تركيا تواجه انتكاسة في سياستها مع الدول العربية

أردوغان يفقد القادة الذين وثق علاقاته معهم.. وسوريا تمثل أكبر تحد أمام أنقرة

الرئيس السوري بشار الأسد (يمين) خلال استقباله رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في دمشق في 11 أكتوبر 2010 (إ.ب.أ)
TT

تواجه تركيا تحديا متزايدا فيما يتعلق بزيادة حصتها الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وتعزيز نفوذها السياسي الملحوظ مؤخرا في المنطقة وسياستها طويلة الأجل القائمة على عدم السماح بتفاقم أي مشكلات على طول حدودها، بفعل الاضطرابات التي تجتاح العالم العربي حاليا.

وكانت تركيا قد برزت، في غضون سنوات قليلة، كأبرز قوة حيوية بمنطقة الشرق الأوسط. ولكن أسابيع من الدبلوماسية التركية في ليبيا انهارت يوم الاثنين الماضي، وطالب رئيس الوزراء التركي صراحة العقيد معمر القذافي بالتنحي. وقد ينتظر البعض وضعا مشابها في سوريا، حيث كان الرئيس بشار الأسد قد وعد قادة أتراكا بصفة شخصية بالبدء في إجراء إصلاحات واسعة رغم استمراره في مطاردة وتعقب قوى المعارضة.

وفي العراق المجاور، تتخوف تركيا من عجز الحكومة العراقية عن الحفاظ على استقرار البلاد مع إكمال الولايات المتحدة انسحابها العسكري من هناك. ويدخل لبنان، حيث تستمتع تركيا بإمكانية التواصل مع كل من حزب الله وخصومه، شهره الرابع من دون وجود حكومة متفق عليها.

وقبل بدء ما يعرف باسم «ربيع التحرر العربي» الذي انطلق بثورة في تونس ومصر، كانت تركيا عاملا محفزا في جهود إعادة تنظيم القوى الظاهرة حاليا في منطقة الشرق الأوسط، حيث رسمت خريطة سياسة خارجية مستقلة في الغالب عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة خالية من أي دولة تعادل مكانتها السياسية. والآن تقوض الاضطرابات الواقعة على حدودها سنوات من الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي، وهو ما يجبر تركيا على اتخاذ دور أكثر تأكيدا مع تناقض رؤيتها للتكامل الاقتصادي مع التهديد الماثل بفعل عدم الاستقرار المتزايد.

وقال سامي كوهين، وهو كاتب عمود في صحيفة «ميليت» اليومية التركية: «تواجه السياسة الخارجية التركية انتكاسة كبرى في مواجهة هذا التغير غير المتوقع الحادث حاليا في شتى أنحاء العالم العربي. وقد بدأ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يفقد القيادات في العالم العربي الذين وثق فيهم واعتبرهم مهمين يوما بعد يوم». وقد تثبت سوريا، التي تحدق بها ثورة مستمرة منذ ستة أسابيع، أنها أكبر تحد يواجه أردوغان، لأنها تكرر بشكل واسع تجربة جيرانها العرب على مدار الشهور الأربعة الماضية. وفي تونس ومصر، والآن في ليبيا واليمن، عارضت الحكومات التنازل عن بعض الصلاحيات للبقاء في الحكم، فقط لكي تواجه في نهاية المطاف احتمال فقدان كل الصلاحيات. ويرفض الزعيم السوري، أيضا، الدعوات المطالبة بالتغيير.

وقالت مجموعة الأزمات الدولية في بيان صحافي أصدرته يوم الثلاثاء الماضي حول الأوضاع في سوريا: «يمتلك اللاعبون الخارجيون قدرا محدودا من الزخم. وحتى الدول التي كانت قد طورت علاقات وثيقة مع دمشق مثل تركيا، ينظر إليها بشك متزايد من قبل المسؤولين الذين تتزايد مشاعر الشك الموجودة لديهم وينظرون إلى أي شيء يفتقر لدعمهم المباشر على أنه نوع من الخيانة».

وخلال الأسابيع الماضية، كانت العلاقات الدبلوماسية التركية متوترة بشكل خاص مع سوريا، والتي تعتبرها المصدر المباشر للقلق لكونها تمثل محورا حيويا في استراتيجيتها الإقليمية الرامية للتكامل الاقتصادي بشكل أكبر. وقد تحدث الرئيس بشار الأسد وأردوغان على الهاتف ثلاث مرات على الأقل، كما زار رئيس جهاز الاستخبارات التركية، وهو مسؤول يمتلك معرفة عميقة بالشؤون السورية، دمشق مرتين منذ بدء الثورة خلال شهر مارس (آذار) الماضي. ويقول المسؤولون إن رسالتهم كانت تتلخص في أنه يجب أن يتم تنفيذ الإصلاحات قبل فوات الأوان.

وبلهجة كررت بيان أردوغان للعقيد القذافي، حذر رئيس الوزراء التركي الحكومة السورية من تكرار مذبحة حماة عندما سحق الجيش السوري ثورة إسلامية في عام 1982، مما أدى إلى مقتل 10.000 شخص على الأقل، وربما عدد أكبر كثيرا.

وقال محلل سوري يقيم بمدينة دمشق طلب عدم ذكر اسمه بسبب حساسية الموضوع: «تركيا تحتاج إلى سوريا بشكل أكبر من حاجتها للنظام السوري».

وبداية من العراق وصولا إلى شمال أفريقيا، برزت المكانة المتنامية لتركيا في العالم العربي كواحدة من أهم الدول الحيوية في المنطقة. ووصل حجم التبادل التجاري لتركيا مع العراق إلى نحو 6 مليارات دولار أميركي في عام 2010، وهو ضعف الحجم المسجل تقريبا في عام 2008. وهناك في سوريا، تم إلغاء القيود على منح تأشيرات الدخول والإقامة وتسهيل حركة التجارة عبر المناطق الحدودية المنتعشة، وهو ما ساعد على إعادة ربط مدن مثل حلب السورية بمناطقها النائية التاريخية.

وكان نحو 25000 عامل تركي قد توافدوا على ليبيا للاشتغال في أعمال البناء المتوسعة. وتنتشر ثقافة البوب التركية في كل مكان؛ حتى أن نجم مسلسل «وادي الذئاب» وهو أحد مسلسلات الحركة التركية ويبدو مشهورا جدا لدرجة أن اسمه منتشر على واجهات المقاهي العراقية. ومنذ شهر يناير (كانون الثاني) كانت تركيا قد سعت لحماية هذه المكاسب أثناء التفاوض من أجل تخفيف حدة الاضطرابات في المنطقة. ورغم أن علاقات تركيا مع مصر كانت تفتقر لعمق العلاقات التي كانت تمتلكها مع دول عربية أخرى، فإن أردوغان كان قد طالب الرئيس المصري السابق حسني مبارك بالتنحي بينما كان المبعوث الأميركي لا يزال يؤكد على أن إمكانية السماح لمبارك باستكمال فترته الرئاسية الأخيرة.

ولكن تركيا تعرضت لانتكاسات في أماكن أخرى؛ حيث خسرت القائمة العراقية، وهو ائتلاف ساعدت تركيا في تكوينه بالعراق، بقيادة إياد علاوي، الانتخابات البرلمانية العراقية أمام التحالف الذي يقوده رئيس الوزراء نوري المالكي، على الرغم من الفوز بأكبر كتلة فردية من مقاعد البرلمان في الانتخابات التي جرت خلال شهر مارس (آذار) عام 2010. وما زال هناك تشكك في تركيا بشأن قدرة حكومة المالكي في الحفاظ على وحدة العراق ونزع فتيل التوترات الطائفية بعد انسحاب الجيش الأميركي من العراق خلال المهلة المحددة في نهاية العام الحالي.

وسعى دبلوماسيون أتراك للوصول إلى حل تفاوضي في ليبيا، ولكنهم اشتكوا من أن المسؤولين الليبيين كذبوا عليهم بشأن استعدادهم لتنفيذ هدنة ووقف إطلاق النار. وذكر مسؤولون أتراك أنهم سوف يتقربون من المعارضة الليبية بشكل أكثر قوة وعلانية خلال الأسابيع المقبلة. ولكنهم امتنعوا عن التصرف على هذا النحو في سوريا، التي كانت تركيا على وشك الدخول في حرب معها عام 1998 بسبب دعم سوريا للمتمردين الأكراد. ومنذ ذلك الحين، عززت تركيا علاقاتها مع سوريا كنموذج لعلاقاتها مع دول عربية أخرى. وعقدت الدولتان اجتماعات مشتركة لمجلس الوزراء، كما عقدتا مناورات عسكرية مشتركة. وقد تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين بمقدار ثلاثة أضعاف خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، وقيل إن الأسد وأردوغان مغرمان ببعضهما البعض.

وقال برهان غليون، مدير مركز الدراسات الشرقية المعاصرة في جامعة السوربون بالعاصمة الفرنسية باريس: «تمتلك الدولتان علاقات حميمية، وتركيا منغمسة في اللعبة السياسية السورية». ولكنه أضاف بقوله: «تركيا تحذر سوريا، وتقول إن لديها مصالح استراتيجية في سوريا، وإنها لا يمكنها أن تتحمل السماح بتفجر الأوضاع في سوريا».

وكانت تركيا قد سعت للتحوط في رهاناتها؛ حيث استضافت جماعة الإخوان المسلمين السورية وسمحت بعقد لقاء للمعارضة في اسطنبول. وقد أغضب هذا الأمر مسؤولين سوريين، أصروا على أن الانتفاضة تم التخطيط لها في الخارج. وفي إشارة محتملة إلى حدوث توتر بين البلدين. وقال مسؤول في وزارة الخارجية التركية إنه ليس هناك مخطط لإرسال وفود إضافية إلى دمشق.

وقال محلل سوري في دمشق طلب عدم ذكر اسمه: «الحكومة السورية غاضبة جدا من المسؤولين الأتراك الذين كانت تعتبرهم أصدقاء حتى الأمس فقط». وحتى الآن، طالب مسؤولون أتراك بدفع سوريا من أجل إجراء إصلاحات أكثر توسعا بشكل كبير، ومن بينها محاولة القيام بمصالحة وطنية والدخول في حوار مع التيارات السورية المختلفة، وهو ما سوف يستدعي ظاهريا الدخول في حوار مع جماعة الإخوان المسلمون المحظورة. ويقول مسؤولون إن هناك شعورا في أنقرة إن الأسد يريد الإصلاح، ولكنه يتعرض لوضع حرج من قبل القوى الأكثر تعنتا داخل النخبة الحاكمة، وهي نقطة كررها أردوغان عندما قال في مقابلة تلفزيونية: «إنه (بشار الأسد) يقول إنه سوف يقوم بإصلاحات، ولكنني أجد صعوبة في فهم ما إذا كان قد منع من القيام بذلك، أم أنه متردد في الإقدام على هذه الخطوة».

* شارك في إعداد التقرير سيبنيم أرشو من اسطنبول وهويدا سعد وندا بكري من بيروت وموظف بجريدة «نيويورك تايمز» من دمشق، سوريا

* خدمة «نيويورك تايمز»