المستشار أحمد مكي لـ«الشرق الأوسط»: كل مؤسسات الدولة خضعت للتدخل الأمني.. بما فيها القضاء

نائب رئيس محكمة النقض: الخوف من إنشاء أحزاب دينية في مصر «فزاعة» نصنعها ثم نحاول محاربتها

المستشار أحمد مكي
TT

يعد المستشار أحمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض عضو المجلس الأعلى للقضاء، أحد رؤوس تيار الاستقلال في القضاء المصري.. خاض حروبا شرسة مع النظام السابق وكان ذا مواقف ثابتة، وكان أحد المستشارين الذين تمت إحالتهم للتحقيق بسبب المطالب الإصلاحية واستقلال القضاء. وجهت له اتهامات تتضمن إهانة الهيئة القضائية والإساءة لبعض رموز الدولة وبعض القضاة، خاصة عندما كشف عن تزوير ببعض الدوائر في الانتخابات البرلمانية في عهد النظام السابق، ووصلت إلى حد توجيه التهديد المباشر له. كشف مكي من خلال حواره مع «الشرق الأوسط» الكثير من خبايا وقفة استقلال القضاة الشهيرة، وكيف كان من الممكن أن تتحول لثورة حقيقية على غرار 25 يناير، لولا تدارك النظام للأمر. كما أشار إلى موقفه الشهير من تعيين القاضيات، وكيف ضغطت سوزان مبارك في هذا الاتجاه على مجلس الدولة لتحقيقه. وموقفه من قانون الأحزاب الجديد، وعدم تخوفه من إنشاء أحزاب ذات مرجعيات دينية. وإلى نص الحوار..

* هل الوضع الدستوري في مصر الآن مطمئن؟

- إنه وضع مرحلة انتقالية، وفيه شيء من الارتباك. فنحن قمنا بثورة رائعة، ولكنها لم تنته بوصول الثوار إلى السلطة، وأصبحنا في وضع «بين - بين». والمجلس العسكري يحاول أن يؤدي مهامه بقدر استطاعته، وهو لا يريد البقاء ويعمل على نقل السلطة في هذا الوقت الملتبس. فالثورة تمت وأزيح رأس النظام السابق، لكن بقايا النظام تريد أن تتشبث ببعض ما كان لها.. وبدا هذا في لجنة الحوار الوطني، حيث كان هناك بند في أحد محاور الاجتماع يبحث التصالح مع رموز النظام السابق، وهو ما تم رفضه.

* هل هذا التصالح كان يهدف إلى استرداد أموال الشعب مقابل عدم المحاكمة؟

- لا لم يكن به ما يشير إلى استرداد الأموال التي استولت عليها هذه الرموز، بل كان الحديث حول الاستفادة منهم في إدارة شؤون البلد, وعلى الرغم من موافقة بعض الموجودين في السلطة على ذلك، فإن الثوار في الشارع المصري ضد هذا الأمر.

* هل تقصد الحكومة الانتقالية الحالية؟

- ما في ذلك شك.

* هل تتوقع أن تشهد مصر نزاهة في العمليات الانتخابات المقبلة؟

- بوادر نزاهة الانتخابات بادية، وتحديدا مع عملية الاستفتاء الأخيرة. وأنا متفائل جدا تجاه هذا الأمر، لأني ألمس تصميما لدى الشعب المصري على تحقيق الديمقراطية، وكل محاولات بقايا النظام في إعاقة ذلك إلى زوال.

* هل لديك أي تحفظات على التعديلات الدستورية الأخيرة والاستفتاء عليها؟

- الأمر الذي استوقفني هو أن الاستفتاء تم من دون قوائم ناخبين، وسمح للناس بالتصويت في أي مكان، وهذا يعني أن اللجنة لا تعرف عدد الناخبين، أي أن الانتخابات كانت معلقة بهوى الناخب في بعض اللجان.

* هل تتفق مع إشراف القضاء وفقا لقانون إشهار الأحزاب الجديد؟

- لا يجب أبدا أن يكون القاضي مشرفا على نزاهة سير العمل في الأحزاب الجديدة، فيتابع تمويل الأحزاب أو صلاتها بأي جهات أجنبية.. فالقاضي ليست وظيفته أن يفتش وراء الأحزاب، لذلك فلجنة الأحزاب هي لجنة شكلية.

* قانون الأحزاب الجديد يمنع قيام أحزاب دينية، لكنه لا يمنع قيام أحزاب على مرجعية دينية، كيف تفسر جملة «مرجعية دينية»؟

- «مرجعية» أو «خلفية دينية» هي مصطلحات غير منضبطة، والقاضي ضد استخدام مصطلح غير منضبط.. وكان يجب القول «لا يجوز إنشاء أحزاب تفرق بين الناس، سواء كان ذلك في الجنس أو الدين أو اللون»، أي نص معرف صراحة وحاسم. لكن أن يكون أعضاء هذا الحزب ذوي خلفية إسلامية أو يسارية أو كائنا من كان، فأنا لا علاقة لي بهذه المرجعية، لأنها تفتيش في نيات وضمائر الناس وحجر عليهم.

* ألا تخشي من أن تتحزب مصر وفقا لمرجعيات دينية إلى أحزاب إسلامية ومسيحية؟

- أنا لست ضد إنشاء حزب يكون وراءه مرجعيات دينية، بل أنا ضد ممارسات معينة. وكلمة مرجعيات كلمة «مطاطة»، الهدف منها إثارة الفتنة والقلاقل في المجتمع للشوشرة على الثورة ومنجزاتها.. كما أنها مجرد مصطلح شأنه شأن الكثير من المصطلحات الرنانة التي كنا نسمع عنها قبل الثورة مثل «تهديد السلامة الوطنية، والوحدة الاجتماعية وغيرها» ولا معنى لها. أنا أميل لوضع عبارات محددة وحاسمة.

* إذن أنت لست ضد إنشاء أحزاب دينية واضحة؟

- ولم لا، ما دام أن القائمين على هذه الأحزاب لن يغلقوا أبواب عضويتها في وجه من يحملون ديانات أخرى. الممنوع هو إنشاء حزب ديني تقتصر عضويته على أصحاب ديانة واحدة فقط لا غير، أما مرجعية من ينتمون إليه، فهذا لا يخصنا. فأنا شخصيا لا مانع لدي من الانضمام إلى حزب ديمقراطي مسيحي مثلا، ما دام يحقق المساواة بين المواطنين ومصالحهم. ولكن يجب على الأقباط أن يفهموا تماما أنهم لن يكونوا قوة إلا إذا اندمجوا في المجتمع المصري، وكانت لمكرم عبيد مقولة شهيرة «أنا قبطي الديانة، مسلم الثقافة»، وهو السياسي الوحيد الذي مشي في جنازة حسن البنا، وكان يحفظ القرآن!! وحسن البنا نفسه كان سكرتيره قبطيا.

* ولكن هناك تخوفا من تنامي القدرة السياسية لـ«الإخوان» في مقابل أحزاب ضعيفة بعد اختفاء الحزب الوطني من الساحة؟

- في رأيي أن الإخوان المسلمين لن يكونوا قوى سياسية كبرى كما يتخيل البعض، بل سينقسمون إلى عشرات الأحزاب. فالضغط وحده هو ما وحد «الإخوان»، وبعد رحيل مبارك ذهب كل منهم في اتجاه. ويجب أن لا نصنع نحن الفزاعة، ثم نحاول محاربتها بعد ذلك، إذ إن ما يحاول البعض إشاعته من مخاوف ما هو إلا مجرد أوهام لصناعة الديكتاتورية!

* وإلى أي مدى كان النظام السابق يتحكم ويتدخل في أعمال السلطة القضائية؟

- أصابنا ما أصاب المؤسسات المصرية الأخرى، حيث تدخلت الأجهزة الأمنية في إدارة شؤون كل المؤسسات. ولكن الاختلاف كان فقط في حجم المقاومة، لذلك تماسكت الهيئة القضائية في مصر بعد ثورة 25 يناير، مقارنة بالمؤسسات الأخرى التي ارتبكت أوضاعها حاليا.

* ولكنكم دخلتم في مواجهات عنيفة مع النظام كتيار مستقل للقضاء الذي تعد أبرز أعضائه؟

- القضاء إحدى سلطات الدولة.. وهو في الدول العادلة إحدى وسائل تحقيق العدل، وفي الدول الظالمة وسيلة لتحقيق الظلم. ومواجهاتي مع النظام السابق لم تكن فقط من أجل (انتخابات نزيهة، وإلغاء حالة الطوارئ، وعدم تقديم المدنيين لمحاكمات عسكرية)، بل تعداه إلى إطلاق الحريات وتحقيق العدالة. وفي العهد السابق، توحشت السلطة التنفيذية في مصر وسيطرت على القضاء، لذلك كان كل هدفنا كتيار مستقل للقضاة، هو تحرير المجتمع من قبضة السلطة التنفيذية.

* هل كانت «الأموال» إحدى وسائل الضغط على المؤسسة القضائية في عهد مبارك؟

- نعم، فليس لنا مورد إلا عطاء الدولة.. وكان أبرز هذه النماذج الصارخة هو وقف ميزانية نادي القضاة أيام الأزمة الشهيرة، واشتراكات الأعضاء لم تكن تكفي لسداد فواتير الكهرباء والمياه, إضافة إلى منع تمويل النشاطات الاجتماعية، مثل الحج والعمرة، إمعانا في الضغط.

* ولماذا لم يساندكم وزير العدل السابق ممدوح مرعي؟

- لأنه كان جزءا لا يتجزأ من النظام وسياسة الدولة، وعليه تنفيذ سياستها التي كانت تدعو إلى إخراس الأصوات التي تطالب بحرية القضاة.. والوحيد الذي كان يتدخل بيننا وبين النظام السابق كان المستشار محمود أبو الليل وزير العدل الأسبق، وذلك في قضية المستشارين محمود مكي وهشام بسطويسي والكشف عن تزوير انتخابات 2005. لكن جاءت له أوامر محددة عبر مكالمة تليفونية من رئيس الديوان زكريا عزمي بتنفيذ قرار إحالة بسطويسي ومكي للتأديب.. وقد نفذ أبو الليل، قبل أن يخسر وظيفته لاحقا بعد أن اضطر إلى تقديم استقالته.

* هل تعرضت صراحة إلى تهديدات مباشرة في فترة الرئيس مبارك؟

- لم نتلقها صراحة، ولكننا كنا ندركها من خلال الكثير من الرسائل غير المباشرة التي كانت تصلنا بصورة مستمرة، إلا مرة واحدة، أذكرها للمرة الأولى، يوم اعتصام القضاة الشهير «بالأوسمة» في 17 مارس (آذار) 2006، حين اعتزم القضاة من حملة الأوسمة تنظيم مسيرة إلى القصر الجمهوري للتأكيد على مطالبهم وإجبار الرئيس مبارك على الاستجابة لهم.. فوصلتنا رسالة من الجهات الأمنية، مفادها «إذا فعلتم ذلك، فنحن غير مسؤولين عما يحدث لكم، ولن نضمن سلامتكم»، حيث كانت المؤشرات تدل على أن الشعب سينضم إلينا.. وحيث إننا نعرف بلدنا ونعرف كيف تسير بها الأمور، فقد أدركنا أن حياتنا معرضة للخطر.

* هل يمكن القول إن يوم محاكمة المستشارين مكي وبسطويسي كان إنذارا حقيقيا بثورة 25 يناير؟

- نعم، ولو لم يقم النظام وقتها بتدارك الأمر لكانت الثورة حدثت في 18 مايو (أيار) 2006.. فنحن كنا مصممين على عدم فصل أي قاض منا، وكتاب المستشار فتحي خليل عن فتنة القضاء يروي هذه التفاصيل بكل دقة. ولكن النظام وقتها استشعر الخطر بالفعل، لذلك تدارك الأمر، وانتهى الموضوع ببراءة مكي وتوجيه اللوم إلى بسطويسي.

* هل أجبر القضاء على الخضوع في قضايا تخص تزاوج السلطة بالمال؟

- إجبار القضاء كان يتم من الخارج، أي ليس بشكل داخلي واضح. ولعل أبرز أدوات الضغط كان حجب الأدلة، وعدم استكمال التحقيق دون إبداء أسباب.. لذلك كنا نطالب دوما بفصل سلطة الاتهام عن التحقيق، بمعنى أن يكون تحقيق هذه القضايا من اختصاص القاضي، وليس وكيل النيابة، الذي يخضع للنائب العام في نهاية الأمر.

* هل تذكر قضايا بعينها حدث بها هذا الإجبار المستتر؟

- كل قضايا مصر، بداية من حريق القاهرة عام 1952، وسرقة مجوهرات أسرة محمد علي، وصولا إلى قضايا فساد إبراهيم سليمان (وزير الإسكان الأسبق)، كلها قضايا تاهت فيها الحقيقة!!

* رفضت العام الماضي تعيين 5 قاضيات، واليوم توافق على تعيين المرأة رئيسة للجمهورية، ما سر هذا التحول في موقفك تجاه المرأة؟

- لم يحدث أن عارضت أبدا عمل المرأة في القضاء، وإنما اعتراضي كان على آليات تنفيذ مهام المرأة لعملها كقاضية.. ومن أهم المعوقات التي تواجهها مسألة الإقامة والانتقالات والزي والاستراحات، وهذه أمور كان لا بد من تدبيرها قبل أن ننادي بتعيين المرأة قاضية. بالإضافة إلى محاولة إجبار الحزب الوطني مجلس الدولة على تعيين القاضيات عنوة وقتها، لكني لم أعترض على عمل المرأة قاضية أو رئيسة، فالحكم وظيفة والقضاء وظيفة.

* هل كانت السيدة الأولى سابقا (سوزان مبارك) سببا في افتعال أزمة القاضيات؟

- طبعا، فالسيدة الأولى كانت تضغط من خلال المجلس القومي للمرأة والحزب الوطني وتحاول قهر مجلس الدولة في قراراته، بغض النظر عن آليات تنفيذ هذه القرارات وراحة السيدات القاضيات أنفسهن، بل إننا كنا نبحث عنهن من أين تأتي السيدة القاضية؟ لم نجد أمامنا غير النيابة الإدارية, والدفعة الأولى كانت فيها 12 فقط، والدفعة الثانية كانت أقل. حيث تراجعت الكثيرات لأن مهام التنفيذ ليست ميسرة لهن، فقانونا لا يجوز أن يعمل القاضي في محل إقامته، إذن الحل أن تغير فلسفة القضاء ويمنع النقل مثلا!

* لماذا طالبت بإلغاء مجلس الشورى؟

- لأنه بلا وظيفة، ووظيفته الحقيقية كانت أنه يعطينا رئيسا للمجلس الأعلى للصحافة ورئيسا للجنة الأحزاب، وهما في طريقهما إلى الإلغاء, وإلغاء المجلس في المرحلة الانتقالية الحالية سيخفف عبء ميزانيته التي تقدر بنحو 400 مليون جنيه.

* هل سيخضع الرئيس السابق للمحاكمة؟

- الحد الأدنى أن يرد الأموال المأخوذة من الشعب، وهذه مسؤولية السلطة القائمة أيا كانت.. وهذا أمر لا تسامح فيه أبدا. يضاف إلى ذلك محاكمته عن مدى مسؤوليته عن حوادث البلطجة التي حدثت ضد الناس، والتي راح ضحيتها الكثيرون، خاصة أنه أشيع أن هناك سلاحا للبلطجة المنظمة يتبع النظام، قد لا يكون هو من كونه، ولكنه حتما مسؤول عن من كان تحت قيادته وأمر بتشكيل هذا السلاح.