الاحتجاجات في سورية في ازدياد لإنهاء عقود من العزلة

في انتظار كسر حاجز الخوف: خشية من تنكيل النظام إذا فشلت الحركة.. ومن الفوضى إذا نجحت

TT

عندما انضم سامر، الطالب الجامعي في دمشق، إلى أكبر احتجاجات مناهضة للنظام شهدتها العاصمة يوم الجمعة الماضي، جاش في صدره شعور لم يحس به من قبل، لم يكن خوفا رغم أنه كان خائفا في اللحظات الأولى. قال سامر الذي يبلغ من العمر 24 عاما ورفض الإفصاح عن اسمه كاملا خوفا من الانتقام منه «تشعر بالكرامة بعد أول صيحة وهتاف. تشعر بأنك مواطن بحق، مواطن سوري».

ومع أنهم لا يزالون يمثلون أقلية، فإن المزيد من السوريين ينضمون إليهم كل يوم في الشوارع، مخترقين حاجز الصمت الذي ظل يقيدهم لعقود. الكثير من المحتجين من الشباب مدفوعون بالحماس والشجاعة. لكن إذا نظرنا إلى الأمر بشكل أعمق سنجد أنهم أناس عاديون، يقولون إنهم على اتصال لأول مرة بعالم أكبر، عالم نجحت فيه الحركات المطالبة بالديمقراطية في تونس ومصر في التخلص من رؤساء مستبدين، في إشارة إلى أن هذا ليس ضربا من المستحيل. إنه عالم لا يشعر فيه المرء بالوحدة.

سمحت سورية، التي ظلت من أكثر المجتمعات عزلة في الشرق الأوسط لعقود، للشعب باستخدام شبكة الإنترنت ومشاهدة القنوات الفضائية التلفزيونية. وتلعب التكنولوجيا حاليا دورا حيويا ومحوريا في الحركة الديمقراطية، حيث تساعد مواقع مثل الـ«فيس بوك» و«تويتر» و«يوتيوب» و«سكايبي» أفراد الحركة على التهرب من مراقبة النظام لتواصلهم معا والمعلومات التي يتبادلونها. إن التواصل مع الكثير من السوريين داخل وخارج البلاد شحنهم بطريقة حيرت الجيل الذي ينتمي إليه آباؤهم.

يقول بهاء، طالب الفنون الجميلة في مدينة السويداء والذي يبلغ من العمر 25 عاما «كنت أعلم بالاعتقالات التي تحدث على مدى السنوات الماضية، لكنني لم أكن أجرؤ على التظاهر وحدي». وانضم بهاء للاحتجاجات الأسبوع الماضي للمرة الأولى منذ اندلاعها. وبعد مشاهدة صور المظاهرات السابقة على موقع «يوتيوب»، قرر وأصدقاؤه ألا يكتفوا بالمشاهدة. ويقول من خلال برنامج «سكايبي» الذي أجريت من خلاله مقابلات مع كثيرين في سورية من أجل هذا الموضوع «لقد كنت في غاية السعادة لأنها كانت المرة الأولى التي أطالب فيها بحريتي».

في البلاد التي شهدت ربيع الثورات كانت الأحداث الفردية عوامل تحفز على الثورة. ففي تونس كان الحدث هو إحراق بائع فاكهة بائس لنفسه، وفي مصر كان ضرب شاب قبض عليه في مقهى إنترنت حتى الموت والذي انتشرت صور جثته المشوهة. في سورية كان الحدث المحفز هو القبض على مراهقين وتعذيبهم لكتابتهم شعارات على الجدران ضد النظام في مدينة درعا. في كل مرة يصبح الأشخاص المنخرطون في الحدث رموزا للإحباط الذي يعانيه المجتمع.

يقول رامي خوري، رئيس معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية ببيروت «إنهم مثل روزا باركس، أشخاص رفضوا المعاملة غير الإنسانية في لحظة من لحظات الغضب، وتصدوا لها، وتحدثوا باسم ملايين من الناس». لكن بالنسبة إلى السوريين الذي ينقسمون بين سنة وشيعة ومسيحيين وأكراد ودروز، استغرق ترسخ الاشتياق للحرية وقتا أطول. ومن أسباب ذلك الامتنان لما قدمه إليهم النظام وهو الأمن، في وقت تنشب فيها الصراعات الطائفية في دول الجوار. لقد استغل القادة السوريون المخاوف من النزاعات الطائفية وتم رفع لافتات مكتوب عليها «الأمن والاستقرار» في مواجهة الاحتجاجات، في إشارة تحذيرية من أن إطلاق المزيد من الحريات سوف يؤدي إلى صراعات طائفية على الحدود مع لبنان أو العراق. عندما تولى بشار الأسد، الذي يبلغ من العمر 45 عاما، الرئاسة عام 2000، بعد وفاة والده حافظ الأسد، انعقدت عليه الآمال في القيام بإصلاحات سياسية، لكنه واجه انتقادات من منظمات حقوقية بسبب الاستمرار في انتهاج سياسة والده القمعية ضد المعارضين في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 22 مليون نسمة.

وردا على الاحتجاجات يوم السبت الماضي، وعد الأسد بإلغاء قانون الطوارئ الذي كان يسمح على مدى العقود الخمسة الماضية بالقبض على الناس من دون تهمة، والسيطرة على المعارضة. لكن صاحب هذا الإعلان تحذير من عدم التهاون مع الاحتجاجات بمجرد إلغاء القانون. وقد أعقب ذلك التصريح المزيد من الاحتجاجات. لكن حظي الأسد بدعم أكثر من الذي حظي به الرئيسان التونسي والمصري. والسبب في رأي خوري هو «الاستقرار. إذا لم تشعل ثورة، يمكنك أن تعيش حياتك بصورة طبيعية».

لم يشارك أكثر السوريين في الاحتجاجات بعد، إما لأنهم يدعمون النظام أو يخشون من التنكيل بهم في حال فشل الحركة، أو من الفوضى في حال نجاحها. يقول جوشوا لانديز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما «للسوريين الحق في الخوف من أن تكون هذه الدعوة من أجل السلام والحرية وهم وسراب. وكان هذا من أسباب تباطؤ السوريين واكتساب الحركة للزخم على نحو تدريجي، نظرا لأن الطبقة الوسطى تمثل الأغلبية الصامتة. لكنهم كلما شاهدوا هذه المقاطع المصورة للتنكيل الأمني، ازداد تمردهم». وتقول رزان زيتونة، المحامية والناشطة في حقوق الإنسان في دمشق، إنها مسألة وقت. وتضيف «إنهم يشاهدون وينتظرون كسر حاجز الخوف. يقول الكثيرون الله معكم، لكنهم لم يشاركوا بعد». يقول الكثير من السوريين والخبراء إن الأسد كان يستطيع منع انفجار بركان الغضب من خلال تقديم تنازلات خاصة بإرساء الديمقراطية مبكرا عوضا عن إطلاق النار على المحتجين، حيث قتل أكثر من 200 شخص أثناء المظاهرات بحسب تقارير بعض منظمات حقوق الإنسان.

ويقول أحد النشطاء السوريين، والذي يبلغ من العمر 30 عاما وهرب إلى بيروت حتى لا يقبض عليه «لقد بدأ الوغد في النهاية. لقد بدأ بإطلاق النار على المتظاهرين، ولم يعد الناس يخشون شيئا. لقد قُتل جيرانهم وأصدقاؤهم وأقرباؤهم. ما الذي من الممكن أن يحدث أكثر من ذلك؟».

في الوقت ذاته في بلد يعد فرض العزلة على الناس من أسباب بقاء النظام فيه، ساعد الأسد على جعل اندلاع الانتفاضات أمرا ممكنا، من خلال السماح بتقديم خدمة الإنترنت والقنوات الفضائية التلفزيونية بحسب قول لانديز. وكذلك أسهمت في ذلك البرامج التي قدمتها إدارة بوش لإدخال التكنولوجيا إلى سورية ودول أخرى من خلال منظمات تسعى لنشر الديمقراطية، مثل المعهد الديمقراطي الوطني والمعهد الجمهوري الدولي، كما يقول لانديز.

تسمح مثل هذه التكنولوجيا لرامي نخلة، البالغ من العمر 28 عاما، بقضاء أيام في شقته بشرق بيروت حيث يجمع روايات لسوريين من خلال برنامج «سكايبي» ويرسلها إلى مؤسسات إخبارية دولية تم طردها من سورية في بداية الاحتجاجات. ويقدم رامي، طالب العلوم السياسية الذي هرب من سورية في يناير (كانون الثاني)، نصائح مثل تخطيط طرق الهروب والتعاون، وكذلك يعيد نشر رسائل التهديد التي يتلقاها من النظام السوري على موقع «تويتر». جلس نخلة أمام جهاز الكومبيوتر المحمول الخاص به الأسبوع الحالي مع ناشط وصل مؤخرا إلى لبنان، ولا يزال الاثنان مختبئين من قوات الأمن السورية التي اختطفت في السابق معارضين سوريين على هذا الجانب من الحدود.

وبينما ترد الرسائل على برنامج «سكايبي» في الغرفة ذات الأثاث غير المرتب، يشرح نخلة لأحد المحتجين كيفية تحميل مقطع مصور على موقع «يوتيوب»، ويتعجب من الأخبار التي ترد عن نساء يطالبن في شوارع إحدى المدن بإطلاق سراح أقاربهن الرجال.

يقول نخلة الذي يعيش هذه الأيام على السجائر ومشروب المتة الشائع في سورية «ليست لديهم خبرة في النشاط على الإنترنت، لذا نحاول مساعدتهم والاتصال بالناس في العالم الواقعي». أبعد صديقه وجهه عن شاشة الكومبيوتر المحمول، وأخبره بأن «هناك احتجاجا طلابيا أمام وكالة الأنباء السورية في دمشق». وقال نخلة «رائع. إنهم يحاولون إبعاد الطلاب عن السياسة تماما. إن الناس يفاجئوننا بوعيهم».

يعني هذا أنه ليس متفاجئا. ويقول إن التنكيل الأمني الأخير يختلف عن القتل الجماعي عام 1982 إبان حكم حافظ الأسد. ويضيف قائلا «لا أحد يعلم حقا ما الذي يحدث هناك. ولا نعرف العدد بالضبط. لكن اليوم ينتشر خبر إطلاق النار على المواطنين في غضون خمس دقائق. ولا يمكنك أن تنجو بفعلتك. حتى في المناطق الريفية والتي ليست لديها وسائل اتصال كافية يبدو أن السخط فاق الخوف». وقال سائق سوري في بيروت زار قريته مؤخرا في محافظة الرقة حيث تحلى الناس بالجرأة بعد الأحداث الأخيرة «هناك تغيير جذري في قريتي. قبل ذلك كان الناس يجلسون في المقهى ويتحدثون بحرص خشية أن يكون بينهم بعض الأشخاص الموالين للنظام. لكن يتحدث الجميع الآن بحرية ودون خوف، حتى وإن كانوا يعرفون أن هؤلاء الموالين للنظام يجلسون بينهم».

كما حدث في مصر وتونس، يؤكد المحتجون في سورية على مدنية الحركة. ويقول علاء، طالب لغة إنجليزية في مدينة السويداء يبلغ من العمر 24 عاما شارك في المظاهرات لأول مرة الأسبوع الماضي «لا يوجد قائد لنا. لا يدفعنا أحد للخروج إلى الشارع». وأشار قائلا «تحاول السلطات أن تجعل الأمر يبدو دينيا، لكننا لا نتحرك بدافع الدين بل بدافع الحرية وشعورنا الإنساني». ويوضح قائلا إنه بعد أن شارك في المظاهرات مرة، سيستمر. وأضاف «ربما أقتل، ربما يُقتل أخي. لكننا سنستمر».

* خدمة «نيويورك تايمز»