رئيس الجهاز المصري للمحاسبات: الثورة تحولت إلى «سوق عكاظ».. وترشحي للرئاسة سابق لأوانه

المستشار جودت الملط لـ«الشرق الأوسط»: أرسلت للبرلمان ألفي تقرير عن مخالفات المسؤولين طوال 12 سنة

المستشار جودت الملط متحدثا لـ«الشرق الأوسط» (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

حذر المستشار جودت الملط، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في مصر، من تحول ثورة «25 يناير»، التي أطاحت بنظام الرئيس السابق حسني مبارك، إلى «سوق عكاظ»، لكل من يريد أن يقفز على ما أنجزته هذه الثورة أو بالمزايدة عليها بكلام مرسل بلا أدلة، وقال، في حوار مع «الشرق الأوسط»، إنه لا يتحمل مسؤولية تراكم المخالفات والفساد في الفترة الماضية؛ لأنه قام بدوره الذي يخوله له القانون، وأرسل ألفي تقرير إلى مجلس الشعب (البرلمان) أيام حكومتي الدكتور عاطف عبيد والدكتور أحمد نظيف، منذ عام 1999، إلا أن البرلمان لم يتحرك ولم تكن هناك «حياة لمن تنادي».

وأضاف الملط أنه ليس من الغريب أن يحاول المتضررون من تقارير جهاز المحاسبات في السنوات الماضية قتله أو إسكات صوته «لأنني المسؤول عن كشف الفساد»، لافتا إلى أن جهاز المحاسبات تعرض لمحاولة لحرقه؛ لأن من حاولوا ذلك كانوا يريدونه أن ينكفئ لصالح الثورة المضادة.

ورفض المستشار الملط الأصوات التي تسعى إلى إلقاء مسؤولية تفشي الفساد في البلاد خلال حكم النظام السابق على جهاز المحاسبات، قائلا: إن الجهاز ليست له سلطة تنفيذية، وإنما هو كان يقدم تقاريره للجهات المعنية التي حددها له القانون، وعلى رأسها رئيس الجمهورية والبرلمان ومجلس الوزراء.وعن فرص ترشحه لرئاسة الجمهورية، خاصة بعد ما تردد عن عزم حزب الوفد ترشيحه لهذا المنصب الرفيع، رفض المستشار الملط نفي «هذا الكلام» أو تأكيده. وإلى تفاصيل الحوار..

* شُنت ضدك حملات تردد فيها أنك لم تتخذ أي إجراء ضد تجاهل المسؤولين لتقارير المجلس طوال حكم مبارك ويقولون إن هذا تسبب في تفشي الفساد، ويتساءلون: لماذا لم تتقدم بالاستقالة في ذلك الوقت؟

- أنا الذي يجب أن أسال الآن، على سبيل المثال، مجلس الدولة، الذي أصدر أحكاما ببطلان انتخابات مجلس الشعب الأخيرة ولم ينفذ منها شيء وراحت الحكومة محكمة عابدين واستشكلت بطريقة غير قانونية.. ولو أخذنا هذا المنطق المغلوط كان على قضاة مجلس الدولة أن يستقيلوا. وكل قاضٍ أصدر حكما ولم ينفذ عليه أن يستقيل. القضاء المدني الذي يقر أن هناك الكثير من الأحكام التي أصدرها ضد شخصيات مهمة أو غير ذلك ولم تنفذ.. جميع مواقفي موثقة ولدي فهرس بجميع تقارير الفساد التي أرسلتها (للجهات المعنية). مهمة القاضي إصدار الحكم وليس تتبع التنفيذ. أين أصحاب الرأي والقلم الذين حاربوا كثيرا؟ والنتيجة أتى يوم 25 يناير (كانون الثاني) ولم يأت منهم.. لماذا لم يستقيلوا؟ ولو اعتزل كل الشرفاء، لمن نترك البلد؟ وهذا سؤال ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. هل استقالة جودت الملط هي التي كانت ستصلح الدولة؟ ربما بقائي في مكاني كان سببا من الأسباب التي عرف بها الرأي العام عن ملفات الفساد فكانت بمثابة بذرة ومجرى من مجاري الثورة.

* هناك اتهامات للجهاز تقول إنه لم يؤد مهامه على الوجه الأكمل في ردع الفساد والتصدي له.. ما رأيك؟

- هذا الاتهام باطل. ويجب أن يعرف القاصي والداني ما هي مهام الجهاز المركزي المصري للمحاسبات، هو هيئة مستقلة ذات شخصية اعتبارية عامة تتبع رئيس الجمهورية وتهدف أساسا إلى تحقيق الرقابة على أموال الدولة والوزارات والمصالح والهيئات وشركات القطاع العام والحافظات الإدارية... إلخ. والتعاون مع مجلس الشعب في القيام بمهامه في هذه الرقابة. بعض الأقلام والأشخاص حول اختصاص الجهاز المركزي للمحاسبات إلى سلطة تنفيذية، لكن رئيس الجهاز حينما يتكلم أو يتصرف يكون في ضوء القانون، ولا يتصرف بصفة شخصية.. مجلس الشعب هو المسؤول عن مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، وأسلحته متعددة للردع والحساب، ابتداء من السؤال، وتشكيل لجان للبحث عن الحقائق، وسحب الثقة من رئيس الوزراء.. أنا مهمتي التخديم على مجلس الشعب، وقد أرسلت 1000 تقرير في ظل حكومة نظيف ومن قبل 1000 في حكومة عاطف عبيد، الذي توليت رئاسة الجهاز يوم توليه رئاسة الوزراء. ليس من اختصاص الجهاز المركزي للمحاسبات سحب الثقة من رئيس الوزراء أو المحاسبة السياسية. أنا أتبع رئيس الجمهورية بصفته السلطة التنفيذية والحكم بين السلطات وبصفته رئيسا للدولة.

* هل هناك تعمد للهجوم على الجهاز وتشويه صورته، أم أن الهجوم مقصود به شخص جودت الملط؟

- بالتأكيد موجه للجهاز؛ لأن الشكاوى التي تقدم للنائب العام اليوم يطلب من الجهاز تقارير عنها. فعندما يأتي من يكسر ويضعف هذه التقارير ويلقي عليها بظلال من الشك سيؤدي هذا إلى تشكك المحكمة والقاضي في صحتها.

* جميع تقارير الجهاز يكتب عليها «سري للغاية».. إلى متى ستظل هذه الكلمة ملاصقة لتقارير الجهاز؟

- إلى أن يتم تعديل القانون.. فالقانون الحالي هو ما جعل تقارير المجلس المركزي للمحاسبات سرية وغير معلنة وترسل إلى أشخاص بعينهم، ولا مانع لدي أن ترفع كلمة «سري للغاية» عن التقارير ويتم نشرها أيضا على الملأ؛ فهذه التقارير لصالحي، فنكون مثل أميركا وبعض الدول، وهذا سيظهر عملي ولا يأتي من يقول لي لماذا لم تحاول النشر من قبل؛ لأن القاضي يعمل في ضوء القانون ولا يعمل قانونا خاصا به.

* ما الجهات التي يسمح لك القانون والدستور بإرسال التقارير لها؟

- ليست لي حرية مطلقة فيمن أرسل لهم التقارير. نص القانون بالتحديد وبالحصر وليس المثال، على رأس من أرسل إليهم التقارير رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب، ورئيس الوزراء ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، والوزراء كل فيما يخص مخالفات وزارته. وقد وقفت أمام مجلس الشعب 12 مرة لعرض التقارير الصارخة بالمخالفات ولا حياة لمن تنادي.. هل رأى أحد رئيسا للجهاز قبلي يقف أمام مجلس الشعب في كل مرة من ساعة إلى ساعتين يعرض المخالفات وسلبيات الحكومة؟ وقد أرسلت هذا كله إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

* ألف تقرير قدمتها للمسؤولين في حكومة نظيف تتضمن مخالفات.. كم منها تم اتخاذ قرارات بشأنه وعُرض على مجلس الشعب؟

- ما عرض على مجلس الشعب يعتبر عُشر ما تقدمت به. وتم الرد عليه بالإجابة الشهيرة «الانتقال إلى جدول الأعمال (أي الانتقال لمواصلة جلسة مجلس الشعب دون اتخاذ أي إجراء فيما ورد في تقارير جهاز المحاسبات)»، بينما كان يجب أن يكون مجلس الشعب مجتمعا بجميع لجانه الـ19، وهي ما تسمى «المطبخ الداخلي»، وبعدها الجلسة العامة لمجلس الشعب (للتعامل بجدية مع تقارير الجهاز).

* أين دور الجهاز من تضخم الثروات الذي نسمع عنه كل يوم من التحقيقات؟

- هناك ثروات وصلت إلى المليارات.. هذا حقيقي. لكن أنا كجهة مسؤولة لا تقدم لي إقرارات الذمة المالية. الكل يلقي اتهاماته على الجهاز. أين كنت وقت تضخم الثروات؟ أجيب عليهم: أنا لست الجهة التي تقدَّم لها إقرارات الذمة المالية. هذا من اختصاص «(جهاز) الكسب غير المشروع»، ويرأسه المستشار مساعد وزير العدل. الاتهامات أصبحت تلقى بالباطل وهناك من يقول لماذا لم تقم بتحريات. هذا ليس من اختصاص الجهاز (المركزي للمحاسبات).. هذا اختصاص «هيئة الرقابة الإدارية»، كما أنه ليس لي الحق في إقامة الدعوى الجنائية (أمام القضاء)؛ لأن الجهة الوحيدة التي من حقها هذا هي النيابة العامة والنائب العام. وبعد الثورة (في 25 يناير 2011) كثرت المقالات والاتهامات وهي ليست لإحقاق الحق ولكن لشيء في نفس يعقوب.

* كشفت عن كثير من قضايا الفساد.. فهل هناك ملفات لم تتطرق إليها؟

- كان شعارنا الدائم: الجهاز في قلب الأحداث. لم نترك بابا إلا فتحناه، وكشفنا عما خلفه. لم نترك موضوعا يمس ويهم المواطن المصري لم نتحدث عنه. عشرات القضايا تكلمنا عنها والأمثلة كثيرة، ومنها الاعتداء على أراضي الدولة، والعلاج على نفقة الدولة في الداخل والخارج، وقانون منع الاحتكار وحديد التسليح. منذ عام 2004 طالبنا بمنع الاحتكار. تكلمنا عن المشاريع القومية الكبرى التي أثبتت فشلها ولم تحقق عائدا، تكلمنا عن توشكي، وعن المبيدات المسرطنة، وإنفلونزا الخنازير والطيور، والعشوائيات، وحماية البيئة، والمخالفات الصارخة للمال العام.. وزراء باعوا لأنفسهم وأقاربهم أراضي. تكلمنا عن مشروع «مدينتي».. تكلمنا عن المشكلة التي تعرضنا لها باستيراد القطاع الخاص قمحا فاسدا، وتطرقنا لمخالفات الهيئات الرياضية والمجلس القومي للمرأة.

* مصر تمر الآن بفترة حرجة.. ماذا تحتاج لتجاوز المحنة؟

- مصر الآن في حاجة إلى الأمن، ثم العمل.. والعمل.. والعمل. الوضع يقتضي علينا إذا كنا نعمل وردية واحدة أن تكون اثنتين وثلاثا لكي نعوض توقف العمل. ومطلوب إعطاء الحكومة فرصة لتعمل، والتمهل عليها في تحقيق المطالب الفئوية؛ حيث إن هذه المطالب تسببت في ألا تعمل المصانع بطاقتها كاملة، والخدمات أصبحت سيئة، والتصدير توقف، وتراكمت علينا العقود، ويجب أن أحذر لأن الوضع الاقتصادي والمالي أصبح شيئا غير مريح وسيئا للغاية وأنا أتعمد التعبير الدبلوماسي في رؤيتي. وهذا ما كنت سأقوله في الحساب الختامي المفروض إلقاؤه (في البرلمان) في شهر مارس (آذار) الماضي، ولكن اندلعت الثورة.

* كيف ترى ثورة «25 يناير»؟

- ثورة مجيدة، ويجب علينا جميعا تحيتها واحترامها والاعتراف بأنها صنعت ما لم يستطع أحد فعله. الثورة بدأت من ميدان التحرير وتحولت الآن إلى سوق عكاظ. كل واحد يريد أن يركب على الثورة ويبدأ بالمزايدة بكلام مرسل بلا ورق. هذا يقول: قلت للرئيس. وهذا يقول: فعلت كذا. أقول لهم: أرجوكم لا تحاولوا سرقة أمجاد الثورة.

* ما الوصفة السحرية التي اتبعتها لكسب ثقة الرأي العام في زمن انعدمت فيه الثقة؟

- الرأي العام كان يساندني من أول يوم توليت فيه رئاسة الجهاز. فإن كنت أتبع منهج الحق، ولا يوجد لدي أي دافع للتستر على أي قضية فساد، وإلا كان لي نصيب من تورتة الفساد، ولكن طوال فترة خدمتي وأنا أسكن في شقتي ولا أملك غيرها.

* تعرضت لتهديد بالقتل وحرق مسكنك إذا لم تتوقف عن كشف الفساد.. من كان وراء هذه التهديدات؟

- بعض قيادات الجهاز تعرضوا لهذا في حالة عدم توقفهم عن إرسال التقارير للنائب العام. تحرير ألف تقرير هو كنز كبير ضد الفساد، وليس من الغريب أن يحاول المتضررون من هذه التقارير قتلي أو إسكات صوتي؛ فأنا رئيس الجهاز المسؤول عن كشف الفساد، وقد تعرض الجهاز لمحاولة حرق لأنهم كانوا يريدونه أن ينكفئ لصالح الثورة المضادة.

* من وراء الثورة المضادة في رأيك؟

- قلة من ذوي الأنفس الضعيفة، وبعض المنتمين إلى النظام القديم، يريدون إجهاض الثورة. وكل مواطن مصري شريف حزين على ما يراه من أفعال لا تنتمي إلى ثقافتنا.

* تم ترشيحك لانتخابات الرئاسة من قبل حزب الوفد.. ما صحة هذا؟

- لا أعرف عن هذا الموضوع شيئا لا من قريب ولا من بعيد، وقد قرأته في الجرائد مثلي مثل أي شخص.. وللآن لم يتواصل معي أحد من هذا الحزب.

* لكن هل سترشح نفسك لانتخابات الرئاسة؟

- الكلام في هذا الموضوع سابق لأوانه لا أنفي ولا أثبت، لكن حينما يفتح الباب سأقرر الأصلح.

* ما مواصفات رئيس الجمهورية القادم في رأيك؟

- أنا أثق في الشعب المصري وقدره 45 مليون مصري لديهم حق الانتخاب ومؤهلون ولديهم القدرة على الاختيار، فما يرونه صالحا سيكون صالحا في ظل انتخابات تتسم بالنزاهة، المصري لديه جينات يتوارثها من عهد الفراعنة، أضف إلى هذا أنه اليوم أصبح يجلس ليراقب القنوات ويتنقل بضغطة زر من الشرق إلى الغرب.

* قدم رئيس الوزراء عصام شرف اعتذاره لك على الهواء ورفع بعض الأهالي لافتات اعتذار.. ما وقع هذا في نفسك؟

- كان وقعه كبيرا جدا وغسل من أحزاني وهمومي؛ لأن الاعتذار عندما يأتي من الشعب فهو صادق، ومن رجل بقيمة وقامة عصام شرف كفاني تماما.

* كيف أصبحت رئيسا لـ«الجهاز المركزي للمحاسبات»؟

- التحقت بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية بعد ثورة عام 1952 مباشرة وتخرجت عام 1956 بتقدير عام جيد جدا، ولأن السلك القضائي كان يختار الأوائل فعملت بمجلس الدولة في العام نفسه، وبعد هذا كان من شروط الترقية الحصول على دبلومتين فاجتزتهما، وبعدها قمت بإعداد رسالة الدكتوراه عن «المسؤولية التأديبية للموظف العام» على يد الأستاذ الراحل عثمان خليل، وحصلت على امتياز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1967، وتدرجت في مختلف الوظائف بالمحاكم الإدارية والتأديبية، كما أنني عملت بإدارة الفتوى لرئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء والمحكمة الإدارية العليا، وبعدها تم اختياري بالإجماع رئيسا لمجلس الدولة وخلال عملي تم اختياري رسميا مستشارا قانونيا للشيخ زايد، يرحمه الله، وبعد انتهاء الإعارة عدت وكيلا ثم رئيسا لمجلس الدولة وأخيرا تقلدت منصب رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات منذ عام 1999 وتم التجديد لي 4 مرات نهايتها ستكون في أكتوبر (تشرين الثاني) المقبل.

* تم اختيارك رئيسا للمجموعة الدولية للمحاسبات.. كيف ترى الأمر؟

- كان هذا تكريما لمصر وللجهاز المصري المركزي للمحاسبات قبل أن يكون لي؛ فقد ترأست 3 مرات هذه المجموعة الضخمة التي تضم في عضويتها أميركا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا والصين وأميركا اللاتينية، وبعض الدول الآسيوية. جلست على المنصة بمفردي، إضافة إلى عضوية مصر في مجموعة الدول الأفريقية والقيام بدور إيجابي في التعاون مع هذه الدول. لقد تم انتخاب الجهاز المصري للمحاسبات رئيسا للجنة محاربة الفساد وغسيل الأموال لكفاءته وإتقان تقاريره. وأخيرا هل من المعقول أن نكرم دوليا ونهان محليا؟!