حمص.. ثارت على محافظ أراد تحويلها من «أم الفقير» إلى واحة للأغنياء

مدينة معروفة بتسامحها الديني وتنوعها الاجتماعي.. وتجارها من الطبقة الوسطى يتميزون بمراعاة الأحوال

صورة مأخوذة من هاتف جوال تظهر معتصمين في ساحة الساعة وسط حمص يصلون أول من أمس (أ.ب)
TT

حمص، «أم الحجارة السود»، كما يحب أهلها أن يسموها نسبة لعمارتها القديمة المبنية من الحجارة السوداء، وحاضنة ضريح الصحابي خالد بن الوليد سيف الله المسلول. هي بالنسبة لكل من زارها، دار السلام التي لا تزال تحتفظ بين جنباتها، بزنار السيدة العذراء في كنيسة «أم الزنار»، بحي بستان الديوان، وتتوسط حمص قلعة أسامة علما.

حمص، أم الفقير، لأن أهلها عرفوا بالصدق والأمانة. وتجارها لم يشتهر عنهم الجشع ولا الغش. ما من أحد زارها وأكل من طيباتها الشهيرة، إلا ورغب في زيارتها مرات ومرات، يحمله الحنين إلى شعب من الظرفاء تسرهم مشاركة ضيوفهم النكات التي تشاع عن الحماصنة.. أي عنهم. يقولون لو لم نكن الأكثر ذكاء ما رويت عنا النكات. بهذه الروح من الدعابة، يتقاسم أهالي محافظة حمص العيش معا على مساحة جغرافية هي الأكبر بين المحافظات (41 ألف كلم مربع)، والأكثر تنوعا في سورية. إذ تمتد على عدة مناطق جغرافية داخلية متنوعة ما بين الجبال والبادية. وتحتل حمص المرتبة الثالثة من حيث عدد السكان بعد دمشق وحلب، ولها حدود مع لبنان من الغرب، والعراق والأردن من الشرق. ويشكل التركمان نحو 60 في المائة من العائلات الأصلية في مدينة حمص، مثل التركماني والعطائي والوفائي والديك والأتاسي ورجوب وكاخيا.. إلخ. ويبعد مركز المدينة 162 كلم شمال دمشق العاصمة، ويبعد 196 كلم جنوب مدينة حلب و90 كلم شرق طرابلس و150 كلم غرب تدمر. وهي تعتبر من المدن المركزية في البلاد لوقوعها في المنطقة الوسطى. وقد استفادت من مرور نهر العاصي بأراضيها، ليكون موردا طبيعيا هاما في المحافظة التي تتوزع في أنحائها مختلف أنواع الطوائف بشكل مختلط وكثيف جدا.

فالتنوع الجغرافي، ما بين الجبل والسهل والبادية، انعكس على التنوع السكاني من حيث البدو والريفيين والمدنيين، وأيضا من حيث التنوع الديني من المذاهب الإسلامية كافة، بالإضافة إلى الطوائف المسيحية المتعددة. ولعل ريف حمص بشدة تنوعه واختلاطه، جعل منه الريف الأكثر انفتاحا وتسامحا في سورية. كما أن وجود جزء كبير من الحدود مع شمال لبنان أعطى المدينة بعدا آخر للتنوع.

وكان لقرب مدينتي طرابلس وبعلبك اللبنانيتين من مدينة حمص، في جعل حمص قبلة الشمال اللبناني وبالأخص أيام الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان. فهي من هنا استحقت وصفها بأم الفقير، إذ يتميز تجارها من الطبقة الوسطى بمراعاة الأحوال فلا يعرف عنهم التذاكي أو الغش. بل العكس عندما لا تتوفر لديهم بضاعة جيدة ينبهون المشتري إلى أنها ليست بالمستوى المطلوب، مما جعلها مدينة استثنائية من حيث المجتمع الذي يتسم بالانفتاح والتسامح وأيضا بالمحافظة. غالبية سكانها الأصليين من المسلمين السنة، الذين عرفوا على المستوى الوطني بانفتاحهم وتوجهاتهم العلمانية، وأنجبوا نخبة من كبار رجالات سورية الذين كانوا من صناع الجلاء واستقلال سورية عام 1946، ومن أهم العائلات الأتاسي والدروبي والزهراوي والحسيني والسباعي والدالاتي وجنيد وحربا والجندلي ولأخرس والسقا.. إلخ. ويتركز السكان الأصليون في حي المحطة، وبعض أحياء حمص العريقة مثل باب سباع ومحيط القلعة، بالإضافة إلى أحياء شعبية عرفت بالتشدد كحي المريجة كما أن سكانها غير الأصليين من البدو هم من السنة أيضا، وينتمون لعدة عشائر مثل الفواعرة والعقيدات وعرب بني خالد.. ويتركز البدو منهم في البياضة وعشيرة وباب دريب باب عمرو والإنشاءات، التي شهدت في الآونة الأخيرة أحداثا دامية، مع أن هذه الشريحة من السكان كانت تعد من الأكثر حظوة لدى السلطات. وينال البدو امتيازات لا ينالها أبناء الطوائف الأخرى مثل السنة من أهالي حمص الأصليين والعلويين والذين يتركزون في حي الزهرة. فهم من أبناء ريف حمص الفقير الذي نزح إلى المدينة للتعلم والعمل. ويمتازون بانفتاحهم وميولهم اليسارية. وظل هؤلاء الشريحة الأكثر فقرا في المدينة، التي عانت مما عانته باقي المدينة من التهميش والإجراءات الجائرة التي قام بها محافظ حمص المقال إياد غزال طيلة السنوات الست الأخيرة.

أما المسيحيون، فقسم منهم من السكان الأصليين ويتركزون في حي المحطة والحميدية وبستان الديوان، ومنهم من سكان الريف الذين جاءوا للتعلم والعمل ويتركز معظمهم في الحميدية وحي النزهة القريب من الزهرة. وعموما يظهر أهالي محافظة حمص اهتماما بالتعليم والثقافة، وبرزت منهم قامات معروفة على المستوى العربي والعالمي، كحصيلة طبيعية لتاريخها العريق الذي يعود إلى سنة 2300 قبل الميلاد، حيث لعبت دائما دورا تاريخيا هاما عبر تاريخها الحضاري الطويل لا سيما في حياة الإمبراطورية الرومانية، خاصة زمن حكم السلالة الحمصية الملكية شمسيغرام وتزوجت ابنتها جوليا دومنه من القائد العسكري الروماني سبتيموس سيفيروس وأضحى أبناؤها أباطرة جلسوا على عرش الإمبراطورية الرومانية نحوا من خمسين عاما. إلا أن محافظة حمص ورغم كل ما تتمتع به من صفات الاعتدال، تعرضت خلال السنوات الست الأخيرة إلى تعامل مجحف لم يراع خصوصيتها، لدى تسلم إدارتها المحافظ المقال إياد غزال الذي سعى إلى تحويل المحافظة من أم الفقير إلى واحة للأثرياء، من خلال إجراءات وقرارات ومشاريع صناعية وتجارية أغفلت من حساباتها أن هذه المحافظة الغنية بمواردها، غالبية سكانها من الطبقة الوسطى والفقراء، الذين يعيشون من الزراعة والمشاريع والمنشآت الصغيرة، وبما يعينهم على حفظ الكرامة.

وأراد المحافظ غزال الذي مارس مهامه من تصور ضرورة تشجيع الاستثمارات الخارجية، أن يحول مدينة تاريخية بسيطة، إلى مدينة معاصرة تشبه المدن التجارية العالمية. وراح يغير بملامحها بما يعنيه ذلك من إضرار بمصالح السواد الأكبر من السكان، لا سيما مشروعه «حلم حمص» الذي أطلقه، وكان يهدف منه إلى هدم الوسط التجاري القديم في المدينة ومعه مئات المحال الصغيرة التي تعيش منها آلاف الأسر، لصالح بناء أبراج ومولات زجاجية على نمط إمارة دبي. وقد أثار هذا الأمر غضب واستياء أهالي حمص، وفشلت كل محاولاتهم لثنيه عن تحقيق هذا الحلم، إلى أن بدأت الاحتجاجات في درعا وخرجت حمص لنصرتها والمطالبة بإقالة المحافظ. ومع أنه تمت تلبية هذا المطلب، وأقيل المحافظ، فإن الحماصنة ما زالوا يظنون أنه إذا لم تتم محاسبة المحافظ وفريق عمله، فإنه لا بد سيعود من خلال شغل منصب آخر. فهم لا يريدون فقط إسقاط المحافظ، بل إسقاط الفساد الذي أنهكهم واستنزف موارد محافظتهم، وأعادهم سنوات إلى الوراء إلى حد لم يعد فيه الصمت ممكنا. خرجوا حاملين أكفانهم وهم يرددون أبيات شاعرهم المغترب نسيب عريضة: عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن واجعل ضريحي من الحجار السود