كيف أشعل بائع فاكهة تونسي فتيل الثورات في العالم العربي؟

حمى الثورات تحمل بداخلها سحرا يمكنها من تجاوز الخلافات

TT

في تحقيق موسع من أكثر من 4500 كلمة، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، أمس، تقريرا حول الثورات العربية، منطلقة من شرارتها الأولى التي أطلقها التونسي محمد البوعزيزي الذي أحرق نفسه، فكان أن التصقت الثورات العربية التي حدثت، وتحدث الآن، بهذا الشاب التونسي الذي قضى حتفه حرقا.

تقول الصحيفة «في المساء السابق لليوم الذي انتحر فيه محمد البوعزيزي حرقا لتمتد ألسنة النيران لمختلف أرجاء العالم العربي، أخبر والدته أن البرتقال والبلح والتفاح التي سيبيعها من أفضل الثمار التي عاينها». وقال: «بهذه الفاكهة، سأتمكن من شراء هدية لك. غدا سيكون يوما حسنا».

وتمضي الصحيفة بالقول إنه ولسنوات، سرد البوعزيزي على مسامع والدته قصصا عن فساد داخل سوق الفاكهة، وتعامل ضباط الشركة مع السوق باعتبارها ساحة تنزه أقيمت خصيصا لهم، حيث يحملون ما طاب لهم من فاكهة دون اكتراث بالبائع. وبدا أن ضباط الشرطة يستلذون بإهانة الباعة في صور تنوعت بين فرض غرامات عليهم ومصادرة الموازين التي يعملون بها، بل وإصدار أوامر لهم بحمل الفاكهة التي يسرقها الضباط حتى سيارات الشرطة.

ولكن قبيل فجر الجمعة، 17 ديسمبر (كانون الأول)، وبينما شرع البوعزيزي في جر العربة التي تحمل فاكهته نحو السوق، اعترض طريقه ضابطا شرطة وحاولا الاستيلاء على بضاعته. وهرع عم البوعزيزي للضابطين في محاولة لإقناعهما بترك الشاب الفقير، 26 عاما، ليمضي في طريقه الممتد لميل كامل.

وزار العم رئيس الشرطة بالمدينة مستجديا مساعدته. وبالفعل، اتصل الأخير بالشرطية فادية حمدي التي وقفت في طريق البوعزيزي وأمرها بتركه لحال سبيله.

وأثار ذلك غضب الشرطية وعادت للسوق واستولت على قفص من التفاح الذي كان يبيعه البوعزيزي وحملته لسيارتها. وعندما شرعت في حمل آخر، حاول البوعزيزي منعها، حسبما ذكر علاء الدين بدري، الذي كان يقف بجوار عربة فاكهة مجاورة لعربة البوعزيزي، كما تقول الصحيفة.

وأضاف: «دفعت محمد وضربته بالهراوة». وبعد ذلك، صفعت البوعزيزي على وجهه أمام قرابة 50 شخصا. وهنا، بكى البوعزيزي من شعوره بالمهانة والعار.

وذكر شهود عيان أنه صاح متسائلا: «لماذا تفعلون ذلك بي، أنا رجل بسيط لا أبغي سوى أن أعمل».

وتعلق الصحيفة بالقول إن الثورات تعد بمثابة انفجار لمشاعر إحباط وغضب تراكمت بمرور الوقت. ورغم عمق جذورها السياسية، غالبا ما يقف وراء اشتعالها شرارة واحدة - ربما عملية اغتيال أو عمل فردي لإعلان العصيان والتمرد.

في تونس، كما تقول «واشنطن بوست» وهي دولة تتسم بطابع استثنائي وارتفاع نسبة التعليم الجامعي بها، راقب التونسيون طيلة 23 عاما نظام زين العابدين بن علي الاستبدادي وهو يتحول لإهانة يومية. وأجمعت مختلف طوائف التونسيين على شكوى واحدة مفادها أنه أصبح من العسير الحصول على وظيفة من دون أن تكون لك صلة ما بعائلة بن علي أو حزبه.

ومع ذلك، لم تكن الثورة التي اشتعلت هنا وانتشرت كالنار في الهشيم إلى مصر وليبيا ودول خليجية، والآن في اليمن وسورية، مخطط لها مسبقا. وقد حمل لواء الثورة مواطنون عاديون، وليس سياسيون أو جيوش، وباتت شرارتها تضرب دولة تلو الأخرى على نحو مختلف تتعذر السيطرة عليه. ومع ذلك، ظلت الثورات العربية تحمل خصائص مشتركة - مظاهرات الجمعة والاتصالات عبر موقع «فيس بوك» والتحالفات عبر الفرق الدينية والاجتماعية والقبلية. وقد اندلعت هذه الموجة لأن الحكام المستبدين الذين بلغوا من العمر أرذله أصابهم الغرور وابتعدوا عن الشعوب التي كانوا من قبل يخطبون ودها، ولأن شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية التي عجزت أجهزة الشرطة السرية عن تفهمها بصورة كاملة، وصلت لأعداد كبيرة من الناس، ولأنه داخل منطقة ريفية حيث يحتل الاحترام مكانة أعلى وأسمى من المال، أهين محمد البوعزيزي أمام أصدقائه.

وبحسب الصحيفة، فإنه وبعد الصفعة التي تلقاها، توجه البوعزيزي لمجلس المدينة، طالبا مقابلة مسؤول، لكن أحدا لم يجبه. بعدها، عاد للسوق وأخبر أصدقاءه أنه سيكشف أمام العالم حجم الظلم الذي وقع عليهم ومدى فساد النظام.

«وبالفعل، أشعل النار في نفسه».

وعن ذلك، قال حسن تيلي، أحد الباعة: «اعتقدنا أنه كان مجرد كلام».

من دون كلمة أخرى، توجه البوعزيزي لمجلس البلدية ووقف أمامه وأشعل النيران في نفسه. هرع الناس لإنقاذه وعثروا داخل المبنى على طفاية حريق، لكنها كانت خاوية. اتصلوا بالشرطة، ولم يأبه أحد. وبعد ساعة ونصف الساعة ، وصلت عربة الإسعاف.

ورغم أن عائلة البوعزيزي لا تملك مالا ولا سيارة ولا كهرباء، فإن الفقر لم يكن ما دفع ابنها للتضحية بنفسه، وإنما السعي لاستعادة الكرامة، حسبما أكدت الأم.

وزار الرئيس بن علي، البوعزيزي في المستشفى أمام كاميرات التلفزيون وقدم لوالدته شيكا بـ10.000 دينار (نحو 14.000 دولار) لمانوبيه البوعزيزي، والدته. لكن الأم قالت إن معاوني الرئيس استردوا الشيك منها بعد أن خرج المصورون من الغرفة.

وبعد ثلاثة أسابيع من إضرامه النار في نفسه، توفي البوعزيزي.

في مطلع يناير (كانون الثاني)، ألقي القبض على الشرطية، لكن كان الأوان قد فات. وذاع نبأ ما حدث، وبعد ثلاثة شهور كانت الثورة التي بدأت شرارتها في قرية تونسية صغيرة وأينعت في مصر قد تحولت إلى عدوى تهدد أنظمة البحرين واليمن، وأشعلت في ليبيا حربا أهلية.

داخل تونس وبعدها مصر وعبر مختلف أرجاء المنطقة، شعر الناس الذين كانوا يتكتمون الشكوى سوى أمام أصدقائهم وأقاربهم، أن الخوف الذي اعتمد عليه حكامهم قد تلاشى تماما. واكتشفوا أن السحرة الذين تولوا قيادة قوات شرطة سرية بدت في فترة من الفترات متوغلة في شتى مناحي الحياة، ليسوا سوى رجال هرمين يتخفون خلف حواجز ويديرون أجهزة معنية بأمن الدولة عجزت عن التصدي للفيروس الثوري الذي استشرى عبر صفحات «فيس بوك».

وفي غضون ستة أسابيع فقط، ظهر في تونس 60 حزبا سياسيا.

تلاحظ الصحيفة أن حمى الثورات تحمل بداخلها سحرا يمكنها من تجاوز الخلافات التي عادة ما تفرق الناس، وهو الأمر الذي أثبته التاريخ مرارا - عامي 1848 و1989 والآن عام 2011 داخل العالم العربي. في كل مرة، سقطت أنظمة فاسدة أمام حشود جماهيرية انتابها فجأة شعور بالحرية مكنها من المقاومة والرد. وتتعاون أسواق العمل المتجمدة والسلطة السياسية شبه المطلقة والطبقة الوسطى المحبطة لتخلق معا عاصفة نموذجية تضم تحت مظلتها الطوائف والفرق التي كانت منقسمة على نفسها من قبل وتدفعها للثورة ضد الحكام.

في الكثير من الثورات، تتداعى وتنهار أدوات القمع في لحظة، لكن لا أحد بمقدوره أن يعلم على وجه اليقين متى تحين هذه اللحظة.

خلال الأيام الأولى للثورة المصرية في يناير، تقول «واشنطن بوست» غمرت البلاد مشاعر التفاؤل. لكن الآن مع عمل الحكام العسكريين لمصر على تمهيد الطريق أمام الانتخابات، عادت الكثير من المجموعات التي وحدها ميدان التحرير للتخندق داخل مراكزها القديم - المثقفون داخل المقاهي والإسلاميون داخل المكاتب وأبناء الشريحة العليا من الطبقة الوسطى داخل أندية ممتدة على النيل. ويعتمل بداخلهم قلق من أن حالة زعزعة الاستقرار التي خلقتها الثورة قد يصعب السيطرة عليها.

وعلى بعد 1500 ميل تقريبا من عربة البوعزيزي التي كان يحمل عليها بضاعته، تحديدا على التلال المطلة على نهر الأردن، تسبب طوفان من الشكاوى حيال الفساد والشرطة السرية وتفاقم الأسعار وخصخصة الخدمات العامة ليس في اندلاع ثورة، وإنما في سيل من المظاهرات الصغيرة، بحسب ما تقوله الصحيفة.

وفي الأردن، عمل محمد السنيد لسنوات من دون شكوى ومثل البوعزيزي - من دون أي إمكانية لتحسين وضع أسرته. ومثل التونسي الذي ألهم العرب ودفعهم للثورة، وصل السنيد، الذي كان يعمل سائقا على جرافة لحساب وزارة الزراعة، لنقطة الانفجار.

الربيع الماضي، توجه السنيد، 34 عاما، من الكوخ المصنوع من الطمي الذي يقطنه ويقع على قمة تل يطل على حقول جدباء، إلى مدينة مادابا القريبة. وحداه الأمل في مناشدة وزير الزراعة الأردني في النظر في مأساة جيرانه الذين يدفعون 100 دينار (نحو 140 دولارا) كإيجار شهري، بينما لا يتجاوز دخلهم 90 دينارا.

واعترضت الشرطة السنيد قبل دخوله المكان الذي كان مقررا أن يلقي فيه الوزير كلمة. وعندما حاول السنيد الصياح للفت انتباه الوزير، تعرض للتقييد وتكميمه وضربه أمام 200 من أصدقائه وجيرانه.

نتيجة شعوره بالمهانة، أصر السنيد على رفع شكوى ضد الضابط الذي ضربه. بدلا من ذلك، تم تحويله لمحكمة سرية أصدرت ضده حكما بالسجن ثلاثة شهور لإهانته مسؤولا حكوميا وإثارة البلبلة، كما تزعم «واشنطن بوست».

وعندما سمع عدد من الجنرالات العسكريين المتقاعدين في عمان، العاصمة، بأمر الثورة الوليدة في الريف، احتضنوا قضية السنيد على أمل أن تلهب مطالب عامة بالإصلاح.

لكن قصة السنيد، رغم انتشارها على نطاق واسع، لم تثر انتفاضة كبيرة، بل إن السنيد نفسه يسعى للإصلاح فحسب، وليس تغيير النظام. وقال السنيد لو أن الملك عبد الله الثاني زار الناس وأنصت لهم، قطعا سيتخذ الإجراءات المناسبة، وهي جملة أصبحت مكررة بمختلف أرجاء الأردن: لو أن الملك يعلم، لكان اتخذ الإجراءات المناسبة.

داخل البلاط الملكي، قال مستشارون إن الملك عبد الله مدرك للمظاهرات ومطالبها وينوي تخفيف حدة القيود في قوانين الانتخابات هذا العام ومنح مزيد من السلطة للناخبين.

لكن المظاهرات الصغيرة داخل عمان تندد بهذا الوعد باعتباره غير كاف، ومع ذلك يبدي المتظاهرون كذلك الأعلى صوتا تبجيلا خاصا تجاه الملك. أما الشرطة الأردنية، فإنها لا تشكل مصدر تهديد للمتظاهرين، مقارنة بنظيرتها في تونس ومصر. وتحرص الشرطة على توزيع عصائر ومياه على المتظاهرين الذين يعربون في المقابل عن ولائهم للملك.

ينتمي قرابة نصف سكان الأردن البالغ عددهم 6 ملايين نسمة إلى فلسطينيين من الضفة الغربية لنهر الأردن، بينما النصف الآخر ينتمي للضفة الشرقية. ورغم أن الكثير من الفلسطينيين يحملون جوازات سفر أردنية، فإن القليل منهم فقط حصل على المواطنة الأردنية. وتنتهي أي مناقشة لقضية توسيع دائرة الديمقراطية إلى التساؤل التالي: وماذا نفعل مع الفلسطينيين؟ لينتقل النقاش بأكمله إلى الصراع العربي - الإسرائيلي.

يقول باسل أوكور، مدير تحرير موقع «آمون نيوز» الإخباري، الذي يكتسب شعبية كبيرة - ورقابة من الأجهزة الأمنية في الدولة - بسبب أخباره الجريئة: «هذا هو السبب في أن الملك لا يزال يتمتع بقدسية في الأردن. فنحن من مجموعتين عرقيتين مختلفتين بينهما الكثير من الغضب. والشيء الوحيد الذي يمكن أن ينقذ الأردن من مزيد من التشظي هو الملكية».

وقد شهد القصر الملكي خلال الشهر الحالي تجمع المئات من الفقراء مباغتين السلطات، ما أثار ارتباكا مروريا في كل الاتجاهات. وتجمع الرجال والنساء في ملابسهم القبلية على الممشى الضيق، وكان كل واحد منهم يمسك ورقة في يده تحمل طلبا للملك.

تقول الورقة التي كانت جميعها تحمل صيغة واحدة طالبة مساعدته في تدبير شؤون الحياة اليومية: «إلى جلالة الملك: سيدي أنا فقير للغاية وأعيل عائلة كبيرة مؤلفة من.. وليس لدينا من معين سوى الله وأنت».

وعلى مدى ساعات توالت الصيحات والصرخات لكن ما من مجيب. لم يتبق سوى الشائعات ولم يظهر شيء على «فيس بوك» سوى شائعات عن أفراد سمعوا من أفراد يعرفون أحدا ما حصل على 200 دينار من الملك.