«ألف» و«لام».. حرفان يختزلان هوية مصر في دستورها ويثيران غضب الأقباط

السادات ناور بهما سياسيا لإرضاء الجماعات الإسلامية وتمديد فترة حكمه

TT

حينما قرر الرئيس المصري الراحل أنور السادات تعديل كلمة محددة في المادة الثانية من الدستور عام 1980، وهي كلمة «مصدر» إلى كلمة «المصدر» إرضاء للجماعات الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين، وضمان موافقتهما على تمديد فترة حكمه وقتها، لم يكن يتخيل أن تكون هذه المادة مثار جدل حاليا في مصر، حتى إن البعض وصفها بأنها قسمت المصريين إلى فريقين، ولوح بها البعض كـ«فزاعة» خلال عملية الاستفتاء التي أجريت مؤخرا على التعديلات الدستورية في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، رغم أنها لم تكن ضمن المواد المعدلة التي تم الاستفتاء عليها. صاحب صياغة التعديل الدستوري على المادة الثانية إبان رئاسة السادات المستشار د. محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة السابق، يروي لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «تبدأ حكاية تعديل المادة الثانية للدستور عندما طلب الرئيس الراحل السادات تعديلا في المادة الثانية للدستور التي تنص على أن (مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع) إلى وضع حرفي (ألف ولام إلى كلمة مصدر لتكون المصدر الرئيسي للتشريع). وقد اشترك في لجنة صياغة هذا التعديل 3 من الأقباط وقتها هم: وزير شؤون مجلس الشعب، ألبرت برسوم سلامة، والمحامي حنا نارو، والقانوني فهمي ناشد، وبرئاسة د. صوفي أبو طالب، رئيس مجلس الشعب وقتها، وقد اعترض الأقباط الـ3 على هذا التعديل بحجة أنه يجعل من الأقباط مواطنين من الدرجة الثانية ويفتح الطريق أمام إلزامهم بدفع الجزية وتمييزهم في الزي وحرمانهم من المناصب العامة، وذلك وفقا لمقولة بعض الفقهاء بأنه (لا ولاية لغير المسلم على المسلم)، واستنادا إلى آراء بعض الفقهاء، وبخاصة ابن تيمية، الذي يتبع المذهب الحنبلي في الإسلام، ولكن أبو طالب أكد لهم وقتها أن هذه المخاوف لا صحة لها، وأن التعديل لا يغير من مبدأ (لكم ما لنا، وعليكم ما علينا) ولا يعمل على تمييز الأقباط في المعاملة! فانسحب الأقباط الـ3 من اللجنة معلنين رفضهم للتعديل، وهو ما سبب أزمة دستورية وقتها».

يتابع المستشار الجمل: «كلف الرئيس السادات وزير الداخلية آنذاك، النبوي إسماعيل، بمعرفة أسباب هذه الأزمة ومعالجتها، فجاءني النبوي إسماعيل وسألني: هل إضافة (ال) إلى كلمة (مصدر) في المادة الثانية من الدستور يترتب عليه المساس بالمركز القانوني والدستوري للأقباط، أم لا؟ فقلت له: إن هذا التعديل لا يمس الأقباط ولا يوجد سند لمخاوفهم لأن مبادئ الشريعة الإسلامية موجودة في 4 مذاهب للسنة و12 مذهبا للشيعة، وهناك ركيزة هامة يجب الانتباه إليها، وهي أن الشريعة الإسلامية لا تطبق بقوة نصوص الدستور، ولكن تطبق بقوة المشرع، وبالتالي عندما يتم الإعداد لمشروع قانون لا بد من العودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية الموجودة في كل المذاهب وانتقاء الأحكام الواجبة الانطباق منها، فسألني النبوي إسماعيل: وكيف يتحقق ما لا يخيف الأقباط من هذا التعديل؟».

يقول الجمل: «قلت له هناك حلان لا ثالث لهما؛ الأول أن النص يتضمن ما لا يحتاج لنص، بمعنى أن الأقباط وغيرهم من غير المسلمين لهم أحكام دينهم وعقيدتهم دون أن يفرض عليهم ما هو ليس في الإنجيل أو العهد القديم في التوراة. الأمر الثاني أنه طبقا لنصوص الدستور المصري، وتحديدا المادة رقم 40، التي تنص على مبدأ المساواة بين المصريين وعدم التمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة، أو الجنس، أو اللون، مع التأكيد على أن المصريين سواء أمام القانون، وبالتالي لا نحتاج إلى نص يشرح هذا التعديل بشكل منفصل عن باقي أحكام الدستور التي تلزم المشرع المصري الالتزام بتطبيقها. ووافق السادات على الحل الثاني، وقمت بالفعل بصياغة المادة الثانية للدستور وفقا لهذا الحل، وبناء على مسودة تقرير تشرح هذا التعديل تمت الموافقة على تعديل المادة الثانية للدستور من قبل أعضاء اللجنة الأقباط الـ3».

أما عن أهمية هذا التعديل، فيكشف الجمل أن الرئيس السادات كان يريد من خلال هذا التعديل كسب رضا قوة التيار الإسلامي الذي أفرج عنه السادات لمواجهة التيار اليساري بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وكي يوافقوا كذلك على التعديل المقابل الذي يريد أن يضيفه في الدستور وهو إضافة حرف «الدال» إلى الجملة المتعلقة بفترة تمديد رئاسته لمصر، التي كان يقضي الدستور بأن تكون مدتها 6 سنوات، لتصبح فترة ولايته من «مدة» واحدة إلى «مدد» أخرى، وتم هذا بالفعل في فترة ولايته الثانية، ولكن القدر لم يمهله أن يرى نتيجة هذا التعديل، حيث اغتيل بعده بفترة وجيزة.

ويكشف الجمل عن مفاجأة مدهشة، وهي أن الجماعات الإسلامية لم تكن راضية عن هذا التعديل مثل الأقباط، قائلا: «المثير في الأمر أن إضافة (ألف) و(لام) إلى كلمة (مصدر) لم تكن مرضية كذلك لـ(الإخوان)، فحينما طلبوا هذا التعديل كان لهم مطلب محدد وجوهري ولا بديل عنه وهو إضافة جملة (المصدر الوحيد) وليس مجرد (ألف ولام) بل يريدون كذلك كلمة (الوحيد)، لتكون المادة الثانية للدستور (إن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الوحيد للتشريع والدستور)، لكن السادات رفض وقتها هذا الكلام لأنه مخالف للشريعة الإسلامية التي تعتمد في أساسها على (القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة)، بالإضافة إلى أحكام العقل والمصلحة العامة للمسلمين ومبدأ (لا ضرر ولا ضرار)، فكيف كان سيتم ذلك وفقا لجملة (المصدر الوحيد) التي تتعارض مع معطيات العصر وتطور الحياة في المجتمع الإسلامي».

ويشير الجمل إلى خبث هذا الطلب قائلا: «مما لا شك فيه أنه كان مطلبا خبيثا، فالجماعات الإسلامية كانت تريد من ورائه تحويل الدولة المصرية من دولة مدنية تساوي بين جميع أفراد شعبها إلى دولة إسلامية متشددة بحكم الدستور». وعما إذا كانت المادة الثانية للدستور لا يجب أن تمثل مصدرا حقيقيا للتخوف لدى الأقباط وفقا للآراء الدستورية القانونية، فإن الأنبا مرقص، أسقف شبرا الخيمة، ورئيس لجنة الإعلام في المجمع المقدس، يعلن صراحة أن الأقباط ما زال لديهم تخوف من هذه المادة على الرغم من إعلان البابا شنودة عن موقفه بأن الكنيسة لا تطالب بتغيير المادة الثانية من الدستور، ولكن الكنيسة تطالب بإضافة تعديل ملحق لها، ويتمنى أن يضاف هذا التعديل على الدستور الجديد، فيقول الأنبا مرقص: «نتمنى إضافة جملة (على غير المسلمين تطبق عليهم شرائعهم) كمادة ملحقة بالمادة الثانية للدستور»، ويشير مرقص إلى أن هذا الإلحاق تتمناه الكنيسة نظرا لما تواجهه (الكنيسة) من تجاهل لقوانينها في بعض القضايا ويتم التعامل فيها بقوانين الدولة.

ويشرح ذلك قائلا: «مثلا أحكام الطلاق في المسيحية، يرفع أحد الأقباط قضية برغبته في الزواج مرة أخرى أمام المحكمة، فيتم الحكم له بذلك، وذلك تطبيقا لقوانين الدولة، في حين أن الكنيسة تعارض ذلك وتقول لا يجوز، ويعد هذا المواطن مخالفا لقوانين الكنيسة وشريعتها».

من ناحيته يرفض د. ناجح إبراهيم، منظر الجماعة الإسلامية في مصر، هذا الإلحاق الذي تريده الكنيسة قائلا: «إن المادة الثانية من الدستور موجودة في الدستور المصري منذ عام 23، وشارك في وضعه وقتها 5 من الأقباط، على رأسهم الأنبا يوأنس، الذي أصبح بطريركا بعد ذلك في عهد البابا كيرلس، ولم تكن المادة الثانية للدستور محل خلاف طوال كل السنوات الماضية، فما الجديد اليوم؟».