أحمد بن صالح لـ «الشرق الأوسط»: كنت أنتظر الثورة في تونس منذ سنوات

والجميع كانوا ينتظرون القطرة التي تفيض الكأس

TT

داعبت بن علي مرة قائلا: لا أستطيع أن أقول لك سيدي الرئيس فأنت تلميذي.. وأعتقد أنه لم يستطع فهم تلك الدعابة المنجي السعيداني يعتبر أحمد بن صالح، 85 سنة، شخصية مثيرة للجدل لدى التونسيين؛ فقد تحمل معظم الحقائب الوزارية في حكومة ما بعد الاستقلال، لكن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات، واتهمه بالخيانة العظمى بعد فشل تجربة اشتراكية قادها ودعا إليها في ما يعرف في الأوساط التونسية بـ«تجربة التعاضد»، فلم يكن أمامه سوى الفرار بجلده عام 1973، بعد قضائه خمس سنوات وراء القضبان.

يذكر أن بن صالح حرر بخط يده أول دستور للجمهورية التونسية، وهو مؤسس أول حزب معارض لبورقيبة تحت اسم «حركة الوحدة الشعبية»، التي لم تتمكن من الحصول على الترخيص القانوني في عهد بورقيبة، ولا في عهد خلفه زين العابدين بن علي.

والجديد هو أن بن صالح درس لزين العابدين بن علي، مدة سنتين في عقد الأربعينات من القرن الماضي. واتسمت العلاقة بينهما بالكثير من الجفاء حينما أصبح بن علي رئيسا للجمهورية، ورغم ذلك عفا عنه. بيد أنه قطع عنه أجرة التقاعد مدة 10 سنوات متتالية، كما أنه لم يف بوعده له في بداية حكمه بالترخيص القانوني لحزبه «حركة الوحدة الشعبية». «الشرق الأوسط» التقت بن صالح وأجرت معه الحوار التالي:

* هل كان أحمد بن صالح، الذي عايش التطورات الاجتماعية المختلفة في تونس منذ الاستقلال، ينتظر قيام ثورة بهذا الحجم؟

- بكل صراحة، كنت أنتظر الثورة في تونس، فقد امتلأت الكأس منذ سنوات، وكان الجميع ينتظرون القطرة التي تفيض كامل الكأس. تونس عاشت تقهقرا على جميع المستويات وفي كل الميادين، وعاشت تخلفا فظيعا على المستوى السياسي، وعلى مستوى السلوك العام، وظهر القمع المتواصل للناس. ولكن ما يؤسفني اليوم هو أن من يسيرون الثورة لا ينتمون إلى أية ثورة.

* هذا يقودنا إلى الانتقادات الكثيرة التي أبديتها حول الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، والطريقة التي تدار بها الفترة الانتقالية في تونس بعد الثورة..

- بالفعل لدي اعتقاد راسخ بأن ما يقوم به عياض بن عاشور في تلك الهيئة مضر بالبلاد، وهي تمارس الإقصاء على العديد من الشخصيات الوطنية، والعديد من الأحزاب السياسية المهمة.

*ولكن الهيئة، مع ذلك، تمكنت من الاتفاق على قانون انتخابات المجلس الوطني التأسيسي..

- هذا صحيح، ولكنني حتى الآن لم أفهم ما ورد في هذا القانون من ضرورة التناصف بين الرجال والنساء في الترشح. هذا وضع غير مفهوم، وانساقت له الهيئة على ما يبدو لاستفزاز التيارات الإسلامية داخلها، وفي الحياة السياسية. إن إقرار التناصف في الترشح يمكن أن يكون حصريا في بعض الولايات (المحافظات). نحن على وجه العموم غير موافقين على الاتجاه الذي تمضي فيه الهيئة، ومن المنتظر أن نعقد اجتماعا يوم 23 أبريل (نيسان) الحالي لاتخاذ مواقف نهائية مما يجري.

* وما وجهة نظركم حول انتخابات المجلس الوطني التأسيسي المزمع تنظيمها يوم 24 يوليو (تموز) المقبل؟

- رأينا أن لا تجري الانتخابات في تونس بعد ثورة 14 يناير( كانون الأول) الماضي، إلا من خلال دستور جديد. علينا أولا أن نحتكم إلى رئيس جمهورية مؤقت، وأن نواصل العمل بحكومة مؤقتة، وأن ننتخب برلمانا مؤقتا يرعى الثورة ويراقب أداء الحكومة إلى حين صياغة دستور جديد يعرض على الاستفتاء ثم يقع العمل به، وآنذاك تجري الانتخابات. هذه وجهة نظرنا وقد عرضناها في مبادرة «حركة الوحدة الشعبية»، الحزب الحاصل على الترخيص القانوني بعد الثورة. لا بد أن أشير أيضا إلى أنني كنت رئيس اللجنة العليا لإعداد الدستور بعد استقلال البلاد، كما أنني شغلت منصب النائب الأول لأول مجلس تأسيسي، وأنا من خط بيده إعلان الجمهورية.

* هناك من يرى أن «حركة الوحدة الشعبية» جزء من الماضي فقد تكونت رسميا منذ سنة 1975، كيف تردون على هذه الانتقادات؟

- من الخطأ الجسيم تصنيف حزبنا ضمن سياق الماضي. «حركة الوحدة الشعبية» أقدم حزب سياسي تونسي، وهي كذلك أول حزب معارض في البلاد، حزب تكون لمعارضة الحزب الاشتراكي الدستوري بقيادة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، ولكن لا بورقيبة ولا خلفه زين العابدين بن علي مكن هذا الحزب من الترخيص بالعمل السياسي. نحن عارضنا بورقيبة حين لم يكن أحد من التونسيين يجرؤ على مجرد مخالفته الرأي، واليوم ما زالت أطروحاتنا وبدائلنا الاقتصادية والاجتماعية قائمة الذات. نحن حركة ولسنا حزبا وسنعمل على التنمية والتجدد، ونسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي والاجتماعي لتونس، وحزبنا الوحيد هو الشعب التونسي.

* وما رأيك في كثرة الأحزاب السياسية التي ظهرت في تونس خلال الأشهر الماضية؟

- يمكنني تلخيص وضع الأحزاب السياسية في تونس حاليا ووصفه بكلمة وحيدة هي: «عيساوية» تختلط فيها الأصوات والألحان ولا تجد في نهاية المطاف صوتا واحدا قادرا على شدك إليه.

* قلتم إنكم كونتم حركة وليس حزبا سياسيا، وأن أطروحاتكم وبدائلكم ما زالت قائمة، فهل يعني هذا تواصل إيمانكم بالنمط التعاضدي (الاشتراكي) الذي طبق في البلاد في عقد الستينات من القرن الماضي، وتم التراجع عنه مع ما أفرز ذلك من تداعيات طالتكم شخصك؟

- هذا الموضوع يثير حساسية خاصة لدي. لقد تحملت مجموعة من المسؤوليات الحكومية من سنة 1957 إلى سنة 1967، وخرجت منها جميعا دون أن يأخذ أحمد بن صالح منها مليما واحدا لحسابه الخاص. وإذا رجعنا إلى تلك الفترة نلاحظ أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي سطر البرنامج الاقتصادي والاجتماعي لتونس ما بعد الاستقلال، وكنت آنذاك أمينا عاما للاتحاد، وتم عرض البرنامج على مؤتمر الحزب الحر الدستوري (الحزب الحاكم آنذاك)، وتمت الموافقة عليه. بن صالح لم ينفذ تجربة التعاضد بمفرده، بل كانت معه حكومة ورئيس جمهورية وغيرهم من المسؤولين.

* وما السبب، حسب رأيك، الذي جعل تلك التجربة على أهميتها تفشل في وقت وجيز؟

= التعاضد (الاشتراك في الملكية) أراد أن يرجع ما استرجعناه من فرنسا إلى أهله من التونسيين. ولكن العصابات التابعة للحزب الحاكم في أوائل عهد بورقيبة، خاصة زوجة الرئيس وسيلة بن عمار هي التي عجلت بفشل التجربة، فقد أرادت عدة أطراف الاستحواذ على معظم الضيعات الفلاحية، وأحست أن أحمد بن صالح يقف في طريقها فبثت البلبلة بين الناس من قبيل استحواذ الدولة على أراضيهم، وعدم إرجاعها لهم، وهو ما جعلهم يقضون على قسم كبير من الأشجار المثمرة، ويفشلون التجربة.

* ولكن الهجوم عليكم وصل إلى حد اتهامكم بالشيوعية في تلك الفترة؟

- أذكر أننا بدأنا التجربة من الشمال التونسي وغرسنا في تلك الأراضي 6 ملايين شجرة زيتون، في الشمال فحسب، وهو رقم قياسي في وقته، وعملنا على إحياء القطاع الفلاحي وكونا 350 وحدة تعاضد، ولأول مرة في تاريخ البنك الدولي، أذعن ومول تلك الوحدات الإنتاجية. وأنا إلى اليوم أتساءل كيف للبنك الدولي أن يمول وحدات إنتاج مهندسها شيوعي. أعتقد أن الكثير من السياسيين التونسيين أخافتهم التجربة وخشوا من نجاحها.

* وهل لعبت أطراف أخرى أدوارا ما في تأليب بورقيبة ضدكم؟

- اعتقد أن سفارة فرنسا في تلك الفترة لعبت دورا سلبيا فاحشا، فقد شعرت بالحقد تجاه تونس؛ إذ تغير ميزان العلاقات التجارية مع فرنسا في وقت قياسي وانخفضت نسبة التعامل التجاري معها من 76 في المائة إلى 34 في المائة، وهذا أمر لا يطاق بالنسبة لمصالح فرنسا.

* تعرضتم لحملات سياسية قوية، وقدمتم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، ماذا تذكر عن تلك الفترة؟

- تعرضت لتحقيق متواصل دام خمسة أيام، وكان بصحبتي اثنان من المحامين. أذكر أن القاضي كان يحمل بيده كتابا صغيرا اتضح في ما بعد أنه من كتب الدعاية السياسية لبورقيبة، وبه إحدى خطبه السياسية. قال بعد أن تمعن في الكتاب: «أنت غالطت الرئيس»، وقلت له في أحد التقارير إن إنتاج وحدات الإنتاج الاشتراكية أكثر من إنتاج وحدات القطاع الخاص، وهذا غير صحيح. وأجبته في الحين بأن تلك الأرقام تهم بعض مواسم الإنتاج الفلاحي وليس كل المواسم. ثم أغلق الكتاب وأصدر الحكم ضدي بالسجن مدة عشرة سنوات.

* ما شعورك الحالي تجاه الحبيب بورقيبة، الرئيس الذي اتهمك بالخيانة العظمى؟

- ما يؤلمني هو مواقف الشخصيات السياسية التي كانت موالية لفرنسا، فهي حسب تقديري من ألب الرأي العام التونسي ضدي. وما يغيظني في تلك السياسة هو اتهامي بمفردي بتلك النتائج، والحال أنها سياسة الحكومة بأكملها. ووصلني أن بورقيبة كان دائما يتحسر ويقول: «لقد فقدت أحمد بن صالح» بعد أن قاطعت العمل السياسي، وهذا في حد ذاته اعتراف بأهمية ما أنجزته من مشاريع ومن برامج، البعض منها لا يزل منتجا حتى اليوم.

* ولكنك لم تغفر لسياسة بورقيبة ذاك الخطأ المرتكب في حقك، وكونت «حركة الوحدة الشعبية» وأصدرت ما بات يعرف بـ«بيان» الخمس نقاط..

- حركة الوحدة الشعبية كوناها في المنفى وأقمنا لها فرعا في تونس كان يقوده إبراهيم حيدر، وبالفعل أصدرنا بيانا من خمس نقاط من أجل تحول ديمقراطي في تونس فكان غضب النظام، وتم سجن 20 تونسيا من أجل ذاك التحرك. أعتقد أن النظام التونسي خسر خلال تلك المرحلة فرصة إجراء إصلاحات قد يكون أثرها ما زال واضحا للعيان حتى الآن. والمفارقة أن اسم حزبنا أسند لأطراف أخرى تحت اسم «حزب الوحدة الشعبية» حتى يقع قطع الطريق أمامنا.

* ولكنكم واصلتم المعاناة من جديد في عهد بن علي، فكيف كانت معاملته معكم؟

- لقد أصدر الرئيس السابق بن علي عفوا رئاسيا شملني، وقابلته طوال 23 سنة من حكمه مرتين فحسب؛ إحداهما بدعوة شخصية منه، والثانية بمناسبة الاحتفال بمرور 50 سنة على إعلان الجمهورية، وكان ذلك سنة 2007. ووعدني في المرة الأولى بعد وصوله للحكم بفترة وجيزة بالاعتراف بـ«حركة الوحدة الشعبية» إلا أنه لم يفعل. وربما يعود ذلك إلى أنني حضرت صياغة وثيقة الميثاق الوطني من أجل بناء تونس، الذي وقعت عليها معظم القوى السياسية، ولكنني لم أوقع عليها، وهو ما جعل بن علي يقصي الحركة من العمل السياسي.

* درست لابن علي في معهد سوسة مدة سنتين، هل تذكر تلك الفترة بالتحديد؟ وما الذي تتذكرونه بالتدقيق عن «التلميذ بن علي»؟

- الحقيقة أنني لا أذكر شيئا عن تلك الفترة، فقد تخرجت على أيدينا أجيال كثيرة، ولكن بن علي أصر أكثر من مرة على أنني كنت أستاذه، وهو أمر محرج لي، خاصة أنه تميز ببعض الصفات السلبية التي رافقت حياته السياسية.

* وما انطباعاتكم الشخصية عن بن علي بعد أن أصبح رجل سياسة؟

- كان دائما يذكرني بأنني كنت أستاذه، ودرست له في معهد سوسة (الوسط الشرقي لتونس). وداعبته في إحدى المرتين قائلا: «لا أستطيع أن أقول لك: سيدي الرئيس. فأنت تلميذي». وأعتقد أنه لم يستطع فهم تلك الدعابة. كان أمام مقر إقامتي بالضاحية الجنوبية للعاصمة طاقم حراسة سرية مكون من ثلاثة أفراد يقفون على الدوام أمام المنزل، ومن المؤكد أن أحد التقارير الباطلة التي وصلت إلى بن علي، هو الذي جعله يحرمني من راتب التقاعد لمدة قاربت العشر سنوات. صحيح أن القضاء أنصفني ومنحني كل مستحقاتي، ولكن الضرر النفسي لاحقني وعائلتي لمدة طويلة.

* هل تنطبق على العلاقة بينك وبين بن علي، مقولة: «علمته الرماية فلما اشتد ساعده رماني»؟

- هي في الحقيقة الصورة التي تصح على علاقتنا، فقد منعني من العمل السياسي مدة طويلة دون مبرر قانوني.