العداء الفرنسي للنقاب.. تفسيرات عدة تتجاوز كثيرا الحاضر السياسي

الدولة عزت حظر تغطية الوجه لمبدأي العلمانية والمساواة.. لكنها قد تجد نفسها عاجزة عن معاقبة أي مخالف

منتقبة في فرنسا
TT

كثير من علماء الإسلام يقولون إنه لا يوجد دليل في القرآن الكريم يوجب على المرأة المسلمة تغطية وجهها.. فحتى أم المؤمنين، السيدة خديجة، أولى زوجات النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وسيدة الأعمال الناجحة، التي كانت، بكل تأكيد، تحافظ على حيائها، يُعتقد أنها كانت تظهر وجهها في الأماكن العامة. أما من الناحية التاريخية فعادة ما كانت النساء البدويات في منطقة الشرق الأوسط يغطين في كثير من الأحيان وجوههن، وأحيانا بنقاب مزين على شكل قناع يقطر بالقطع النقدية التي تعلن عن قيمة حساباتها المصرفية.

وأصبح الغربيون يشعرون بالحساسية تجاه المرأة المسلمة التي تغطي وجهها إلى حد كبير بسبب البرقع الذي فرضته حركة طالبان لقمع النساء في أفغانستان، كغطاء للجسم، مع ستار للعين للسماح ببعض الرؤية. وقبل سنوات من إثارة هذه القضية في الولايات المتحدة الأميركية، قامت ناشطات الحركة النسوية في فرنسا بشجب استخدام البرقع، ولاحقا بشجب التفسيرات المتطرفة الأخرى للإسلام في أفغانستان، بما في ذلك الرجم في مكان عام بتهمة الزنا، وهدم التماثيل البوذية وحظر الموسيقى. والآن، اتخذت الحكومة الفرنسية قرارا رسميا بحظر ارتداء النقاب.

لكن النقاب الذي يغطي الوجه في فرنسا مختلف.. فعلى الرغم من أن الكثير يطلق على ما ترتديه المرأة هنا البرقع، فإنه يسمى النقاب، وهو عبارة عن غطاء أسود من دون أي دلالة دينية أو تقليدية تتعدى ما تعطيه له من ترتديه. قد يكون بعض هؤلاء النساء متمردات ويطالبن بالسيطرة على أجسادهن والاعتراف بهن في الثقافة الغربية التي يرفضن قيمها الاجتماعية، وقد يكون رجال متسلطون قد أجبروا بعضهن على تغطية وجوههن، وقد يعتقد البعض الآخر أنهن مسلمات أفضل لأنهن يخفين وجوههن في الأماكن العامة، وبعضهن فرنسيات تحولن من المسيحية إلى الإسلام.

كون فرنسا جمهورية علمانية مثالية يجعلها نظريا تغض الطرف عن مسألة العرق واللون والدين، ويجعل الجميع سواسية أمام القانون، فلا يوجد هناك إحصاء أو بيانات لاستطلاع موثوق به عن السبب وراء ارتداء هؤلاء النساء للنقاب، أو حتى كم عددهن. (أفضل تقدير الحكومة يقول إن عددهن وصل إلى 2000 على أقصى تقدير).

فلماذا هذه الضجة كلها من كلا جانبي هذه القضية بشأن أقلية صغيرة من النساء اللاتي يرتدين ملابس غريبة المنظر في بلد يعتبر المقر الرئيسي للأزياء الغريبة في العالم؟ تعتبر الثقافة من هذه التفسيرات؛ ففي الثقافة الفرنسية، من المفترض أن تتقابل العيون في الأماكن العامة، وتدعو لمحادثة أو لمجرد تبادل تحية عن طريق النظر مع شخص غريب، أما بين المسلمين، فمن المفترض ألا تتقابل أعين الرجال والنساء، ولو عن طريق الصدفة، لا سيما في الأماكن غير العامة أو بين الغرباء.

وتعتبر النظرة المتبادلة بين شخصين مكونا كلاسيكيا في الأدب الفرنسي، وكانت موجودة منذ قرون في شعر الحب للشعراء الموسيقيين. ولا يعتبر التحديق في الأماكن العامة، لا سيما في باريس، علامة على الوقاحة، ويمكن قبوله كمجاملة حارة. إن «السوق البصرية للإغواء» هي تلك التي قام كل من باسكال بروكنر وآلان فينكيلكراوت بتعريفها في كتابهما الذي صدر عام 1977 بعنوان «الفوضى الجديدة في الحب».

وثمة كتاب آخر بعنوان «الشهامة الفرنسية» للكاتب كلود حبيب، المتخصص في أدب القرن الـ18، يقول: إن الشهامة الفرنسية التي تمتد لقرون «تفترض رؤية الإناث» و«فرحة الرؤية» وهي التي لا يمكن للفتيات المسلمات إظهارها أو لا يردن إظهارها.

ويقول حبيب: إن التقاليد الفرنسية قد شجعت، منذ فترة طويلة، الاختلاط بين الجنسين في المواقف الاجتماعية، مضيفا أن «النقاب يقطع دورة الدلال والثناء، من خلال الإعلان عن طريقة أخرى ممكنة للتعايش بين الجنسين ألا وهي: الفصل الصارم».

وهناك تفسير أكثر تداولا عن العداء الفرنسي للنقاب، وهو تفسير تاريخي وسياسي: الخوف والاستياء والرفض الفرنسي المتجذر «للآخر»، المهاجر والغازي والإرهابي المحتمل أو المسيء لحقوق الإنسان الذي يأكل ويشرب ويصلي ويلبس بشكل مختلف، ويرفض الاندماج في الطريقة الفرنسية. ولا يزال بعض الفرنسيين، خاصة من اليمين المتطرف، يؤمنون بأن «المهمة الحضارية» الاستعمارية الفرنسية كانت مهمة نبيلة، وأن الناس في المستعمرات السابقة، بمن في ذلك العرب في شمال أفريقيا، متشبثون بأمور رجعية، وهم الآن بصدد تصديرها إلى فرنسا.

وتقول ريبيكا روكيست، وهي عالمة أميركية متخصصة في العرق والدين في فرنسا الحديثة: «إن وجود النقاب يذكر الفرنسيين يوميا بفشل هذه البعثة؛ حيث يتم النظر إليه على أنه رفض لقيم الجمهورية الفرنسية».

ومن خلال ارتداء ملابس سوداء تغطي جميع أجزاء الجسم عدا العينين، يبدو أن هؤلاء النساء يردن أن يتم النظر إلى ملابسهن بدلا من وجوههن. ومع ذلك، تجنح المرأة في بعض أجزاء من العالم الإسلامي لمزيد من المرونة؛ ففي المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، حيث يطلب من النساء المسلمات تغطية أجسامهن وشعرهن في الأماكن العامة، تجد أن أغطية الوجه ليست إلزامية أو محظورة، ويمكن استخدامها كنوع من لعبة القط والفأر مع الغرباء. ومن بين أغطية الرأس المفضلة هناك: وشاح أسود طويل يصبح غير شفاف عندما يتم طيه مرتين، ويتدلى أحد طرفيه إلى الأمام، أما الطرف الآخر فيوضع على الكتف. وفي حالة نظر رجل غريب إلى وجه المرأة، تضع طرف الوشاح على وجهها لتغطيه، ويمكنها هي أن ترى من خلاله ولكن لا يمكن لأحد أن يرى وجهها.

وقد استخدم المسؤولون والمشرعون في فرنسا مزيجا من الحجج للدفاع عن قانونهم الجديد؛ حيث قال وزير الداخلية كلود غيان: إن القانون يدافع عن «مبدأين أساسيين: العلمانية والمساواة بين الرجل والمرأة». ومن بين الحجج القوية: أن أي وجه خفي يمثل تهديدا أمنيا محتملا، وعلى هذا الأساس لم يستثن القانون نقاب المسلمات بالاسم، لكن شمل جميع أغطية الوجه في الأماكن العامة.

من الناحية النظرية، يعني ذلك أن أي شخص يرتدي غطاء للوجه أو قناع المبارزة أو خوذة دراجة نارية تغطي كامل الوجه تمكن معاقبته، لكن السؤال الآن: هل سيتم ذلك؟ قد يشعر الفرنسيون بالصدمة في حال حدوث ذلك، وهناك استثناءات لبابا نويل في أعياد الميلاد ورواد الكرنفال على سبيل المثال.

وهناك سؤال آخر: هل ستضطر السائحات القادمات من الخليج العربي، اللاتي يسرفن ببذخ، على كشف وجوههن في الشانزليزيه؟ (في سويسرا، قال وزير العدل إيفلين فيدمر شلومبف إنه يريد حظر النقاب، بيد أنه صرح بأنه سيتم إعفاء السائحات القادمات من الخليج العربي من ذلك). وربما، كما يرى البعض، سيكون من النادر أن تتم معاقبة أي شخص في فرنسا، نظرا لمدى صعوبة تطبيق القانون بشكل عادل وموحد.

في الوقت نفسه، ستظل فرنسا هي فرنسا، الأرض التي يتم فيها الاحتفال بالأجساد العارية؛ حيث تحفل لوحات الإعلانات بالنهود والأرداف العارية، ولتشجيع النساء فوق سن الأربعين على التصوير بصدر عار، قامت 10 سيدات شهيرات، بمن فيهن النجمتان ميشلان شيف هيلين داروز وناتالي رايكل، مديرة أزياء سونيا ريكيل، بنشر صور لهما وهما عاريتان في مجلة ماري كلير قبل عامين.

وللاحتجاج على إصلاح سوق العمل عام 2006، كانت من بين أكثر الصور الملونة صورة لطالبة وهي تلوح بالعلم في بوردو وهي ترتدي زي ماريان، بقبعة فريغانية حمراء وبلوزة القرويين البيضاء. كما أن لوحة أوجين دولاكروا، الموجودة في متحف اللوفر، التي تعود للقرن الـ19، عارية الثدي، وتظل ماريان دائما رمز الوطنية المثالية للجمهورية الفرنسية.

* خدمة «نيويورك تايمز»