آخر فتيات الـ«غيشا» في الرابعة والثمانين من العمر

كانت ستغني لمحارب الساموراي عندما ضربت موجات التسونامي مدينتها

TT

بمرور السنوات، تراجع الطلب على مشاهدة العروض الفنية التي تؤديها آخر فتيات الـ«غيشا»، لكن عندما ضرب الزلزال في الساعة الثانية وست وأربعين دقيقة في الحادي عشر من مارس (آذار) الماضي، كانت بالمدينة في منزلها تستعد للغناء في تلك الليلة في مطعم شهير من مطاعم الـ«ريوتي» يقدم أطيب صنوف الطعام والعروض الترفيهية، الذي بدأت العمل فيه منذ أن كانت في الرابعة عشرة من العمر أي منذ سبعة عقود مضت. وكانت ارتدت بالفعل الجورب ذا الأصبع المنفصل الذي ترتديه مع الكيمونو وتستعد لتصفيف شعرها ورفعه إلى الأعلى. وقد تم الاتفاق معها لتقدم عرض غنائي في حفلة يحضرها أربعة أشخاص احتفالا بانتقال أحد الزملاء من مدينة كامايشي. وقد اختارت أغنية تلائم المناسبة، وهي أغنية حماسية تشجع محارب ساموراي شابا يتوجه إلى المشاركة في أول معركة في حياته.

لكن ضربت موجات التسونامي المدينة في غضون 35 دقيقة وكذلك 15 تابعا من توابع الزلازل خلال فترة قصيرة. وحاولت فتاة «الغيشا»، تسوياكو إيتو، البالغة من العمر 84 عاما جاهدة أن تنجو وتبقى على قيد الحياة. وقد نجت تسوياكو من ثلاث موجات تسونامي ضربت المدينة في الماضي. وكانت موجات التسونامي تضرب المدينة بوتيرة منتظمة على مدار قرون، فقد كانت تستمتع إلى حكايات جدتها وهي صغيرة عن التسونامي العظيم الذي حدث عام 1896.

وتقول تسوياكو وهي في المستشفى التي تعالج فيها من الربو: «كانت جدتي تصف التسونامي بالفم الكبير المفتوح الذي يبتلع كل شيء في طريقه. والنصر يكون من نصيب الذين يهربون بأقصى سرعة ممكنة». حملتها أمها على ظهرها لإنقاذها وذلك عند حدوث أول موجات تسونامي تشهدها تسوياكو في المدينة عام 1933. لكن هذه المرة بعد أن ضعفت حركتها حملها أحد معجبيها على ظهره إلى أرض مرتفعة. ونجت تسوياكو، التي تعد من أعمدة اليابان والتي كانت تنوي الاعتزال في عيد ميلادها الثامن والثمانين، من رابع وأخطر تسونامي.

لكن موجات التسونامي جرفت آلة الشاميسين الخاصة بها ذات الثلاثة أوتار ورداء الكيمونو اللذين يعدان من الأدوات الرئيسية في فن «الغيشا». ويعتقد أن موجات التسونامي الأخير أسفرت عن وفاة نحو 1300 شخص في مدينة كامايشي التي تحولت الأراضي المنخفضة فيها إلى مدينة أشباح تفوح منها رائحة أطلال المباني التي امتزجت مع أطلال البحر.

ولعبت مدينة كامايشي التي تمثل مركز صناعة الصلب في اليابان دورا كبيرا في تحديث وتسليح الدولة، بحيث أصبحت أول هدف للسفن الحربية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية. وخلال فترة ازدهار اليابان عقب الحرب العالمية، ازداد عدد السكان في المدينة، حيث استطاعت تجاوز الدمار الذي خلفته موجات التسونامي مرتين. وتشتهر المدينة بالمأكولات البحرية الشهية وطرق شركة «نيبون ستيل» أحد مالكي فريق الرغبي، في الفوز.

ومع تراجع حظوظ اليابان خلال العقدين الماضيين، بدأت أحوال المدينة تتدهور بشكل أسرع وأقوى. فقد انخفض عدد سكانها الذي كان يبلغ مائة ألف منذ جيلين إلى أقل من 40 ألفا وأكثرهم من كبار السن. ولا يتوقع أن يبقى الكثيرون ممن فقدوا منازلهم وأعمالهم.

لكن تعهدت تسوياكو بأن ترقص وتغني مرة أخرى في مدينة كامايشي؛ فالمرأة الجميلة الشهيرة تجيد الرقص والعزف على آلة الشاميسين، بينما كانت فتيات الغيشا الأخريات يجدن فقط العزف على تلك الآلة على حد قول ستسوكو كانازاوا، التي تمتلك أسرتها مطعم «سايوايرو» الذي تقدم به عروضها الفنية.

تعد تسوياكو بالنسبة للمحافظين على الثقافة، حارسة الثقافة المحلية التي كانت تتلاشى بسرعة. ويعد آخر مطعم «ريوتي» في المدينة هو أكثرهم تفردا، فقد شيد عام 1894 على أعلى بقعة من منطقة تزخر بالحانات وبيوت الدعارة ومطاعم الـ«ريوتي» الأخرى. وفي الوقت الذي أطاحت فيه موجات التسونامي بتلك الأماكن التي تجاور مطعم «سايوايرو»، لم تصل إلى الطابق الأول منه. وقد بدأت تسوياكو التدريب في ذلك المطعم وهي في الرابعة عشرة من العمر. وتقول: «لقد أحببت الرقص وأردت أن أصبح واحدة من أشهر فتيات (الغيشا) في كامايشي».

لكن كانت الحقيقة التي كان يُتهامس بها لعقود داخل منزل الأسرة أكثر مرارة على حد قول ساتوشي إيتو، ابنة أخي تسوياكو، حيث تقول إن والد تسوياكو كان يدير مشروعا صغيرا وكان له صلة بعصابة ياكوزا في اليابان. وأضافت ساتوشي التي تبلغ من العمر 63 عاما والتي كانت تعيش مع عمتها هنا قبل أن تنتقل إلى مأوى للاجئين: «لقد كان يقوم بصيانة الطرق ويستعين بتلك العصابة للسيطرة على بعض المناطق. كان يفترض أن يسألها والدها إن كان هذا النمط من الحياة يلائمها، لكنه قام بذلك ليحصل على المال اللازم لتسديد جزء من ديونه».

وبعد زواجها من صاحب مطعم سوشي وإنجاب فتاة وطلاقها من زوجها، ذهبت تسوياكو إلى طوكيو لتعلم الرقص على يد معلم شهير. وبعد عودتها إلى مدينة كامايشي، كان هناك طلب كبير من مطاعم الـ«ريوتي» على العروض الفنية التي تقدمها تسوياكو وفتيات «غيشا» أخريات مع بداية ازدهار الحالة الاقتصادية في المدينة في فترة الخمسينات. وفي مطعم «سايوايرو» شغل مسؤولون تنفيذيون في مجال صناعة الصلب بعض الغرف بينما كان يقيم أصحاب سفن صيد حفلات في غرف أخرى على حد قول ستسوكو كانازاوا. لكن كما سبق اقتصاد المدينة ازدهار الاقتصاد الياباني، بدأ النشاطان الأساسيان في المدينة يشهدان تراجعا في السبعينيات. وبدأت شركة «نيبون ستيل» في نقل نشاطها خارج المدينة وإغلاق أفرانها تماما عام 1989. وتقلص نشاط الصيد، حيث دفع إصدار قوانين جديدة تحدد المناطق الاقتصادية سفن الصيد بعيدا إلى طوكيو.

وفي عام 1978، بدأت الحكومة اليابانية في بناء أعمق وأغلى حاجز أمواج في ميناء كامايشي لحماية المدينة من موجات التسونامي ولتوفير فرص عمل في الوقت ذاته.

* خدمة «نيويورك تايمز»

* شارك في إعداد التقرير كانتارو سوزوكي