حالة وفاة تضع العدالة الأفغانية في مأزق: المحاكم أم شيوخ القبائل؟

أميركا أنفقت المليارات على بناء نظام قضائي ثم تراجعت لصالح النظام التقليدي وسط انتقادات محلية

رباني غل يشير بأصبعه إلى المكان الذي اعتُدِي فيه على والده معمور جيلاني («واشنطن بوست»)
TT

ثمة كثير من الأمور محل نزاع فيما يتعلق بوفاة معمور جيلاني في هذه المدينة الأفغانية الشرقية قبل ستة أشهر، فأقاربه يرون أنها جريمة قتل، مشيرين إلى تعرض جيلاني، إلى ضربة تسببت في إصابته بأزمة قلبية وهو في سن الثانية والخمسين. وعلى الرغم من ذلك، فقد ذكر أفراد أسرة المتهم بارتكاب جريمة القتل أن حالة جيلاني السابقة جعلت وفاته قضاء وقدرا. غير أن الجميع اتفقوا على نقطة أساسية: يجب تحكيم شيوخ قبائل، وليس المحاكم. وقال رباني غل، ابن جيلاني: «ليست لدينا أي ثقة في النظام القانوني. فقراراته متحيزة. ولن تكون هناك عدالة».

ويعكس ذلك التعبير عن عدم ثقة في المحاكم في أفغانستان، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها لأن يتركوا وراءهم نظاما قضائيا قادرا على العمل. وبعد غزو أفغانستان الذي قادته الولايات المتحدة وساعد في الإطاحة بحركة طالبان في 2001، حاولت دول غربية وضع نظام قضائي أكثر حداثة، وبناء دور قضاء وتدريب القضاة والمدعين ورجال الشرطة ومحامي الدفاع. إلا أن الجهود، التي بلغت كلفتها مليارات الدولارات، أسفرت عن نظام ينتقده كثير من الأفغان بوصفه فاسدا واستبداديا وعرضة للتدخل السياسي.

والآن بدأت الولايات المتحدة ومانحون دوليون آخرون إنفاق ملايين الدولارات على مشاريع تهدف إلى الوصول لفهم أفضل للنظام القضائي التقليدي الأفغاني، والاعتراف به قانونيا، والمعروف باسم «القضاء غير الرسمي». وقالت سيلفانا سينها، وهي خبيرة في النظام القضائي التقليدي بمكتب معهد السلام الأميركي في كابل: «لفترة طويلة، اعتقد المجتمع الدولي أننا لا نرغب في اللجوء إلى النظام القضائي غير الرسمي في التحكيم». وأضافت: «أدركوا الآن أن النظام الرسمي ليست لديه الإمكانات المطلوبة، وبدأوا في البحث عن وسائل العمل مع النظام غير الرسمي».

لعقود، كانت مجالس الشيوخ بمثابة السلطة العليا في المقاطعات والقرى الأفغانية، التي كان لا يتم دعمها بقدر كبير من قبل الدولة. وعملت هذه الكيانات التي تدار بشكل شبه حصري من قبل رجال، كجهات تحكيم في أي أمر محل نزاع، بدءا من النزاعات على الأراضي إلى حوادث القتل. ويتعامل النظام القضائي غير الرسمي في أفغانستان مع نحو 95 في المائة من النزاعات في الدولة. وبعضها يتم تسويته بدفع أموال، في حين ينتهي بعضها الآخر بالتصالح. وفيما يتعلق بالقضايا الجنائية، بدلا من مجرد معاقبة فرد، يسعى شيوخ القبائل للوصول إلى تسويات تعيد التوافق والانسجام إلى المجتمعات التي يكتنفها التنافر والنزاعات. وفي بعض الأحيان، يتأتى ذلك من خلال دفع «دية». وفي حالات أخرى، يكون على قبيلة أو أسرة المشتبه به تسوية النزاع بتزويج الطرف المظلوم إحدى فتياتها الشابات.

ويقول مسؤولون أميركيون إنهم لم يتجاهلوا هدف إرساء نظام قضائي قوي. غير أنهم يشيرون إلى أنهم بدأوا بتوجيه مزيد من الاهتمام إلى السبل التي يستطيعون من خلالها دعم النظام القضائي غير الرسمي، نظرا لأنه سيكون بشكل شبه مؤكد النظام العملي الوحيد لحل النزاعات، لمعظم الأفغان، على مدى عدة سنوات.

وذكر الجنرال ديفيد إم رودريغيز، قائد عمليات قوات حلف الناتو في أفغانستان، أن بعض المسؤولين الغربيين في أفغانستان «يرغبون في بناء مجتمع راق ويريدون تحقيق ذلك بسرعة». وقال: «ما يريده الأفغان هو الأمن والعدالة والتمثيل البرلماني. فهم بحاجة إلى العودة مرة أخرى إلى الحلول التقليدية للنزاعات. ولكي يتحقق ذلك، نحتاج إلى توفير التأمين الكافي لتلك المنظومات كي تنهض مجددا». وأشار إلى أن إرساء نظام قضائي عملي ساري المفعول ليس هدفا خطيرا، «بل هو خطة قد تستغرق 20 عاما».

وأطلقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مشروعا تجريبيا ميزانيته 14.5 مليون دولار العام الماضي لدعم قطاع القضاء غير الرسمي، وهدفه توفير التدريب القانوني للشيوخ والبحث عن وسائل لربط الكيانات غير الرسمية بالنظام القضائي الرسمي، وإيجاد فرص لمنح النساء مزيدا من الفرص للتعبير عن أنفسهن.

وتكلفة ذلك البرنامج هي جزء من الأموال التي تنفقها الولايات المتحدة على مبادرات دعم النظام القضائي الرسمي. فعلى سبيل المثال، أنفقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وغيرها من الوكالات الأميركية الأخرى 429 مليون دولار على مشاريع العدالة.

غير أن الاهتمام المتزايد بالنظام القضائي التقليدي أزعج بعض المسؤولين الأفغان، بمن فيهم قضاة المحاكم العليا وأعضاء البرلمان. فقد حاولوا أن يظهروا أن الاعتراف بالنظام القضائي غير الرسمي هو اعتراف ضمني بأن النظام الرسمي محكوم عليه بالفشل. وقالت فوزية كوفي، عضو البرلمان، التي ترأس لجنة حقوق الإنسان: «أعتقد أن هناك اندفاعا من جانب المجتمع الدولي». وأضافت: «يرغبون في المغادرة، ولكنهم لا يرغبون في ترك مشاريع غير تامة، ومن ثم، يتحولون إلى الإصلاحات السريعة».

وقد صاغت وزارة العدل مشروع قانون مقترح لربط القطاعين القضائيين الرسمي وغير الرسمي، غير أن المسؤولين وخبراء شؤون سيادة القانون الأفغان يقولون إن الوصول إلى تسوية سيحتاج إلى سنوات. ومن بين أكثر الأمور المثيرة للنزاع تهميش دور النساء في القطاع غير الرسمي وحجم السلطة، إن وجدت، التي يجب أن يتمتع بها مجالس الشيوخ فيما يتعلق بالقضايا الجنائية.

وفي حالة جيلاني، اتفقت أسرته وأقارب المتهم، عبد الحدود، على السماح لمجلس شيوخ القبائل، أو «الجيرغا»، بالتوسط للتوصل إلى حل. وقال كاري ميرهاتام تاراخيل، رئيس مجلس «الجيرغا»: «توصلنا إلى حل اعتمادا على تقاليد تعود إلى عصور قديمة».

وبعد الاجتماع مع الأسرتين لساعات، توصل 40 من شيوخ القبائل، يترأسهم تاراخيل، للاتفاق التالي: «سيتعين على أسرة جيلاني العفو عن المتهم. وعلى الرغم من ذلك، سيكون على أسرة عبد الحدود مغادرة القرية لمدة 10 سنوات على الأقل». وقال تاراخيل: «يجب أن يكون ذلك درسا للآخرين».

وعلى الرغم من منحهم مجلس «الجيرغا» سلطة تسوية النزاع، فقد تراجع أقارب المتهم عن كلامهم بمجرد أن علموا بالعقوبة. وقال جافار، صهر المتهم، الشهير باسمه الأول: «كان جيلاني يعاني من مشكلة في القلب. وهو لم يُقتل. فقد توفي جراء أزمة قلبية. إذن، لِمَ يجب أن تفرض علينا جميعا تلك العقوبة؟». وأشار جافار إلى أن أسرته تثق في أن الشيوخ سيتوسطون للوصول إلى حل أفضل، عاجلا أو آجلا.

وأعلن المدعي العام الرئيسي في المقاطعة أن النظام القضائي لم يكن مجهزا للتعامل مع القضية محل النزاع. إلا أنه لم يتم رفض النظر في الدعوى الجنائية، ولا يزال المدعون يتركون القضية معلقة، في الوقت الذي يستمر فيه شيوخ القبائل في الضغط على كلا الطرفين. وذكر غل، ابن جيلاني، أن الأسرة ستمنح مجلس «الجيرغا» مهلة إضافية، لكنها لا ترغب في أن يتخذ النظام القضائي الرسمي أي إجراء. وقال: «لو لم يتدخل مجلس (الجيرغا)، لكنا قد أخذنا بالثأر بالفعل».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»