السفير التركي بالقاهرة: تعرضنا لخسائر فادحة في ليبيا.. وعلاقتنا مع مصر في أوج مجدها بعد ثورة يناير

حسين بوطسالي لـ«الشرق الأوسط»: تركيا قدمت تضحيات في أفغانستان والبلقان والعراق واليمن كتعزيز لسياسة «صفر المشكلات» مع جيرانها

السفير التركي في القاهرة حسين عوني بوطسالي
TT

رغم أن مدة بعثته الدبلوماسية لدى مصر لم تتجاوز العامين، فإن السفير التركي في القاهرة حسين عوني بوطسالي يبدي اهتماما بالغا ومعرفة عميقة بكل التفاصيل الحياتية المصرية والعربية، وبخاصة عقب «ثورة 25 يناير»، وما تشهده المنطقة العربية من متغيرات متسارعة. ويؤكد بوطسالي أن العلاقات المصرية - التركية تشهد أوج مجدها عقب الثورة، وتمثل ذلك في مبادرة الرئيس التركي للحضور إلى مصر، كأول رئيس يزورها عقب الثورة.. مشيرا إلى أن جذور تلك العلاقات تمتد عبر التاريخ، رغم كونها شهدت فتورا في فترة التحرر من بقايا النظام العثماني. ويرى بوطسالي أن تلك العلاقات ليست تنافسية، بل تكاملية بصورة مثالية، إذ إن أوجه الاستثمارات في المجالات الاقتصادية والسياحية والثقافية مبشرة للغاية.. نافيا أن يكون هناك انسحاب للاستثمارات التركية بعد حدوث الثورة. وأكد بوطسالي أن هناك حملات مغرضة ومضللة لتشويه صورة وسمعة تركيا والتقليل من شأنها، ليس في المنطقة فقط بل أيضا على المستوى الدولي.

«الشرق الأوسط» التقت بوطسالي في السفارة التركية لدى مصر، التي تحتل قصرا قديما يبدو من طرازه المعماري الأصيل أنه يرجع إلى فترة العشرينات من القرن الماضي بحي باب اللوق في قلب القاهرة. وعلى مائدة قدم عليها الشاي بالطريقة التركية التقليدية في أكواب صغيرة، تشبه تلك التي يستخدمها المصريون في مناطق وسط القاهرة التاريخية.. وبينما يرتشف السفير الشاي من كوبه، كان الحوار التالي:

* كسفير لتركيا في القاهرة.. ما هو منظورك للأمور في مصر بعد «ثورة 25 يناير»؟

- جيدة للغاية، والدليل أن زيارة الرئيس التركي عبد الله غل لمصر في 3 مارس (آذار) الماضي، كانت الأولى من نوعها على المستوى الرئاسي لمصر بعد قيام الثورة وتنحي الرئيس السابق حسني مبارك. والزيارة كانت مبادرة من تركيا، تعبيرا عن مساندة وتضامن الحكومة التركية مع الشعب المصري والمجلس الأعلى للقوات المسلحة في هذه الفترة التاريخية الحاسمة.. وخلالها التقى غل المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري، ومجموعة من القيادات السياسية المصرية، وائتلاف شباب «ثورة 25 يناير».

* في اعتقادك، لماذا تم الاهتمام بالزيارة وإجراؤها بهذه السرعة؟

- لأن تركيا قد واجهت في تاريخها ظروفا مشابهة لتلك التي تمر بها مصر، من حيث حكم الجيش لفترة انتقالية وتيار ديني متصاعد والمطالبة بالدولة المدنية.. وتركيا أرادت أن تؤكد على مفهوم أنه في حالة واجهت مصر صعوبات أو عدم استقرار اقتصادي، فإن تركيا ستقف إلى جانبها، وأن إعادة إنعاش الاقتصاد المصري تعد من ضمن أولويات الأهداف التركية. وهو ذات السياق الذي شهد زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ولقاءه مع رئيس الوزراء المصري الدكتور عصام شرف، ومناقشاتهما في مختلف جوانب التعاون الثنائي بين مصر وتركيا.

* ولكن العلاقات المصرية - التركية شهدت فتورا ثابتا منذ قيام ثورة يوليو (تموز) عام 1952، فهل تغيرت النظرة المشتركة؟

- يجب النظر إلى التاريخ بنظرة محايدة، فإذا دخلت أجندات خاصة في الحديث عن التاريخ يصبح تاريخا مسيسا.. من الجائز أنه كانت هناك خلافات في الماضي، على خلفية أن أسرة محمد علي كانت آخر رموز الخلافة العثمانية في مصر، ولكن العلاقات المصرية - التركية تعود إلى ما هو قبل الخلافة العثمانية.. وتاريخ تعايش الشعبين قديم وعميق الجذور، فالشعبان المصري والتركي بينهما علاقات مصاهرة، ولم أكن أعرف قبل أن آتي إلى مصر أنها بهذه الكثرة.

أيضا أذهلني أن كل شيء في تاريخ مصر المعاصر شارك فيه الأتراك، من تغيير وتحديث في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، يحمل صدى طيبا لدى المصريين.. فمحمد علي كان مصلحا عظيما وقائدا عظيما يقدره المصريون، وبذلك فإن ما يجمع بين مصر وتركيا أكبر مما يفرقهما.

* وماذا عن التاريخ القريب؟ لماذا لم يحدث تقارب أوضح؟

- كانت هناك بعض الدوائر التي تدعي أن التقارب التركي الجديد في الشرق الأوسط، هو محاولة لإضعاف الوضع المصري.. ولكن على العكس فإن أهدافنا متشابهة ومتقاربة بالنسبة إلى المنطقة، مثلا من حيث تحقيق السلام العربي - الإسرائيلي، وسلامة المدنيين في ليبيا، والأوضاع في الخليج والبحرين واليمن والسودان.. وهذا كان جليا خلال لقاء وزير الخارجية التركي ورئيس الوزراء عصام شرف، كانت بينهما «كيمياء قوية».

* ما هو معنى «كيمياء قوية»؟ وما هو تفسيرها على أرض الواقع؟

- علاقة مصر بتركيا فريدة من نوعها، فلا يوجد بيننا أي نزاعات أو مشكلات من أي منطلق.. فمصر وتركيا ليستا دولتين متنافستين اقتصاديا، بل متكاملتان.. فما تحتاج إليه مصر موجود لدى تركيا، ومصر بوابة تركيا للشرق الأوسط وأفريقيا. وقد زاد حجم العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين بشكل سريع، ففي الوقت الذي كان يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود، وكانت معدلات النمو لا تزيد على 7 في المائة، كان التعامل الاقتصادي الثنائي بين البلدين يزيد على 30 في المائة كل عام.. وفي خلال خمس سنوات ارتفع حجم التعاون الاقتصادي من 400 مليون دولار إلى 3.2 مليار دولار.

* وماذا عن تخوف المستثمرين الأجانب من العودة إلى مباشرة أعمالهم بسبب عدم استقرار الأوضاع بعد 25 يناير (كانون الثاني)؟

- لم يغادر المستثمرون الأتراك مصر ولم يغلقوا المصانع في ظل اشتعال الأزمة.. وهم في غاية الصبر لعودة الاستقرار. ونحن نتفهم الأوضاع جيدا، ونتوقع تحسنها على الرغم من مواجهة رجال الأعمال بعض المشكلات، من أهمها بطء التعاملات البنكية، والقرار المصري بعدم تشغيل الأجانب في الفترة الحالية لمواجهة البطالة.

والقرار الأخير قد يعد، بشكل ما، فخا لا يجب أن تقع فيه الحكومة المصرية، ففي هذه الحالة قد يتخوف المستثمر الأجنبي من العمل في مصر في الفترة القادمة.. فالمصانع والشركات مليئة بالخبرات الأجنبية اللازمة لإدارة الأعمال وتدريب العمال المصريين، ولهذا فهذه «الكوتة» من العمالة الأجنبية يجب أن تظل في حدودها العادية، وهي نحو 10 في المائة من نسبة العمالة.. ولكننا في النهاية نحترم القرار المصري، فهم على دراية أكبر بشؤونهم واحتياجاتهم.

وعلى مصر أن تتوج ثورتها بالتقدم الاقتصادي، فمصر تعد المطبخ السياسي في المنطقة، وهي دولة جيدة للتعاون في مجال الاستثمارات الصناعية، بالذات في صناعة النسيج.. فمصر دولة منتجة للقطن وأسعار العمالة فيها تنافسية والكهرباء مدعمة، ولكن هذا يتوقف على عودة الأمن تدريجيا إلى الشارع المصري.

* وكيف تقيم التعاون التركي - المصري في المجال السياحي؟

- التقدم في هذا المجال لا يزال بطيئا عن التوقعات المنشودة، فالسياح الأتراك لمصر يناهز عددهم سنويا نحو 75 ألفا، والعدد مقارب أيضا بالنسبة إلى السياح المصريين لتركيا. وهذا لا يمثل شيئا كبيرا، فمصر تستقبل سنويا قرابة 12 مليون سائح أجنبي.

والوضع السياحي في مصر مميز، ففترة الموسم السياحي في مصر تزيد على تركيا بسبب أحوال الطقس في مصر.. فالموسم السياحي في تركيا لا يزيد على خمسة أشهر، حتى في أنطاليا التي تشبه شرم الشيخ في مصر، ولكن زيادة السياحة المتبادلة بين البلدين من أهم أهدافنا في الفترة المقبلة.

ومعظم السياح يأتون لدينا من دول الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا وألمانيا، وفي مصر أيضا يأتون من إيطاليا وبريطانيا.

* إذا كان بيننا كل هذا التاريخ المشترك، فلماذا لم ينعكس ذلك على الوضع الثقافي على سبيل المثال؟

- أحاول أن أفعل مثل هذا التقارب حاليا، وطلبت من مركز «يونس أمره» للثقافة التركية في القاهرة أن يتم تحديد أهم 50 كتابا مصريا وأهم 50 كتابا تركيا في مختلف المجالات، سواء كانت تاريخية أو أدبية أو روائية، وأن يتم ترجمتها باللغتين العربية والتركية في جدول زمني محدد، وبأسرع ما يكون. كما أن الحكومة التركية أدخلت اللغة العربية كمادة اختيارية للغات الأجنبية في مدارسها الثانوية، وأتمنى أن يحدث المثل بالنسبة إلى المدارس العربية.

* بمناسبة المجتمع التركي، ما هي حقيقة ما تشهده تركيا حاليا من حملات تبشيرية، قالت وسائل الإعلام إنها صنفت كإحدى أهم القضايا الأمنية؟

- هذه الأمور قد تحدث في مجتمعات كثيرة، وفي معظم الأحوال يتم تهويل بعض الأمور أكثر من حقيقتها.

* ما سر الاهتمام التركي بإجلاء المصريين العالقين في ليبيا؟

- هذا من ضمن الدلائل على عمق وقوة العلاقات المصرية - التركية، والتضامن التركي مع مصر عقب الثورة.. وقد قامت تركيا بإجلاء أعداد كبيرة من المصريين العالقين، وخاصة أن هناك أكثر من مليون مصري هناك. وقد طلبت السلطات المصرية من الحكومة التركية التعاون في إجلاء أعداد أخرى من المصريين من مدينة مصراتة الليبية، وقد طلبت تركيا من السلطات الليبية وقف إطلاق النار لبضع ساعات حتى يتمكن طاقم الإغاثة التركي من الدخول إلى مصراتة وإجلاء المصريين.

* بخصوص الشأن الليبي، ما تعليقك على الانتقادات اللاذعة التي وجهت إلى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بعد تصريحاته الأخيرة حول الوضع في ليبيا وعدم تسليح الثوار؟

- نحن نرحب دائما بالنقد اللائق، ولكن يجب أن نفرق بين التغطية الإعلامية المحترمة والمعلومات الخاطئة.. فهناك حملات مغرضة ومضللة لتشويه صورة وسمعة تركيا والتقليل من شأنها، ليس في المنطقة فقط بل أيضا على المستوى الدولي.

فتركيا قدمت العديد من التضحيات، ليس بالضرورة في ليبيا وإنما أيضا في أفغانستان والبلقان والعراق واليمن، لتحاول بناء أو تعزيز لغة الحوار كتعزيز لسياسة «صفر المشكلات» مع الدول المجاورة.

* يقال إن ذلك يعود إلى الخشية على استثمارات تركيا في ليبيا التي تقدر بأكثر من 15 مليار دولار؟

- نحن فعلا تعرضنا لخسائر فادحة في ليبيا، ليست مالية فقط وإنما هناك أيضا مشاريع واستثمارات كثيرة للبنية التحتية. ولو كانت تركيا تهتم بتعويض خسائرها فقط لكان وضعنا مختلفا كل الاختلاف. ولكننا جزء لا يتجزأ من حلف «الناتو»، والحكومة التركية تساند كلا من قرارات جامعة الدول العربية ومجلس الأمن.. والبحرية التركية موجودة في المياه الليبية، وتشارك في عمليات تأمين المدنيين. وقد قال رئيس الوزراء التركي أردوغان «إننا لا نقف في صف طرف في مواجهة الطرف الآخر، وإننا لا نريد أن يتم إراقة قطرة دم واحدة».. ولقد وضعنا أيدينا في النار لتوصيل المساعدات الإنسانية وإجلاء الرعايا المدنيين من هناك، فكيف سيتثنى لنا التفريق بين الثوار وقوات الحكومة وهم بالملابس المدنية؟ فنحن لا نراهم إلا من خلال الأقمار الصناعية.

* وما هو التدخل الأنسب من وجهة نظركم؟

- تركيا لا تحبذ اللجوء إلى استخدام العنف، وأردوغان قد خاطب المصريين وقت اندلاع الثورة ودعاهم إلى نبذ العنف.. وعندما نشبت الأزمة في ليبيا، خاطب رئيس الوزراء القيادات الليبية بالمثل، وأيضا كان الوضع بالنسبة إلى سورية.. ونحن نتابع خطة الإصلاحات التي قدمها الرئيس السوري حاليا.

وتركيا لن تشارك في تدمير ليبيا، ولا إراقة دماء الليبيين.. وأوضح أن ليبيا دولة شقيقة، وقد كنا دولة واحدة منذ عدة قرون.. لذلك يجب أن نتعامل بمسؤولية تجاه جيراننا، فنحن لسنا مثل دول أخرى. وبالطبع سوف نساعد الشعب الليبي، وقد أوضح أردوغان في الدوحة أننا في الوقت نفسه الذي يتم فيه وقف إطلاق النار وانسحاب القوات، سوف يتم توفير طرق وممرات إنسانية آمنة دائمة لتخفيف المعاناة عن الشعب الليبي، وأيضا سنقدم العون فيما يتعلق بالتغيير السياسي الذي ينشده الليبيون.

* وما موقفكم من تصريحات إسرائيل المهددة إذا قامت منظمات السلام بإطلاق «أسطول الحرية 2» في ذكرى الحادث الذي وقع في 31 مايو (أيار) من العام الماضي؟

- الوضع في غزة غير مقبول إنسانيا، فقد تحولت غزة إلى سجن مفتوح على مسمع ومرأى من العالم أجمع.. ولذلك يجب فك الحصار، وستواصل تركيا مساعداتها لغزة.

وتركيا ليست ضد الشعب الإسرائيلي، وإنما ضد ما اقترفته إسرائيل من أعمال وحشية تجاه الناشطين في حادث «أسطول الحرية»، وقتل المواطنين الأتراك، وانتهاك القانون الدولي. ولن تتغير سياستنا تجاه ذلك الشأن حتى تقدم إسرائيل اعتذارا رسميا وتقدم التعويضات اللازمة، فهذا من حقنا. وبالنسبة إلى المواطنين في غزة، فهم في حاجة ماسة إلى مساندة دول العالم.