الشعب ليكسب الفلاحين والطبقة الكادحة

محتجون سوريون يهربون من رصاص قوات الشرطة والأمن في بلدة الصنمين أول من أمس (رويترز)
TT

يعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، أقوى حزب سوري وأكثرها فاعلية وتأثيرا. وقد استولى على الحكم في سورية منذ 8 مارس (آذار) 1963، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.

أسسه نخبة من الشباب المثقف، على رأسهم ميشال عفلق وصلاح الدين بيطار عام 1940، وحمل اسم حركة الإحياء العربي. وقد جمدت الحركة لفترة وجيزة، ثم عادت عام 1943، وحملت اسم حزب البعث العربي، وشعاره «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». أما الانطلاقة العملية للحزب فكانت مع بداية عهد الاستقلال عن فرنسا، في عام 1946. وأصدر الحزب في العام نفسه صحيفته «البعث»، وفي أبريل (نيسان) 1947 كان المؤتمر التأسيسي الأول. ويعتبر حزب البعث أول حزب عقائدي في عهد الاستقلال وأول حزب قومي يعمل على الصعيدين القطري والقومي.

عقب انقلاب حسني الزعيم، تعاون حزب البعث العربي مع حزب الشعب، فاشترك في الحكم، ولعب دورا سياسيا خلال عامي 1950 – 1951. وبرر ميشال عفلق تعاون البعث العربي مع حزب الشعب، بأن الأول لم يكن قد اكتشف بعد رجعية حزب الشعب. في العام التالي رفد البعث العربي الحزب الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني، وتم توحيد الحزبين في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) لينبثق حزب البعث العربي الاشتراكي.

تكامل الحزبان، إذ كان رصيد حزب البعث يقوم في أكثريته على المثقفين والطلبة، أما رصيد الثاني فيقوم على الفلاحين والطبقة الكادحة. مر حزب البعث العربي الاشتراكي بفترات عصيبة، وحظر نشاطه في عهد أديب الشيشكلي، ومع عودة العهد الدستوري تمكن الحزب مجددا من العمل العلني، فأصدر صحيفة «البعث» في أبريل 1954، ثم تبعتها صحيفة في دمشق تدعى «الصرخة»، وأخرى في حلب موالية للحزب وتدعى «الجماهير»، إلى جانب صحف كثيرة كانت توالي حزب البعث العربي الاشتراكي. وقد كانت لصحافة هذا الحزب في مرحلة حكم التجمع القومي مواقف مشهودة في مقاومة الأحلاف وإقرار المعاهدة العسكرية مع مصر عام 1955، ومقاومة العدوان الثلاثي على مصر، ثم في تحقيق الوحدة معها. وعلى أثر إعلان الوحدة حل الحزب نفسه تلقائيا، وتوقفت صحافته، ولكن بعدما انفجر الصراع بين القيادات الحاكمة في الجمهورية المتحدة وقادة الحزب، رجع الحزب إلى نشاطه سرا، وراح ينشر صحافته ونشراته السرية.

بعد الانفصال، باشر نشاطه العلني وعادت صحيفة «البعث» إلى الصدور، إلا أن انقساما بدأ في الحزب مضى بجناح أكرم الحوراني أو الاشتراكيين وصحيفته «الصرخة»، في حين بقي الحزب محافظا على تسميته وشعاره وأهدافه وبقيت صحيفة «البعث» الصحيفة الناطقة باسمه، حتى عطلت عام 1962.

صعود البعث العربي الاشتراكي جاء ضمن ظرف دولي تنامى فيه صعود قوى اليسار وتمكن من حسم صراعه مع اليمين في سورية لصالحه، ليختفي التجاذب السياسي الداخلي ولتبدأ حقبة تراجع التعددية السياسية، جراء فرض حالة الطوارئ واتخاذ عدة إجراءات قانونية، في طليعتها صدور البلاغ رقم (4) بإيقاف جميع الصحف في سورية، ما عدا صحيفتي «البعث»، و«الوحدة العربية». وهكذا لم يعد هناك صوت مرتفع سوى صوت حزب البعث، وتم تمهيد الطريق لتقدمه نحو فرض حكم الحزب الواحد، متخذا صيغته النهائية عام 1971 مع الحركة التصحيحية، بقيادة الرئيس حافظ الأسد، ومن ثم إنشاء الجبهة الوطنية التقدمية مارس 1972، كائتلاف يجمع بين ستة أحزاب يسارية (حزب البعث العربي الاشتراكي، والحزب الشيوعي السوري، والاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب الوحدويين الاشتراكيين، وحزب الاشتراكيين العرب، والحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي) ارتضت جميعها حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع، على الرغم من التعارض مع ميثاق الجبهة الوطنية التي تتيح للأحزاب المنضوية المشاركة في القيادة واتخاذ القرار. لكن حزب الاتحاد العربي الاشتراكي بزعامة جمال الأتاسي، رفض وانسحب من الجبهة ليعود إلى ممارسة عمله السياسي المعارض في سرية، ليصبح المشهد مقتصرا على أحزاب معارضة جديدة وأخرى قديمة تعمل كأمر واقع، مستفيدة من غض نظر السلطة عنها، في مواجهة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي أكلها التقادم وحولها إلى ائتلاف لأحزاب منشقة عن بعضها وصل عددها إلى خمسة عشر حزبا، بقي منها تسعة داخل الجبهة، تستمد منه عموما عوامل بقائها، استنادا إلى ماضيها، أكثر منه إلى الواقع الراهن لافتقارها إلى قاعدة شعبية، وتقف الآن أمام مفترق طرق، إما أن تقدم على تنازلات بمثابة تضحيات مؤلمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو تستمر بلعبة كسب الوقت والهروب إلى الأمام على الرغم من نفاد الوقت وانسداد السبل.

إذا كان الواقع الدولي والإقليمي في الخمسينات والستينات قد ساعد على رسم هذا الشكل للنظام السياسي، خدمة للمصلحة العليا، فإن هذا الواقع آل إلى الماضي بكل ما فيه، بعد مضي ثلاثة عقود بات الواقع الدولي والإقليمي يتطلب تغيير هيكلية النظام، خدمة للمصلحة العليا ذاتها. وبالعودة إلى السنوات القليلة التي سبقت قيام الوحدة ونتائج التجاذب الحزبي بين مختلف التيارات، لا يمكن إنكار منعكساتها الإيجابية على الواقع السياسي، وكان الحيز الأكبر منه محجوزا للمد القومي واليساري. فعلى الصعيد الفكري تعمق الاتجاه نحو النظرة العلمية النقدية في مناقشة البنى الاقتصادية والاجتماعية في سورية، وبرزت ذهنية سياسية جديدة تؤمن بالمشاركة، وتنتقد التسلط والفساد والرشوة بروح معاصرة ومتحررة، وكرست مصطلحات جديدة، بدلا من قديمة تراجعت، وكانت تعكس توجهات القوى السياسية الفاعلة على الساحة، كالاشتراكية والروح الثورية والعقائدية والوطن العربي والتحولات الثورية.. إلخ من مصطلحات عممتها الصحافة الحزبية اليسارية، وفي مقدمتها صحيفة «البعث»، وعبر صراع الأحزاب مع بعضها بعضا، تمكنت خلالها من تحقيق مبدأ الحياد بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، وتحقيق الوحدة مع مصر، ومقاومة الأحلاف العسكرية الاستعمارية وإقصاء اليمين عن الحكم، وإلغاء الامتيازات والألقاب، وتحقيق التحولات الاشتراكية، وتعميم التعليم، والاتجاه بالدولة إلى دولة عصرية في هيكلتها الاجتماعية والاقتصادية.

بناء على تلك التجربة، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان على نحو آخر عودة صعود التيارات الدينية والليبرالية، وبات من الملح إعادة تفعيل الحياة السياسية وإطلاق الحريات الإعلامية بما يكفل تحفيز المجتمع على مواكبة التطور والإصلاح وتعزيز القدرة على مكافحة الفساد ومقاومة التحالفات القادمة إلى المنطقة، وتحديد الخيارات السياسية تحت سقف المصلحة الوطنية، لرأب الصدع بين مجتمع أضناه استشراء الفساد والسلطة المحاطة بأحزاب متهرئة أشبه بجزر معزولة ضمن خضم اجتماعي متعطش للحريات.

يأمل السوريون اليوم إقرار قانون معاصر للأحزاب ينظم الحياة السياسية، ويمنح الفرصة للأحزاب الموجودة باختبار صلاحية أفكارها، تعبيرا عن تطلعات الشارع السوري. بمعنى آخر، وضعها على محك العمل السياسي الحر، عمل المأمول منه، إعادة اصطفاف فعلية تبقي على القابل منها للحياة.

إلا أنه وحتى الآن وعلى الرغم من تشكل قناعة لدى السلطة في سورية بأولوية الإصلاح السياسي، لا تزال متخوفة من فتح الباب أمام التعددية السياسية، لا سيما أنها تتخوف من الأحزاب الدينية والعرقية، مما يبرز مشكلة مقلقة حول إمكانية إيجاد تسويات ترضي جميع الأطراف، لا سيما مع تنامي التيارات الدينية، ووجود أكثر من عشرة أحزاب كردية تطالب بالاعتراف بها كجزء من النسيج الوطني. وأكثر من خمسين حزبا وتجمعا أهليا ينشط في الحقل السياسي، جميعها تنتظر إقرار إصدار قانون للأحزاب وتعديل الدستور، تحديدا المادة الثامنة، بما يتيح المشاركة للجميع في رسم مستقبل البلاد.

وفي دائرة الجدل الحزبي، هناك من يرى أن «صدور قانون الأحزاب لن يغير كثيرا في واقع تلك الأحزاب، إذ لا توجد على الساحة أحزاب حقيقية، وإنما بقايا أحزاب قديمة، وأي قانون سيصدر راهنا سيكون مفصلا على مقاسها، وبالتالي سيكون ضيقا جدا في المستقبل القريب». هذا ما ينبه إليه الكثير من الناشطين السياسيين، مستقلون ومعارضون، مطالبين بمناقشته بمشاركة كل الأطياف السياسية، دون إغفال حقيقة أن مجرد صدور القانون لن يحل أزمة العمل السياسي، فالقوانين وحدها لا تجلب الديمقراطية لأي مجتمع، ومن الخطأ اعتبار غياب القانون سببا لانعدام الحريات السياسية والديمقراطية، حتى لو كان عدم توافر قانون للأحزاب واحدا من أهم مظاهر التخلف السياسي.