اختفاء معلم بريطاني يسبب صدمة لدى الإيطاليين

لندن تريد إغلاق قنصلية ظلت لقرون شاهدة على رحلات الأرستقراطيين والرومانسيين في فلورنسا

القنصلية البريطانية المطلة على نهر أرنو في فلورنسا (نيويورك تايمز)
TT

لقد شهدت ازدهار رحلة النخبة الأرستقراطية إلى أوروبا والرحلة الشاملة ورومانسية رواية «غرفة تطل على مشهد رائع» لإدوارد مورغان فورستر واضطرابات الحربين العالميتين. والآن بعد مرور خمسة قرون، تغلق القنصلية البريطانية في فلورنسا أبوابها بسبب خفض الميزانية وتغير مجرى التاريخ.

كانت أكثر معاملات القنصلية، التي كانت يوما ما مكانا للسائحين من أفراد الطبقة الأرستقراطية والبريطانيين الحالمين، خلال السنوات الأخيرة تقتصر على جوازات السفر والأخلاق الضائعة. لكنها تمثل جزءا أساسيا من تاريخ العلاقات البريطانية - الإيطالية، وجذب خبر إغلاقها الاهتمام هنا. وأعرب عمدة فلورنسا عن أسفه وتأمل واحدة من أفراد الطبقة الأرستقراطية أن تطرح هذا الموضوع بمناسبة الزفاف الملكي. وتساءل أحد كبار المؤرخين عن أولويات الدبلوماسية البريطانية.

ومع دخول أول شعاع للشمس من نافذة مكتبه المطل على نهر أرنو في صباح أحد الأيام، اطلع ديفيد برومفيلد، الذي يرجح أن يكون آخر قنصل بريطاني في فلورنسا، على الأخبار بحزن. وقال: «لا يشبه هذا موقف حاكم يغادر مستعمرته القديمة بتكبر، بل نهاية تقليد مهم هنا دام لمدة خمسة قرون».

وعلى جدران الغرفة كانت صور أسلافه معلقة في إطارات واسم كل فرد منها كتب بخط منمق. كان الأول هو السير لامبرت بلاكويل عام 1698 «قنصل ليغورن» حيث كانت تعرف المدينة المطلة على الميناء آنذاك باسم ليفورنو، ثم السير هوراس مان، الذي حول القنصلية إلى صالون يستقبل فيه كبار البريطانيين الذين يمرون بالمدينة خلال فترة عمله كقنصل من عام 1760 إلى 1786.

وعلى إحدى تلك اللوحات كانت توجد عبارة مدمرة هي «لم يكن هناك تمثيل بريطاني في فلورنسا منذ 11 يونيو (حزيران) إلى 1 فبراير (شباط) 1945». وتحتفل المدينة سنويا بذكرى مقتل أول جندي بريطاني من قوات التحالف في فلورنسا.

واستعرض فرانكو زيفيريللي في فيلمه الذي يقدم تجربته الذاتية عام 1999 «الشاي مع موسوليني» عالم السيدات الإنجليزيات الأرستقراطيات اللاتي يتميزن بقدر من الحمق ممن قدمن إلى فلورنسا بحثا عن الجمال واللواتي كن يتناولن الشاي في متحف «أوفيتسي»، حتى اعتبرهن موسوليني ضمن كل البريطانيين أعداء. وأثناء فيضان نهر أرنو عام 1966، فتحت القنصلية أبوابها لإنقاذ رعاياها والأعمال الفنية التي لا تقدر بثمن كجهة استشارية مؤقتة. وبالنظر إلى ترابط العلاقات التاريخية، ليس من المفاجئ أن تشعر المدينة بالحزن بسبب إغلاق القنصلية في نهاية العام الحالي.

وقال ماتيو رينزي، عمدة فلورنسا: «من الواضح أنني حزين لأن القنصلية البريطانية في فلورنسا لديها تاريخ جميل وفريد. لكن العالم يتغير ومن الواضح أنه لا يوجد مكان في عالم اليوم المليء بالطائرات النفاثة لسفر النخبة الأرستقراطية إلى أوروبا». وأوضح رينزي أنه يدرك أمر خفض الميزانية في إطار خطة التقشف البريطانية، لكنه يود أن يوجه دعوة إلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون وزوجته لزيارة فلورنسا قبل إغلاق القنصلية لتأكيد «استمرار قوة العلاقات بين فلورنسا وبريطانيا».

واقتبست الصحف الإيطالية قول الماركيزة بونا فريسكوبالدي من أسرة توسكان لإنتاج النبيذ بأنها ستحاول إثارة الموضوع مع الأمير تشارلز أثناء حفل زفاف الأمير ويليام وكيت ميدلتون. عاشت كيت ميدلتون في فلورنسا لعدة أشهر عام 2000 ودرست في المعهد البريطاني الخاص الذي كان يقدم دورات تدريبية في اللغة الإنجليزية والإيطالية منذ إنشائه عام 1917 لدعم العلاقات البريطانية - الإيطالية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان المعهد يتميز بمكتبته الضخمة.

تساءل بول غينسبورغ، أستاذ التاريخ الأوروبي بجامعة فلورنسا الذي له مؤلفات كثيرة عن إيطاليا، عن سبب اختيار هذا التوقيت لإغلاق القنصلية. وقال: «كيف يمكننا تحمل نفقات القنصلية لمدة خمسة قرون ولا نستطيع أن نستمر في ذلك؟. كيف لم نغلقها عام 1820 أو 1910 أو حتى خلال فترة الثلاثينات أثناء الكساد الكبير بينما نغلقها الآن؟». وأضاف أن «هذا قرار سياسي سيؤثر على صورة بريطانيا في الخارج في لحظة تلعب فيها الثقافة والاتصالات دورا مهما. أعتقد أنهم يستطيعون إعادة النظر في هذا الأمر».

وقالت متحدثة باسم وزارة الخارجية البريطانية في رسالة بالبريد الإلكتروني: إن الوزارة من جانبها «تراجع رسم مستقبل علاقاتها باستمرار. نحن نعمل على توسيع نطاق اتصالاتنا في الخارج وجعلها أكثر عمقا خاصة من أجل زيادة وجودنا في الدول الناشئة».

منذ عام 2007 افتتحت وزارة الخارجية البريطانية قنصليات في مدينة غوما بجمهورية الكونغو الديمقراطية ومدينة أنتاناريفو في مدغشقر وجوبا في السودان، بينما أغلقت قنصليتها في دوربان بجنوب أفريقيا وجنيف وكاوسيونغ في تايوان وناغويا في اليابان وحلب بسورية فضلا عن دول أخرى. كذلك أغلقت قنصليتها في البندقية مما يعني أنه سيتعين على البريطانيين الذين يحتاجون إلى مساعدة أو فقدوا جوازات سفرهم التوجه إلى روما أو ميلانو أو نابولي. وقال برومفيلد: «أشعر بالحزن والأسى من الناحية الرمزية، لكن من الناحية العملية أتفهم تقسيم الموارد المخصصة للقنصليات على ثلاثة لا خمسة». وساعد برومفيلد في فترة كئيبة عائلة ميرديث كيرشير، الطالبة البريطانية التي قتلت في بيرودجا عام 2007. وتمت إدانة أماندا نوكس، زميلتها في السكن وصديقها ورجل آخر بقتلها عام 2009. والجدير بالذكر أن مدينة فلورنسا كانت خلال منتصف القرن التاسع عشر من أولى المدن في الرحلات الشاملة التي تقدمها شركة «توماس كوك» السياحية. أما الآن فيزورها خصوصا الطلبة الجامعيين الذين يهتمون بالحانات وكنيسة سانتا كروتشيه.

لكن فلورنسا ظلت لوقت طويل مكانا للباحثين عن التحرر من القيود التي توجد في إنجلترا. إنهم مثل شخصية لوسي هانيتشيرش في رواية «غرفة تطل على مشهد رائع» لفورستر التي نشرت عام 1908. واستطاعت لوسي بطلة الرواية أن تفسخ خطبتها من رجل سمين لا تحبه بعد أن وجدت الحرية الجمالية والعاطفية في فلورنسا. ونشر الكاتب الروائي، ديفيد هربرت لورانس رواية «محبوب السيدة تشاتيرلي» في فلورنسا على حسابه الخاص عام 1928 بعد أن منعت الرقابة نشرها في بريطانيا لأنها رواية حسية.

كذلك هربت الشاعرة إليزابيث باريت براونينغ مع روبرت براونينغ في فلورنسا وعاشا في منزل «كازا غويدي» حيث وافتها المنية عام 1861 بعد أن أهلكها المرض والإدمان والجدل مع روبرت بحسب ما جاء في طبعة دار «بينغوين» لقصائدها التي شاركت في تحريرها جوليا بولتون هولواي.

وفي ظهيرة أحد الأيام المشمسة، كشفت جوليا عن قبر إليزابيث في مقابر البروتستانت. وأعربت جوليا، التي عملت على ترميم المقبرة، عن أسفها لإغلاق القنصلية. وقالت: «إنه لأمر مؤسف، فالجالية الإنجليزية لم تعد بالقوة التي كانت عليها في الماضي».

- شاركت جايا بيانيجياني في إعداد هذا التقرير.

* خدمة «نيويورك تايمز»