سينمائي مُصر على كسر التابوهات بأفلامه داخل إيران

أوسكوي طرق مواضيع التجميل وانتحار الشابات وإدمان الصبية.. ويسعى جاهدا لعدم الاصطدام بالرقابة

مهرداد أوسكوي
TT

«ليس هذا بالشيء الذي يجب أن أفعله».. هكذا يقول مهرداد أوسكوي، وهو يقلب مجموعة كبيرة من البطاقات البريدية الملونة بدرجة خفيفة من اللون البني الداكن، التي تحمل صورا لنبلاء ذوي لحى طويلة من قاجار وثوار ذوي شوارب ونساء محجبات ودراويش رحالة. لقد كرس أوسكوي، الذي ربما يعتبر أبرز مخرجي الأفلام الوثائقية في إيران، قدرا كبيرا من الوقت والمال في جمع هذه المجموعة، وهي مغامرة ينظر إليها كثير من أصدقائه وأقاربه باعتبارها غزوا ثقافيا هزليا.

إلا أنه عاقد العزم؛ فهو ينظر إلى نشر مئات من هذه الصور التذكارية القديمة التي تعود إلى أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 كوسيلة لإعادة تشكيل جزء من التاريخ المرئي لإيران، بملء فراغ خلفته حكومة تعيش في حالة إنكار دائمة لماضيها ما قبل الثورة. وقال: «يجب أن يقوم فريق كامل بهذه المهمة، ليس لديَّ مساعد، لكنني أؤمن بما أفعله».

وبالنسبة لأوسكوي، تعتبر البطاقات البريدية المصورة جزءا من عملية الإحياء الثقافي؛ إذ إنه حصل، عن الأفلام الوثائقية، على جائزة الأمير كلاوس عام 2010، وقيمتها 25 ألف يورو (نحو 37 ألف دولار) من وزارة الخارجية الهولندية. وقد تطرقت أفلامه إلى مواضيع حساسة مثل انتحار النساء في المجتمعات التقليدية وإدمان الصبية الأحداث المخدرات وأزمة هوية الشباب في إيران، وهي مواضيع يمكنها بسهولة أن تزج بإيراني إلى السجن.

ويعتبر أكثر أفلامه شهرة خارج إيران الفيلم الذي أخرجه عام 2006، وعنوانه «أنف على الطريقة الإيرانية». ويتناول هذا الفيلم انتشار عمليات تجميل الأنف في إيران؛ إذ تحتل إيران موقعا بارزا بين دول العالم، من حيث عدد عمليات تجميل الأنف، يتراوح بين 60 ألفا و70 ألف عملية سنويا. ويعكس هذا جزئيا المنافسة الشرسة بين النساء الشابات على البحث عن رجال للزواج منهم في أعقاب حرب الثمانينات مع العراق، التي أودت بحياة 400 ألف رجل إيراني. إلا أن الهدف الحقيقي من الفيلم، كما يقول أوسكوي، هو إبراز النزعة الاستهلاكية والعدمية التي تميز إيران المعاصرة، مقارنة بإيران في السنوات التي تلت ثورة 1979، حينما كان الناس مستعدين للموت فداء لأهدافهم.

وفي فيلمه «الجانب الآخر من البرقع» الذي أنتجه عام 2004، تلتقط كاميرا أوسكوي عملية الدفن السريعة ليلا لعروس شابة شنقت نفسها من مروحة السقف في قرية صيد على جزيرة قشم الواقعة على الخليج العربي، وهو حدث شائع جدا في مجتمع متمسك بالتقاليد؛ حيث يمكن أن تشعر النساء الشابات بالكبت.

ويقول الخبراء إن موهبته تكمن في التقاط هذه المشاهد التي يتغلغل تأثيرها في أعماق المشاعر على المستوى الشخصي، كما لو أنه لم يكن هو أو كاميراته في المكان. قال أحمد الأسطى، أستاذ الدراسات السينمائية بجامعة طهران: «يحصل على ما يريده من دون أي إزعاج في هذه العملية».

بل إن أوسكوي يتعمق في الطقس التعويذي الوثني المسمى «الزار»، وهو رقصة نشأت في شرق أفريقيا، لكن لا تزال تمارس في الأقاليم الساحلية والجزر بجنوب إيران. وهي رقصة تعتمد على التعبير عن المشاعر بشكل جامح والتي تؤدى على إيقاعات الطبول وبمصاحبة غناء الرجال، وتعتبر بمثابة منفذ نادر للنساء لإفراغ مشاعرهن المكبوتة في ظل مجتمع مقيد. وتتحدث كثيرات في الفيلم بصراحة عن صراعاتهن مع نظام الحكم الأبوي السلطوي والضائقة الاقتصادية، التي تعوق تطورهن كأفراد.

غير أنه ربما يكون أبرز إنجازاته هو التعامل مع هذه المواضيع من دون مخالفة رجال الدين أو الجهات الرقابية أو الفنانين الآخرين، الذين اتهمه بعضهم بأنه يتجاوز الحدود. قال علي دهباشي، رئيس تحرير مجلة ثقافية تحمل اسم بخارى: «في العالم الغربي، يكفي فقط أن تكون فنانا، ولكن ليس هنا». وأضاف: «معرفة الجهات الرقابية وكيفية الرقابة على الأشياء هي أهم شيء». وأضاف دهباشي: «الفن ليس هو أن يمنع أحد أفلامك وتتجه إلى لوس أنجليس أو باريس، الأمر المهم هو أن تبقى وتعمل وتستمر». وحين سئل عن قدرته على تناول مواضيع تندرج بشكل واضح ضمن المحرمات من دون عقاب، قال أوسكوي بنبرة معتدلة: «نحن نعيش في مجتمع ذي سمات اجتماعية وسياسية خاصة جدا».

وربما تظل المجموعة الكبيرة من المشاهد المصورة التي التقطها لكل من أنصار الرئيس محمود أحمدي نجاد ومرشح المعارضة الرئيسي مير حسين موسوي، أثناء الحملة الانتخابية عام 2009، التي لم يتم تعديلها، باقية للمؤرخين لدراستها في عصر آخر.

وسأل: «هل يجب أن تعني صناعتي فيلما أن يطاح بي من هذا المجتمع؟». وأجاب: «لا أرغب في ذلك، هل يجب أن أصنع فيلما وأستخدمه في السعي لطلب اللجوء السياسي في دولة أخرى؟ لا أرغب في ذلك على الإطلاق. في النهاية، يجب أن يكون الناس مرنين.. إنني أفكر إلى أي مدى يمكنني أن أذهب».

تجنب كثير من عمالقة السينما الإيرانية، أمثال عباس كياروستامي ومحسن مخملباف، إلى جانب المخرج الكردي باهمان غوبادي، الموضوع بتحويل مركز عملياتهم إلى الخارج، غير أنه بالنسبة لأوسكوي، سيعرضه ذلك للخطر الذي وصفه صديق مقرب له، يدعى ناصر فخوري، في مقال له باسم «الموت البطيء» بعيدا بكثير عن كل «الأشقياء الصغار والنساء اليائسات» الذين يملأون أفلامه.

ولم ينتهج أوسكوي طريقا وسطا حذرا فحسب، بل يشجع طلابه في الكثير من ورش العمل التي ينظمها على القيام بالمثل. فمؤخرا، ألقى اللوم على خمسة من الجيل الجديد من صناع الأفلام الوثائقية المستقلين في إيران، الذين كانوا معارضين لأخذ أموال حكومية من أجل صناعة أفلام عن الرموز الشهيرة للثورة الإسلامية وحرب إيران والعراق.

فقد تحدث إلى الـ5 مخرجين قائلا: «لا يتعلق هذا بالسياسات أو بمعتقداتكم. فهناك تمويل خاص يقدم لإنتاج هذه الأفلام، وإذا لم تقوموا أنتم بإنتاجها، فسيأتي آخرون ويجعلون من أنفسهم أبطالا بإنتاجها».

وفي آخر أفلامه «أيام الشتاء الأخيرة»، يتعقب أوسكوي مجموعة من المجرمين الأحداث في رحلة خاصة في الإجازة إلى الساحل الشمالي في إيران على بحر قزوين، وهو المكان الذي لا يبعد كثيرا عن المكان الذي أنتج فيه فيلمه الوثائقي الأول الذي يعتبر علامة بارزة في تاريخ الأفلام الوثائقية، وحيث فكر، وهو طفل صغير، أن يغرق نفسه بعد أن تم احتجاز والده، مما ألقى بأسرته في حالة من الفقر المدقع.

كان ذلك في السبعينات من القرن الـ20، في السنوات الأخيرة من حكم شاه محمد رضا بهلوي؛ فقد تم القبض على والده، الذي كان نشطا في الحركة القومية المناهضة للشاه، وتم تعذيبه واعتقاله لمدة 5 سنوات. وقال أوسكوي: «سألني والدي عما إذا كنت أرغب في المشاركة في السياسة، فأجبته: (لا، مطلقا)؛ لذلك بدأت التفكير فيما أستطيع القيام به. هل أرغب في أن أكون رئيسا أو رئيس وزراء أو عضوا في البرلمان؟ لا، لم أرد أيا من هذا. هل أرغب في التنقيب في روح الناس وحياتهم اليومية وفهم ما الذي جعلهم يصبحون على ما هم عليه والتعبير عن ذلك في فني؟ كان هذا بالفعل ما أردته».

لقد تم التقاط بعض أكثر المشاهد المؤثرة في فيلم «أيام الشتاء الأخيرة» على الخط الساحلي لبحر قزوين الهائج؛ حيث جسدت كاميرا أوسكوي بشكل حي أعمق مشاعر الصبية – الذين هم في سن العاشرة والمدفوعون للجريمة بسبب الفقر وإدمان المخدرات – التي عبروا عنها.

وذكر أوسكوي أنه تعلم أن يسد الفجوة بينه وبين عامة الناس أثناء سنوات دراسته السينما بجامعة طهران، حينما كان يذهب إلى محطة الحافلة من حين لآخر ويشتري تذكرة لأي حافلة أخرى مقبلة مهما كانت وجهتها. وقال: «عندما سألوني أين أريد أن أذهب، أجبتهم بأن ذلك لا يشكل أي فارق بالنسبة لي، وظنوا أنني كنت أهزأ بهم». لقد سافر إلى الأطراف البعيدة من إيران، إلى المساحات الريفية من أرض واسعة ذات تضاريس وعرة، مكونا وعيا أعمق عن بلده. قال أوسكوي: «كانت تلك هي الطريقة التي عرفت بها ناسي. أحلامهم ومصادر يأسهم وآمالهم وحياتهم اليومية».

* خدمة «نيويورك تايمز»