«جمهورية إمبابة الإسلامية».. تعود بنكهة «طائفية»

أهالي الحي الشعبي المطل على النيل يعانون الفقر والتكدس السكاني.. ويحذرون من عنف كبير

TT

«هذه الأكوام من الزبالة، وهؤلاء الناس الفقراء المكدسون فوق بعضهم، تتوقع من يخرج منهم؟ هل يخرج منهم غير المتعصبين القتلة؟ لو عندك علبة ساردين فاسدة وقررت أن تفتحها ماذا ستجد؟ هل ستجد شيئا غير الروائح العفنة؟».. حاول عم أشرف فتحي (50 عاما)، بهذه الكلمات القصيرة، أن يلخص أحداث الفتنة الطائفية في إمبابة، التي وقعت مساء السبت الماضي وراح ضحيتها 12 قتيلا وقرابة 250 مصابا.. وهو يلقي باللائمة على طبيعة هذا المكان الذي يعتقد أنه بيئة صالحة لكل الجرائم في المجتمع، وليس فقط فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، وأن الفتنة التي وقعت هي مجرد شرارة لأحداث عنف كثيرة يتوقع أن تقع في المستقبل وبين أطياف الدين الواحد أيضا.

وبعد أن أخذ نفسا عميقا من سيجارته، عبر فيه عن غيظه من الدماء التي انتثرت، قال أشرف، الذي يمتلك محل أجهزة كهربائية في شارع الأقصر بجوار الكنيسة: «نعم إن لم يحدث تدخل قوي في هذه المنطقة لحل أزماتها توقعوا أن تشهد أحداث عنف جديدة مثل التي رأيناها في التسعينات على أيدي الإسلاميين، لكنها ستكون أشد هذه المرة؛ لأنها ستأخذ طابعا طائفيا».

وتتفق معه سميحة داود (موظفة مسيحية) تقطن بهذا الحي منذ 20 عاما: «للأسف هناك تشدد كبير بين جميع سكان الحي.. التشدد والتطرف في كل شيء، والعصبية هي السمة الغالبة، ليس فقط فيما يتعلق بالانتماء الديني، لكن حتى في المعاملات اليومية». وترجع سميحة هذه العصبية للانتماء العرقي لأهالي المنطقة الذين ترجع خلفياتهم لمحافظات صعيد مصر؛ حيث هاجروا إليها منذ مئات السنين، بالإضافة إلى ضغوط الحياة اليومية التي يعانونها.

طبيعة حي إمبابة (شمال الجيزة)، تقول إنه يقع بجوار بعض أكثر أحياء العاصمة رقيا مثل الزمالك والمهندسين، وأنه يعتبر أحد أكثر الأحياء ازدحاما في العالم؛ حيث يقطنه قرابة مليون و100 ألف نسمة. وعلى الرغم من أنه يمتد كشريط ضيق على نهر النيل، وبه بعض المناطق الراقية، خاصة المطلة على النيل، حاول المستثمرون ورجال الأعمال أن ينتزعوه من أهله لإقامة فنادق سياحية به، لكنه يتسم في أغلبه بالكثير من المناطق الشعبية التي تتميز بالمباني السكنية البسيطة والمتلاصقة وأكوام القمامة الملقاة في الشوارع، والأسواق الشعبية التجارية غير المنظمة التي تمتد بلا رقيب أو حسيب. وإذا حاولت أن تتوغل بسيارتك في شوارعها وضواحيها الداخلية، مثل حي «البصراوي» وشارع الأقصر الذي وقعت فيه الأحداث، فتوقع أنك ستعاني جدا عربات الكارو التي ستخرج لك من الاتجاهات كلها، ولا تحاول أن تكون ملتزما جدا بتعليمات المرور؛ لأنك ستجد نفسك ربما الوحيد الذي يفعل ذلك وربما ستجد من يسخر منك! ومنذ 5 سنوات تقريبا أصبح «التوك توك» هو أبرز وسيلة مواصلات داخلية في هذا الحي.

تاريخيا ظلت إمبابة، لقرون، الوجهة النهائية للجمال التي يتم جلبها من جنوب مصر والسودان؛ حيث يتم بيعها في سوق عُرفت بـ«سوق الجمعة»، التي لا تزال موجودة، وإن كان قد قل الاهتمام بهذه التجارة الآن بسبب التوسع العمراني وتحول الكثير من المناطق الزراعية بها لمبانٍ سكانية؛ لذلك يقول البعض: إن اسم «إمبابة»، وتعني «نخلة الدوم» في اللغة الأمهرية، أطلق عليها من قِبل تجار الإبل والرعاة الأفارقة. وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية السابقة حاولت أن تقيم الكثير من مشاريع البنية التحتية، فإنها لم تنجح في إيصالها لكل المناطق بالكفاءة المطلوبة، ربما بسبب الكثافة السكانية العالية.

وفي مطلع التسعينات، انتشر الإسلام السياسي المسلح في إمبابة، حين سيطرت جماعات الجهاد الإسلامي والتكفير والهجرة على المنطقة وشنت، انطلاقا منها، هجمات ضد الحكومة، وباتت حينها تُعرف باسم «جمهورية إمبابة الإسلامية». ويذكر التاريخ في هذا الشأن قصة طبال يدعى الشيخ جابر تحول من بلطجي لرجل دين وأمير جماعة متطرفة، فرض سيطرته على شوارع إمبابة عدة سنوات واستقطب هو وأتباعه الآلاف. وعلى الرغم من أن لهذه الجماعات أعمالا كانت في رأي الكثير من سكان المنطقة جيدة، مثل مساعدة الفقراء ومطاردة تجار المخدرات، فإنهم أيضا كانوا يثيرون الفزع حينما كانوا يفرضون ارتداء الحجاب على النساء ويحرقون محال شرائط الفيديو الغربية والأغاني ويحطمون الأفراح بداعي أنها تنشر فجورا. ومع توسعهم وانتشارهم قررت الحكومة المصرية أن تواجههم واقتحمت هذا الحي بحملة أمنية عام 1992 حشدت لها أكبر عدد استخدمته في تاريخ المواجهات الأمنية. وحدثت مواجهات عنيفة تحولت فيما بعد إلى لعبة إلكترونية شهيرة باسم «حرب إمبابة».

وظل هذا الحي، على الرغم من اختفاء الجماعات الإسلامية المسلحة منه، محافظا على نزعته الإيمانية والتقاليد الدينية؛ حيث تلتزم السيدات فيه بارتداء الحجاب، كما ينتشر النقاب بكثرة هناك. وباستطلاع آراء عدد من أهالي إمبابة في مناطق مختلفة تبين كمَّ الاحترام الذي يكنونه لرجل دين أو حتى أي شخص ملتحٍ وممن أصبح يطلق عليهم الآن «السلفيين». يقول أحمد راضي (25 عاما)، وهو شاب يرتدي أحدث ألوان الموضة ويصفف شعره على الطريقة الغربية: «نعم أحترم السلفيين والمشايخ.. هم رجال دين، كلامهم على عيني وعلى رأسي.. أنا مش ملتزم آه، لكني لا أستطيع أن أنتقدهم».

وكما ينتشر التيار الديني الإسلامي بقوة في المنطقة، تنتشر أيضا التجمعات المسيحية في عدد من المناطق مثل (البصراوي والوحدة والمنيرة)، التي شهدت أحداث السبت الدامي؛ حيث يوجد بها عدد من الكنائس والمحلات التجارية الخاصة بتجار مسيحيين.

ويرى محمود عبد العال، صاحب مقهى بالمنطقة، أن «الحي به الكثير من المسيحيين.. يوجد بينهم المتطرف نعم. لكن هذا شأن أي مجموعة بها الصالح والطالح.. لكننا نسكن مع بعضنا منذ مئات السنين ونعيش في جو أسري ولا توجد بينا طائفية، ولن نسمح أن تحدث بيننا فتنة؛ لأن نيرانها ستطال الجميع ولن تفرق بين مسلم ومسيحي». وبعد مصادمات السبت الماضي، التي وقعت على خلفية ادعاءات باختطاف شابة مسيحية أشهرت إسلامها، يؤكد جمال السيد، الذي يسكن بجوار كنيسة مار مينا، أن المسؤول عن هذه الأحداث هم مجموعة من المسيحيين المتعصبين في المنطقة، وأن السلفيين ليس لهم أي دور كما تزعم وسائل الإعلام،