أميركا تشارك في تنظيف تربة ملوثة نوويا في جنوب إسبانيا

اتفاق إسباني ـ أميركي للتخلص نهائيا من إشعاعات نجمت عن حادث طيران في بالوماريس عام 1966

مزارع يقطف الفاصوليا في بالوماريس حيث وقع حادث انتشار البلوتونيوم المشع عام 1966 (نيويورك تايمز)
TT

بعد 45 سنة على تفادي كارثة نووية محققة في حادثة القوات الجوية الأميركية، أصبح مواطنو قرية بالوماريس في جنوب إسبانيا أكثر تفاؤلا في أن تتمكن الحكومتان، الأميركية والإسبانية، من التخلص نهائيا من التربة الملوثة بالإشعاع. وقد زاد تفاؤل سكان المدينة في أعقاب كلمة وزيرة الخارجية الإسبانية، ترينيداد خيمينيث، في جلسة أمام مجلس الشيوخ الإسباني في فبراير (شباط)، بينما تم اعتباره تعهدا صريحا من قبل الحكومة الإسبانية بأن تنظيف بالوماريس أولوية بالنسبة للحكومة. وفي أعقاب أيام قلائل من هذه الكلمة أرسلت واشنطن فريقا من الخبراء إلى بالوماريس للمساعدة في تقييم الأوضاع، وتبين كيفية المساعدة في تنظيف أكثر المناطق إشعاعا في غرب أوروبا.

في أعقاب الزيارة، صرح غلين بودونسكي، مدير قسم السلامة والأمن والصحة في وزارة الطاقة الأميركية، أن الحكومتين تحاولان الوصول إلى أفضل الخيارات في التعامل مع قضية التربة الملوثة بالإشعاع. وقد دعت واشنطن وفدا إسبانيا لزيارة مواقع إعادة التأهيل الأميركية، على الرغم من أنه لم يتم الاتفاق على موعد محدد بعد. وعلى الرغم من أن الموقف يختلف كثيرا عن التطورات الجارية في المنشأة النووية في اليابان، فإن حالة بالوماريس تسهم في إبراز الطرق التي يمكن أن تساعد من خلالها الأطلال المشعة في التأثير على مجتمع لعقود طويلة.

وكان أكثر من 5000 برميل من التراب الملوث قد تم شحنها من بالوماريس إلى كارولينا الجنوبية في أعقاب اصطدام عام 1966 عندما اصطدمت طائرة قاذفة قنابل بطائرة إعادة تموين، وهو ما نجم عنه سقوط 4 قنابل هيدروجينية أطلقت اثنتان منها البلوتونيوم المشع في الهواء، على الرغم من عدم انفجار أي رؤوس حربية. وتصر الحكومة الإسبانية على أن البلوتونيوم المتبقي ينبغي شحنه إلى الولايات المتحدة، لأن إسبانيا لا تملك أي منشأة مؤهلة لتخزين مثل هذه التربة. لكن السلطات الإسبانية وجدت أن تصريح العمل في ذلك الوقت، الذي تم تحت إشراف الجيش الأميركي، لم يكن كافيا وشابه بعض القصور، وهو ما عمل على توتر العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومع تواتر المؤشرات بشأن زيادة مستويات الإشعاع في المناطق المحيطة ببالوماريس خلال السنوات الأخيرة، أجرت وكالة الأبحاث النووية الإسبانية في عام 2008 مسحا شاملا للموقع. وكانت هناك مخاوف من إمكانية تحول البلوتونيوم إلى مواد مشعة أخرى مثل الأمريسيوم التي تطلق أشعة «غاما» التي تتغلغل لمسافة أطول ويصعب إيقافها.

بيد أنه حتى الآن لم تظهر الفحوصات الطبية المنتظمة للسكان في بالوماريس أي آثار جانبية عكسية من التلوث المحيط بهم.

ويقول عيسى كايتشيدو، عمدة مدينة كويفاس ديل ألمانزورا، المدينة المجاورة التي تخضع بالوماريس لسلطاتها القضائية: «على الرغم من ذلك، فإن المشكلة الأكبر لا تتمثل في ما حدث حتى الآن، لكن فيما قد يحدث في ما بعد هنا؛ فلا يمكننا أن نترك أطفالنا وجيلنا القادم عرضة لخطر يعلم الجميع أنه يتزايد».

وكانت الحكومة الأميركية قد قدمت بعض التعويضات لإقليم بالوماريس، شملت إعانة مالية بقيمة 150.000 دولار في عام 1968 لتحديث منشآت الماء وتمويل نفقات الفحوص الطبية للقرويين. كما دفعت السلطات الإسبانية لملاك الأراضي مقابل مصادرة الأراضي التي تعتبر سامة. لكن التعويضات المالية لا تزال قضية شائكة، وبخاصة حول قدر الأموال التي دفعتها السلطات الإسبانية لملاك الأراضي. وعلى الرغم من ذلك، لم تعد بالوماريس مجتمعا فقيرا زراعيا، فعندما سقطت القنابل يقول المطورون العقاريون إن المناطق الساحلية الأخرى تم تطويرها بصورة أسرع خلال عقد الازدهار العقاري الذي شهدته إسبانيا لأنها لم تصلها نسبة من التلوث. وتسعى شركة «المنزورة» للتطوير العقاري إلى الحصول على 9 ملايين يورو من الحكومة الإسبانية كتعويض، بدلا من الـ20.000 يورو التي تزعم الحكومة أنها عرضتها. والسبب هو أن قطعة الأرض التي تم استخراج التصريح لها لبناء مركز تجاري وعقارات سكنية تمت مصادرتها من الشركة بسبب تقييمات السلامة الصحية. وقال فرازر برياني، مدير التخطيط في شركة «المنزورة»: «عندما اشترينا قطعة الأرض في عام 1988 أخبرنا فجأة في عام 2007 أن الأرض ملوثة بالإشعاع، وكنا في ذروة فترة الانتعاش الاقتصادي عندما أبدينا استعدادنا للشروع في الإنشاءات، حيث تعمل الشركة في المنطقة منذ 25 عاما ومشاريعها هناك تضم منتجع غولف يطل على منطقة بالوماريس». ويرى برياني أن «أول الأخطاء التي تم الوقوع فيها خلال عملية التنظيف الأولية كانت حرق محاصيل الطماطم الملوثة التي أسهمت في انتشار الإشعاع. وهو ما برز إلى العيان في عام 2007 فقط عندما تم الكشف عن الوثائق الخاصة ببالوماريس». وأضاف: «في تلك الفترة لم نتوقع أن يصل التلوث الإشعاعي إلى هذا الحد من القنبلة النووية عبر الدخان. والآن عرفنا ذلك». وتقول الحكومة الإسبانية إن تصريح العمل الأصلي لم يكن غير كاف، لكنها لا تزعم محاولة التلاعب. وتقول تيريزا منديزابيل، المستشارة في وكالة الطاقة النووية الإسبانية: «يجب علينا الاعتراف بأن الأميركيين قاموا بكل ما بوسعهم في تلك الفترة، في الوقت الذي لم تكن هناك أي تشريعات في أي مكان في العالم بشأن الحماية من الإشعاع». وفي أعقاب انتهاء المسح في عام 2008، تم تقسيم الأرض الملوثة بالإشعاع إلى 3 أقسام رئيسية تغطي مساحة 40 هكتارا أو ما يقرب من 99 فدانا، البعض منها قريب من منازل خاصة، بالإضافة إلى حقول ودفيئات زراعية.

أما القسم الأكثر انحدارا من الدغل فقد تمت إقامة سور حوله عوضا عن تركه دون أسوار، مما سمح للأغنام بعبوره الشهر الماضي، حيث التقطتها كاميرات مصوري الصحف، لكنها لم تقدم على نشرها بحسب وكالة الطاقة النووية الإسبانية، وفي أعقاب نشر الصور الوكالة تقدمت بشكوى إلى الشرطة ضد راعي الأغنام. غير أن بعض السكان المحليين يبدون قلقا إزاء إعادة إحياء النقاش السياسي بشأن بالوماريس، خشية أن يأتي بنتائج عكسية، في الوقت الذي تسعى فيه المدينة للتحول إلى محور اقتصادي أوسع نطاقا. وحتى الثمانينات من القرن الماضي لم يكن إنتاج المدينة من الحاصلات الزراعية من الطماطم والخس والبطيخ يسجل عليه اسم بالوماريس. ويقول بارتولومي بيريز، صياد متقاعد (71 عاما): «نجونا من تلك الكارثة ذلك اليوم وتمكنا من التعايش مع المشكلة، لذا لا تنكئوا الجراح مرة أخرى». وكان بيريز قد عاد إلى الشاطئ في أعقاب وقوع الاصطدام صباح يوم السابع عشر من يناير (كانون الثاني) 1966، ثم انضم إلى فريق البحث عن طاقم الطائرتين، حيث قتل 7 بين أفراد طاقمها الـ11، حيث لم يعثر سوى على أشلاء متناثرة لهم. وأضاف بيريز: «لم يكن هناك من سبيل لمعرفة هوية هؤلاء الأشخاص، أو إدراك مدى الإهمال في التقاط أشلاء الجثث دون ارتداء قفازات وأقنعة». وقال كاتشيدو، عمدة كويفاس الذي كان بين الأطفال الذين كانوا يتجولون وسط الحقول التي جمعت منها مقاعد الطائرة وقطع الحطام الأخرى: «الناس هنا فقراء للغاية حتى إن الكثيرين منهم لا يملكون مقاعد في منازلهم، ولذا يحاولون التأقلم مع الوضع بأي شكل من الأشكال». ومع الاعتقاد بأن واشنطن ومدريد ستنهيان الاتفاق السياسي قبل نهاية العام حول تنظيف بالوماريس، كما توقع السكان المحليون، ترى تيريزا منديزابيل، أن الانتهاء من تنظيف المنطقة بشكل كامل سيتطلب 3 سنوات يبدأ بإنشاء منشأة صناعية لمعالجة التربة قبل شحنها. لكن على الرغم من طول الانتظار، فإن سكان بالوماريس عازمون على إنهاء ما وصفه عمدة المدينة خوسيه بيريز، معاملة جديرة بمواطنين من الدرجة الثانية. وقال بيريز: «أنا على يقين من أنه إذا سقطت هذه القنابل بالقرب من مدريد أو في أي مكان قريب منها وأقل انعزالية من بالوماريس لكانت هذه المشكلات قد حلت منذ زمن بعيد».