السفير المصري السابق في أميركا لـ«الشرق الأوسط»: «مصر الديمقراطية» لن تتخلى عن السلام

نبيل فهمي عضو «لجنة الحكماء»: «موقعة الجمل» كانت نقطة تحول فارقة في حياتي

السفير نبيل فهمي
TT

يعتقد نبيل فهمي السفير سفير مصر السابق لدى الولايات المتحدة أن مصر الديمقراطية لن تتخلى عن التزامها الاستراتيجي بالسلام لكنها ستنتهج مسعى أكثر فاعلية في العلاقات الدولية. نبيل فهمي عميد كلية الشؤون الدولية والسياسة العامة في الجامعة الأميركية بالقاهرة. وهو دبلوماسي سابق عمل سفيرا لمصر لدى الولايات المتحدة في الفترة بين عامي 1999 و2008 وسفيرا لمصر في طوكيو في الفترة من 1997 إلى 1999. كما كان أيضا عضو البعثة المصرية في الأمم المتحدة في نيويورك، إلى جانب كونه مستشارا بارزا للحكومة في قضايا نزع السلاح النووي. وبعد الثورة المصرية في 25 يناير (كانون الأول) الماضي كان من بين أعضاء جماعة غير رسمية أطلق عليها «لجنة الحكماء» التي التقت مسؤولين حكوميين ومتظاهرين. وتنشر «الشرق الأوسط» اللقاء مع نبيل فهمي اليوم بالاتفاق مجلة «كايرو رفيو».

* كيف تم اختيارك ضمن لجنة الحكماء؟

- كان الخامس والعشرون من يناير عيد الشرطة، وبحكم إقامتي بالقرب ميدان التحرير وكنت حريصا على أن أتابع ما إذا كانت المظاهرات التي تم الإعلان عنها ستحدث فعليا أم لا. وقد كانت المظاهرات أضخم مما تم توقعه حتى من قبل منظميها من الشباب. لذا كان ذلك بالنسبة لي أشبه بالدهشة الأولى، وكان الوجود الضخم لرجال الشرطة يزيد من سخونة التوتر على كلا الجانبين، وكانت تلك بداية غريبة للغاية.

* ماذا حدث بعد ذلك؟

- على الرغم من المصاعب، حافظت المظاهرات على سلميتها من جانب المتظاهرين، فلم يأخذوا المبادرة بالعنف سواء ووجهوا بالعنف أم لا. وكانوا يدافعون عن أنفسهم إذا ما اقتضت الظروف. هذا الحجم الضخم من المظاهرات لم يكن أمرا معتادا في القاهرة. فعادة ما تكون القضايا السياسية أو الاقتصادية هي المحرك الأساسي لمظاهرات ضيقة النطاق. وقد كان الشباب هم المحرك لهذه المظاهرات، ولذلك كأب كنت أراقب هذه المظاهرات وما يحدث فيها، كان ذلك هو المؤشر الأول بالنسبة لي على مدى جدية هؤلاء الشباب.

* وكيف تطورت الأوضاع؟

- جاء ابني وثمانية أو تسعة من أصدقائه الذين شاركوا في المظاهرات بعد إعلان حظر التجوال، وقلت لهم: «حسنا، لماذا لا تنامون. ردوا عليّ: لماذا؟

قلت لهم بسبب حظر التجوال. قالوا لي: من يقرر حظر التجوال؟ نحن أصحاب البلاد». هذا النوع من التصريحات يمكن أن يقال عن صاحبه إنه أخرق. وكان ذلك مؤشرا على أنهم يرغبون في استعادة البلاد، كان هذا هو العهد الذي قطعوه على أنفسهم. لم يكن تعليقا عابرا بشكل بلاغي. لكن القاهرة كانت تشهد تحولا اجتماعيا من قاده الشباب. كانت تلك بداية حقيقة لتدخلي الشخصي. كنت أرغب في أن أرى هذا يستمر والتأكد من أن تكون العقول الرشيدة عامل حسم في النهاية. كما شعرت أيضا بأن الشباب كانوا بحاجة إلى تحقيق طموحاتهم، وإلا لشهدنا جيلا من الشباب المحطم إلى حد بعيد.

* هل كانت تلك نقطة تحول فارقة في حياتك؟

- نقطة التحول الثانية على المستوى الشخصي كانت مع نزول مثيري الشغب التي عرفت باسم «موقعة الجمل» إلى ميدان التحرير على الخيول والجمال ودخلوا في معركة مع المتظاهرين نقلت وقائعها على شاشات التلفزيون. مشاهدة المتظاهرين المسالمين يتعرضون للقتل على يد مثيري الشغب لمدة 12 ساعة دون تدخل، كان بمثابة صدمة بالنسبة لي. في هذه اللحظة قلت لنفسي: «كيف يمكننا كجيل يحمل هذه المجموعة من المبادئ والقيم أن يسلم البلاد إلى جيل شاب؟» كانت تلك لحظة قررت فيها أنني لا أستطيع أن أظل داعما سلبيا لأهداف المتظاهرين.

* إذن، كيف اخترت عضوا في لجنة الحكماء؟

- في ذات اليوم ومن قبيل المصادفة، كانت هناك مجموعة من الشخصيات العامة المستقلة في شتى مناحي الحياة من محامين وبعض المهندسين والمهندسين المعماريين والدبلوماسيين السابقين ورجال الأعمال والذين أصدروا بيانا طالبوا فيه الرئيس السابق بتسليم السلطة إلى نائب الرئيس، وأن بإمكانه البقاء في الحكم كرئيس فخري خلال الفترة المتبقية من رئاسته شريطة أن يسلم السلطة واتخاذ عدد من الخطوات الأخرى كحل مجلسي الشعب والشورى وتشكيل لجنة انتقالية لتغيير الحكومة وتغيير قيادة حزب الأغلبية وإنهاء حالة الطوارئ، ولذا وضعوا خطة من سبع نقاط لبدء عملية إنهاء حكم مبارك بصورة مشرفة. ولم يكن الهدف إنهاء حكم مبارك وفقط بل إعادة بناء دولة على أساس دستوري وقانوني وسياسي. في تلك الليلة اتصلت بهم وقلت لهم إنني علمت بالبيان، وإنهم إذا كانوا يرغبون في مساندتي فأنا على استعداد للانضمام إليهم. قاموا بذلك وبالتالي تأسست مجموعة من 12 شخصا ووقعوا على البيان لما سماه البعض مجموعة الحكماء، والتي كانت مجموعة مستقلة غير رسمية، ولم يكن لأي عضو من أعضائها انتماءات سياسية أو حزبية من أي نوع سواء مع حزب الأغلبية السابق أو أي حزب من أحزاب الأقلية. لم تكن اللجنة كلها من الرجال، على الرغم من اسمها، لكنها كانت تضم بعض النساء ضمن صفوفها.

* فيم كان عمل المجموعة؟

- فوضت اللجنة اثنين من أعضائها للقاء نائب الرئيس (عمر سليمان) وننقل إليه مقترحاتنا، وقد أصغى الرجل باهتمام لكن رده بشأن تفويض سلطات الرئيس إلى نائبه كان بأنه أمر غير مطروح للنقاش. ثم ناقش المقترحات الأخرى بشأن البرلمان والدستور وقال إنه سيبحثها على الرغم من تفسيره للسبب في عدم المسارعة في تلبية هذه المطالب. ثم ذهبنا فيما بعد للقاء رئيس الوزراء أحمد شفيق الذي كرر نفس الأفكار. لم نكن نحاول أن نصل إلى تسوية بين الجانبين، لكننا كنا نحاول جديا بناء مصر جديدة، لكن بصورة يمكن للمتظاهرين فيها الخروج بنتيجة بدلا من لا شيء.

* ما علاقة المجموعة بالمتظاهرين؟

- بدأنا في لقاء ممثلين عن المتظاهرين. كان هناك الكثير من الممثلين لكن أيا منهم لم يكن مفوضا بالحديث نيابة عنهم. كان هناك خمسة على الأقل يمثلون خمس مجموعات مختلفة، وكان كل منهم يتحدث نيابة عن مجموعته مثل شباب الإخوان المسلمين لا الكبار، وكان هناك علمانيون أيضا.

* ماذا قالوا لكم؟

- كانوا متحدين في مطالبهم وعازمين على العمل سويا على الرغم من الاختلافات الفكرية بشأن بناء مصر في المستقبل. وقالوا صراحة: «لا، ليس بالضرورة أن نتفق حول الصورة التي ينبغي أن تكون عليها مصر في المستقبل، لكن المطلب الرئيسي هو أن يغادر الرئيس ثم نشرع بعد ذلك في تطبيق النقاط الست الأخرى». وطلبوا منا أن ننقل هذه الآراء إلى الحكومة لا أن نتفاوض نيابة عنهم وهو ما ارتضيناه. ونظرا لأنهم لم يحملوا تفويضا من التيارات المنتمين إليها لم نكن لنشعر بالارتياح لأن نفوض من قبل أشخاص غير مفوضين. كانت تلك نظرة مفيدة للغاية لنا على الشباب من شتى الأفكار. البعض منهم كان صاحب شخصية قيادية والبعض الآخر أدنى مرتبة. لكن الغالبية كانوا من شباب الجامعات المصرية. البعض منهم تخرج في جامعات أجنبية لكنهم لم يكونوا كثرة. لكنهم كانوا مثقفين سياسيا ويعلمون جيدا ما يريدونه. كانوا يريدون نظاما جديدا وأسلوبا جديدا في الحكم، وكانت لديهم أهداف محددة على المدى القصير. فعلى سبيل المثال كان على الرئيس الرحيل، ثم التعامل مع القضايا القانونية والدستورية، لكن من دون هدف رئيسي ما كانوا ليتحركوا. كان نهجنا مختلفا قليلا، بالنسبة للهدف الأول لكننا على الأقل احترمنا وحدتهم وقررنا نقل الرسالة كما طلبوا منا.

* ماذا حدث فيما بعد؟

- في الوقت ذاته، كان الرئيس يلتقي مع مجموعة كبيرة من قيادات المعارضة التي اختارها هو ولم يكن من بينها أي شخص من المجموعة عدا رجال الأعمال. ولذا كانت هناك العديد من التحركات المختلفة التي تجري في مصر. ما كان ممتعا وشيقا أن نائب الرئيس كان يلتقي بصورة أساسية بالأحزاب السياسية، لكن الأحزاب السياسية لم يكن لديها أي تأثير من أي نوع على ميدان التحرير في المظاهرات. كان ينبغي عليه الالتقاء بقادة الأحزاب والمتظاهرين في التحرير. والذي يعكس الانقطاع التام عما يحدث على الأرض. وقد ذكر لي أحد المتظاهرين بعد انتهاء الاجتماع: «نائب الرئيس يلتقي بقادة المعارضة والأشخاص الذين اختارهم هو، إنهم يحاولون السيطرة على الأجندة، لكننا من سيفعل».

* وهل فعلوا؟

- نعم لقد فعلوها، فقد زادوا من الضغوط في أنحاء متفرقة من مصر بصورة منهجية في الأيام القليلة التالية. وأقول لك بكل صراحة إن ما ساعدهم وعزز من موقفهم التعامل الخاطئ للحكومة في كل المراحل الزمنية للثورة. وإذا ما نظرت إلى خطابات الرئيس المتتالية، ستجد أنه قدم الكثير قبل تنحيه لكنها جاءت بخطوات وئيدة للغاية لكنها كانت متأخرة على الدوام وبصورة جعلت من الصعب قبولها وكان من السهل جدا بالنسبة لهؤلاء الذين لم يرغبوا في قبولها القول «ينبغي عليكم ألا تصدقوها». وكما ذكرت لكم فقد رفض النظام مقترح تسليم الرئيس السلطة لنائبه. ثم أعلن في نهاية الأمر أنه سيقبل المقترح متأخرا أربعة عشر يوما، أي في اليوم الذي سبق استقالته. في تلك اللحظة لم يكن بمقدورك نقل ذلك إلى الجانب الآخر. لقد انتهى الأمر عند هذه النقطة.

* هل كان هناك ما يمكن للرئيس مبارك أن يفعله لتجنب ذلك؟

- هناك مسألة أنه عندما أعلن مبارك أنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى وأنه لن يغادر مصر، وأنه يرغب في أن يموت في مصر. المصريون بطبعهم عاطفيون. فقد انقسم المجتمع المصري بهذا الشأن، لا المتظاهرون، لكن المجتمع هو الذي انقسم، وقد قال الكثير من الناس: «إن هذه طريقة محترمة للخروج. لماذا لا نقبل بها». كان الرئيس مبارك يحظى في أول عشر إلى 15 سنة بسجل مشرف كرئيس، لكن أغلب الانتقادات والنقاشات جاءت في النصف الثاني من حكمه. ألقى الرئيس خطابة في الليل، وفي اليوم التالي في نحو الساعة الثانية ظهرا وصل البلطجية إلى ميدان التحرير بالجمال والخيول. أن ترى العنف يستمر لمدة 12 ساعة مباشرة على الهواء، الأمر الذي حول جميع المصريين ضد النظام ودعم المتظاهرين. وقد وأد ذلك جهود الرئيس في أنه لن يترشح مرة أخرى وأنه سيموت في مصر، وقتل كل الدعم العاطفي الذي يمكن أن يحصل عليه من الشعب المصري. كان مناصرو حزب الأغلبية هم الذين نظموا ومولوا وشجعوا البلطجية إلى ميدان التحرير ومن ظلوا سلبيين سمحوا لهذه المعارك بالاستمرار لمدة 12 ساعة، والتي حولت دفة الدعم السياسي للمجتمع إلى صالح المتظاهرين. ولم تكن هناك رجعة من حينها.

* كيف كان تأثير ذلك على لجنة الحكماء؟

- نزلنا إلى ميدان التحرير في اليوم التالي. وقد تطلب الأمر منا 45 دقيقة للوصول إلى هناك لأن الحشود هناك استقبلتنا بترحاب شديد. وأخذوا يرددون بصوت جهوري: «هو يمشي، هو يمشي، هو يمشي». وقد تأثرت كثيرا بذلك. فمن ناحية كان هؤلاء الشباب منفتحين على الحوار مع الأشخاص الساعين للبحث عن حل للأزمة والذين قد لا يستجيبون بالضرورة بشكل كامل على المدى القصير لرغباتهم. لكنهم كانوا يبعثون إلينا برسالة قوية: «لا بد وأن يرحل الرئيس». لم يذهب أي منا فيما بعد إلى ميدان التحرير بعد أحداث العنف فلم يكن هناك استعداد للتنازل عن أي من المطالب.

* أكان ذلك نقطة تحول بالنسبة لمصر؟

- القول بأن ذلك نقطة تحول أخرى بالنسبة لمصر هو أمر من قبيل السخرية، لكن أي شخص يعلم ماهية مصر يجب أن يدرك هذا. في اللحظة التي نزل فيها الجيش المصري إلى الشارع فقدت الحكومة السيطرة على الموقف. ودعني أعِد التأكيد على أنه في اللحظة التي نزل فيها الجيش إلى الشارع كان من الواضح أن المتظاهرين قد انتصروا.

لأن الجيش المصري ما كان ليطلق الرصاص على المدنيين. فهذا أمر لم يحدث من قبل، وميثاق شرف الجيش المصري يؤكد أن هذا لن يحدث. كان خيار الجيش بين النظام أو الشعب، وعندما أسقط الخيار بأيديهم أعلنوا أنهم إلى جانب الشعب. ومن ثم فبدلا من أن يكونوا مصدرا للاستقرار ودعم الحكومة، كانوا مصدرا للاستقرار ودعم للمتظاهرين. لذا عندما نزل الجيش إلى الشارع هتف المتظاهرون: «الجيش والشعب إيد واحدة». وقد تأكد ذلك في كل التصريحات التي صدرت عن الجيش. لم تكن هناك إشارة واحدة إلى الرئيس في البيان الأول أو الحكومة. كان بيانات الجيش على الدوام تتحدث عن الجيش والشعب وهذه رسالة متواصلة. ثم أصدر الجيش بيانا قال فيه: «اجتمعنا نحن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ونحن في حالة انعقاد دائم». كان بيان الجيش بالنسبة للمحللين يعني «إننا نراقب الأوضاع، وإننا لن نكون سلبيين، بل نراقب كمشارك إيجابي». وجاء في البيان ذاته: «نحن ندعم المطالب المشروعة للمتظاهرين»، لذا شهدنا حالة من التغير السياسي هنا. وكان الخطأ الأول الذي ارتكبته الحكومة نزول الجيش إلى الشارع لكن النظام المصري كان عليه القيام بذلك نتيجة لما حدث مع الشرطة. لكن ذلك عزز من عزيمة المتظاهرين. ومع اقتراب النهاية عندما بات من الواضح أن الجيش سيطلب منه استخدام القوة، كان الجيش يعلم أنه لن يقدم على ذلك، لكنهم لم يكونوا يرغبون في عصيان الأوامر. لذا أصدروا بيانا قالوا فيه: «نحن نراقب الأوضاع وسوف نتخذ قراراتنا».

* إذن فقد كان دور الجيش المصري حاسما في هذه المرحلة؟

- كنا نتوقع في الساعات الأخيرة أن يصدر بيان عن الرئيس، لكن لم يصدر سوى بأن فوض عمر سليمان، وهو ما لم نتوقعه سابقا، وقال الجيش إننا سنضمن ذلك. وبدلا من ذلك ظل الجيش ينتظر الأفراد في الشارع وعندما قال الناس في الشارع لا، قال الجيش لقد طفح الكيل.

* ما الذي يكشف عنه هذا الموقف؟

- يمكننا أن نستخلص من هذا الموقف ثلاثة استنتاجات، الأول: أنه يمثل دراسة حالة رائعة في كيفية إدارة الأزمة، والثاني: أظهر بما لا يدع مجالا للشك أن هناك فجوة كبيرة بين ما اعتقدت الرئاسة أنه أمر صائب وبين حقيقة ما يجري على الأرض، والذي كان السبب فيه الحكومة والسن والعزلة. والأمر الثالث: هو أنه أظهر الحدود الحقيقية للقوة. وبعبارة أخرى، كان نزول الدبابة إلى الشارع أقل تأثيرا من الهواتف الجوالة و«فيس بوك». لقد وجدت الدبابة على الأرض لكنها لم تكن لتستخدم ولم يكونوا ليطلقوا قذائف مدفعيتهم على المواطنين. إنه عهد لما يشكل القوة في يومنا والعصر الذي نعيش فيه. قوة الجيش مهمة وستظل كذلك. لكن قوة الاتصالات وقوة العمل الجماعي والتنظيم - لأننا نعيش في عالم من الشفافية لا يمكنك ببساطة أن تقوم بعمل لا يتردد صداه على مستوى العالم - غاية في الأهمية لا بد أن نضعه في اعتبارنا هنا.

* قلت إن الشباب المصري أظهر قدرا كبيرا من النضج السياسي؟

- كيف امتلك هذا الشباب مثل هذا الوضوح في الأفكار؟ أذكر ذات مرة خلال نقاشاتنا، لمحاولة فهم المدى الذي يمكننا الوصول إليه، سألت واحدا منهم عدة أسئلة، فرد عليّ: «لقد تولينا الثورة الآن فقط، الأمر لا يتعلق بالأساليب، إنه متعلق بالثورة، وينبغي أن تدرك هذا، نحن نريد تغيير النظام. ساعدونا في تطوير آليات تغيير النظام. لكن أي شيء لن يجدي نفعا ما لم يتغير النظام». وقد تحدثنا عن كل شيء بدءا من الإصلاح الدستوري إلى عملية المصالحة، واستمرت النقاشات في موضوعات من هذا القبيل. وقد أخذت الحماسة البعض مرة - لكن أيا منهم لم يخرج عن إطار اللياقة، أو تحدث بسوء أدب أو بصورة غير لائقة، فقد كانوا مجموعة من الشباب الرائعين – وصاح: «أيها السادة، كان زميلي يقف إلى جانبي عندما قتل. لا تشتتوا الحوار يجب أن يتفق هذا مع الخسارة التي منيت بها أنا وأسرته»، لقد كانت مؤثرة بالفعل.

* هل لديك إيمان في قدرة المصريين على المشاركة السياسية؟

- لقد استعاد المصريون ملكية بلدهم، والآن سيكون لهذا بعض المعاني الضمنية وهو أنك إذا أشركتهم في صنع السياسات والنظام القانوني لمصر الحديثة ستتمكن من التقدم، وإن لم تفعل فستواجه مشكلات لأن هؤلاء الشباب لن يتراجعوا.

* هل تتوقع أن تشهد البلاد تحديات مستقبلية؟

- كان الجيش متمتعا بذكاء سياسي استثنائي منذ اليوم الأول، وهو الذي أثار دهشة الجميع. كان الجيش سلسا وحذرا في الوقت ذاته. وهم الآن يديرون دفة البلاد وهم قادة البلاد وسيكون عليهم طمأنة كافة التوجهات السياسية، وهذا موقف أكثر تعقيدا. ومن ناحية أخرى فهم قد أعلنوا عن برنامج لتسليم السلطة خلال ستة أشهر لحكومة مدنية وإقامة أربعة انتخابات. ثلاثة انتخابات واستفتاء. وكانوا بحاجة إلى شفافية دائمة وأن يقدموا حلولا شاملة لأن الأمر لا يتعلق بتغيير رئيس، بل بتغيير مصر ككل.

* في رأيك، ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع الثورة؟

- كانت مصر تتجه إلى صراع سياسي في صيف عام 2011، لأنه كانت ستجرى انتخابات الرئاسة في الخريف. وكان سؤال يفرض نفسه عما إذا كان مبارك يرغب في الترشح للرئاسة مرة أخرى أو سيرشح ابنه، ومن أيضا. لذا كانت هناك الكثير من الأسئلة التي يتناقلها الشعب المصري. أضف إلى ذلك أن 56 في المائة من الشعب المصري أعمارهم تقل عن 25 عاما، من الشباب القلق الباحث عن مستقبله والذي يحاول تقرير مصيره بيده. كان على المرء أن يتوقع أن نصل إلى مرحلة الغليان عند هذه المرحلة. لكن هل كنت أتوقع الثورة؟ كلا، لكني كنت أتوقع وقوع توتر سياسي. لماذا آلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟ الشيء الأول هو أن المزيج الديموغرافي كان مستعدا لكل ذلك، والأمر الثاني النتائج المتغطرسة للانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والتي فاز فيها الحزب الوطني بأغلبية 97 في المائة من المقاعد. ولا بد من أن تكون ناضجا سياسيا حتى ترغب في تحقيق هذا النوع من الأغلبية لأنها تعني وضع كل المعارضة خارج البرلمان ضدك على الرغم من اختلافهم عن بعضهم البعض.

* هل أدى ذلك إلى اشتعال الثورة؟

- لقد انسكب الزيت في الشارع وكنا ننتظر أن يشتعل. لقد اشتعلت الأوضاع في تونس. ما أشعله في يناير بدلا من يونيو (حزيران) كان بالأساس الأحداث في تونس. ولو أن الأمر حدث بصورة مختلفة، لربما أدى ذلك إلى تسوية لعدم عودة الرئيس إلى الترشح مرة أخرى دون خروج أي فرد من الحكومة.

* كدبلوماسي مصري كيف ترى البعد الدولي للتغير السياسي في مصر؟

- كنت دائما ما أنتقد المتعصبين لأنهم لم يكونوا يفكرون بعقلانية بشأن بعض القضايا. لكن إذا كان الأمر يتعلق بمسألة التدخل الخارجي، فأنا أصولي. أنا لا أشجع الأطراف الأجنبية على التدخل في الشؤون الداخلية للدول طالما أن العنف لا يستخدم ضد المدنيين. والسبب ليس لأني لدي مشكلة بشأن القضايا الأخلاقية، على العكس. أنا أدرك أن الشعب يثير تساؤلات بشأن العنف وحقوق الإنسان وكل ذلك. والتصريحات بشأن العنف وحقوق الإنسان مفهومة تماما طالما وجدت الحقائق. الأمر يعود إلى أن كل الدول تواجه تحدياتها الخاصة ولها أجنداتها السياسية ولها مصالحها الخاصة وكذلك أولوياتها الخاصة والتي لا تتواءم معنا. ولا أحب أن أقرر أو أن أحدد أجندتي الداخلية الخاصة مع الأجندة الداخلية لدولة أجنبيه.

* كيف كان تقييمكم للموقف الأميركي خلال الثورة؟

- كان من الواضح منذ البداية أنهم أصيبوا بالارتباك والدهشة إلى حد بعيد. ولم ينبغ عليهم الارتباك. أما الدهشة فأنا أدرك ذلك لأننا كنا جميعا كذلك، فالتوقيت هو الذي اختلف. فعلى مدار سنوات الخارجية الأميركية لم تعن بالرأي العام العربي. وعندما كنا ننقل ذلك الشعور الشعبي إلى المسؤولين الأميركيين لم يكن أحد يكترث لنا. ولذا فأنا على يقين من أن ذلك سيتوقف الآن. على الرغم من ذلك أعتقد أن تعليقات الرئيس أوباما الأخيرة بشأن استلهامه من الشباب أثر في المتظاهرين بصورة كبيرة. وعندما قال أوباما: «لقد ألهمني هؤلاء الشباب»، شعرت أنهم تأثروا بذلك.

* هل كان من الممكن أن تقوم الولايات بدور مختلف للتأثير على الأوضاع بشكل مختلف؟

- لم أرغب منهم في التأثير على الأحداث حتى وإن فشلت، فالأمر كان منوطا بالمصريين أنفسهم، لأنه شأن مصري خالص. ولم أرغب في أن يدعي البعض أنها جاءت بمعونة من الخارج. لكني دعني أضف إلى ذلك. حقيقة الأمر أن إرسال السفير الأميركي السابق إلى القاهرة فرانك ويزنر كان خطأ كبيرا، وأنا أدرك السبب في شعور الولايات المتحدة بأنها مضطرة للقيام بذلك، لكن الحقيقة أن المسألة كانت قد حسمت بالفعل. فلم تدرك الولايات المتحدة ما كان يجري في الشارع، ففي اللحظة التي نزل فيها الجيش إلى الشارع فاز المتظاهرون. وكان مبارك سيغادر الرئاسة إن آجلا أو عاجلا، منذ اللحظة التي نزل فيها الجيش إلى الشارع. لذا فإن إيفاد مبعوث إلى هنا ثم الخروج بتقارير متضاربة بشأن ما قاله فعلا، ثم التقارير المتضاربة بشأن رأي فرانك ورأي الإدارة كانت نقطة ضعف إلى حد بعيد. أنا هنا لا أنتقد فرانك لشخصه، ولكني أقول ببساطة إن هذا كان الحلقة الأضعف في العملية. أنا أعلم أنهم كانوا على اتصال دائم بالرئاسة والجيش ومع أي شخص يمكنهم التواصل معه للتأكيد على ضرورة عدم استخدام القوة. وإجمالا فقد كانت تصريحات الرئيس أوباما أفضل من تصريحات أي مسؤول أوروبي بشأن المظاهرات المصرية والذين سارعوا إلى القول: «يجب أن تحترموا الاتفاقات مع إسرائيل». وأدخلوا إسرائيل في النقاش على الرغم من أنه شأن مصري خالص.

* كيف لم نر أي هتافات معادية للولايات المتحدة أو إسرائيل؟

- تلك نقطة مشوقة في كل النقاشات التي أجريتها مع الجميع هنا، وهو أن السياسة الخارجية لم تذكر على الإطلاق من قبل المتظاهرين. لم يتناقشوا بشأن ذلك ولم يرفضوها، ولم يرسلوا أي رسالة إلى أي شخص. وعندما تولى الجيش المسؤولية قال الجيش إنه سيحترم المعاهدات الدولية لتهدئة مخاوف البعض. وبعد انتهاء المظاهرات قالوا إنهم سيغيرون مصر داخليا وإنهم سيحترمون المعاهدات الدولية ويناقشونها فيما بعد. لذا لم يكن الأمر يتعلق من الأساس بالسياسة الخارجية. لكن ما يهم الآن وبصراحة شديد هو أن نبني مصر على نحو أفضل، لكننا سنحتاج إلى بعض الوقت.

* هل ستعيد الثورة مصر كمجتمع أكثر قومية بسياسة خارجية أكثر قومية؟

- الأشخاص الذين تولوا الحكومة سيجعلون الوزراء والمسؤولين الحكوميين أكثر محاسبة على المدى القصير. وفي كل أفعالنا ومن بينها السياسة الأجنبية، على الرغم من امتلاكنا لأجندات استراتيجية فهم أكثر حساسية للمخاوف العملية الملحة والضغوط. وسأعطيك مثالا على ذلك. أنا لا أرى الوضع على الحدود مع غزة مقبولا - لم أره مقبولا وما زلت لا أراه كذلك. هذا لا يعني أنني أؤيد حماس أو أن الثورة تؤيد حماس ولكني أعتقد أننا بحاجة إلى طريقة إبداعية لضمان فتح الحدود وحفظ الأمن في الوقت ذاته. لكن ليس من العملي سياسيا القول: «لقد أخطأوا، ومن ثم نطبق عليهم الحصار». ونعم سنرى أيضا ردا مصريا قويا على ازدواجية المعايير ردا، على سبيل المثال، على سياسة الاستيطان الإسرائيلي، وفي التأكيد على مصالح الدول النامية في منظمة التجارة العالمية. لقد تولى الأطفال والشباب والمجتمع المسؤولية الآن وهم يرغبون في الاشتراك في تشكيل السياسة ومحاسبة المسؤولين.

* إذن فمن المتوقع أن يؤثر ذلك على السياسة الخارجية المصرية بشأن هذه القضايا؟

- إذا قمنا بالأمر على النحو الصائب فسنتعرض لنفس الضغوط التي يتعرض لها الجميع في دولة ديمقراطية. فحيثما يكون لديك أهداف استراتيجية وتكون بحاجة إلى توازنات مع شعبك لما تستطيع القيام به على المدى البعيد. لكنك لن تستطيع أن تتجاهل مخاوف المدى القريب. كان المسؤولون الأميركيون عادة ما يأتون إلي وأنا في واشنطن ويقولون لي: «لا يمكننا القيام بذلك، لأن انتخابات الكونغرس وشيكة». الآن سيكون لدينا مثل هذه الضغوط أيضا. لذا عندما نقول: «إن على الإسرائيليين أن يعودوا إلى حدود 1967»، سيقول المسؤولون الأميركيون: «الحكومة الإسرائيلية حكومة تحالف، وهذا الحزب السياسي الصغير الدقيق هو الذي يعارض الحل، لكن المشكلة أنه يشغل مقعدا في بعض اللجان الفرعية». وسيكون الأمر من جانبنا على هذا النحو أيضا. ستكون هناك الكثير من الإيجابية في السياسة المصرية المعنية بأهدافها الاستراتيجية، لكنها أكثر حرصا على الأهداف الآنية قصيرة المدى. وإذا ما عدت إلى تاريخ الشرق الأوسط ستجد أن مصر كانت تقود المنطقة بريادتها في الأفكار والسياسة والاقتصاد والتوجهات الاجتماعية، وهو ما ستعود مصر إلى لعبه مرة أخرى. قد لا نرفع في المرحلة القادمة راية القومية العربية، لكننا سنرفع راية عالم عربي أفضل وأكثر ديناميكية وأكثر فاعلية. لن نعود في التاريخ مرة أخرى لكننا سنمضي إلى الأمام.