المستشفيات العراقية تشكو نقص المال والتدريب والموارد جراء الفساد والإهمال

وزارة الصحة ضحية معارك سياسية بين الكتل التي تعامل الوزارات كغنائم منهوبة

أنفقت الملايين على معدات طبية حديثة لكن لم يتم الاستفادة من أكثرها بسبب عدم تدريب الأطباء العراقيين («واشنطن بوست»)
TT

خارج مستشفى بغداد تم طلاء البوابات حديثا باللون الأبيض ورصف الأرصفة وزراعة نبات الأذريون في ما يدل على وجود تمدن مستحيل أثناء الحرب في وقت يمتلئ فيه المستشفى العام بالجرحى ويُستهدف بقذائف الهاون والقنابل. في الداخل يتعجب العراقيون من وجود ماكينة السائل الصابوني ذات اليد الزرقاء على كل باب ورائحة الصابون المنبعثة من الأروقة النظيفة. ويسعى مسؤولون بوزارة الصحة إلى استجلاب أجهزة ومعدات طبية جديدة وإنشاء جناح كامل به أجهزة ومعدات تقدر بعشرة آلاف دولار لعلاج النتوءات العظمية، ومركز عالمي لعلاج السرطان يتكلف ملايين الدولارات، مما ينبئ بعصر ذهبي يكون خلاله نظام الرعاية الصحية بالعراق الأفضل في الشرق الأوسط.

لكن في يوم لم يكن به ضغط عمل كبير في غرفة الطوارئ بالمستشفى، توفي طفل حديث الولادة بسبب عدم توفر الحجم المناسب من قسطرة يبلغ سعرها دولار واحد فقط. وعند بداية أول مناوبة عمل يوم الثلاثاء يرقد مجيد عبد الله فاقد الوعي على ملاءة نظيفة زرقاء اللون وجراحه ملفوفة بالضمادات وهو ينتظر خلوّ سرير متصل بجهاز تنفس صناعي لمدة 12 ساعة، فالذين على قائمة انتظار الطوارئ ليسوا إلا حبرا على ورق. يقول دكتور ليث سليم هامسا: «قد يموت، وقد يجد سريرا».

ومع تحسن الحالة الأمنية والهدوء النسبي الذي يسود العراق، يقول الأطباء إن أكبر تهديد للمرضى هذه الأيام هو عدم توفر المال أو التدريب أو الموارد، لكنهم يقولون إن هذا نتيجة فساد في وزارة الصحة، حيث يتم إهدار المال العام في بنود بعينها، في حين لا يُلتفت إلى الرعاية الصحية.

وتلقي هذه المشكلات الضوء على إخفاق أكبر للحكومة العراقية المدعومة من الولايات المتحدة بشكل عام، فهم ليسوا سوى فقاعة من النخبة تعامل الوزارات من أجلهم على أنها غنائم منهوبة خلال معارك سياسية تكون المناصب الرئيسية خلالها من نصيب الأكثر نفوذا لا الأكثر خبرة وكفاءة. وتنتشر هذه القضايا إلى حد ما في الدول النامية ومن ضمنها العراق، لكنها تراجعت قليلا خلال سنوات الحرب.

لكن الولايات المتحدة ساهمت إلى حد كبير في هذا الإخفاق، حيث تم تخصيص مليار دولار من 61 مليار دولار لإعادة إعمار العراق لقطاع الصحة. لكن ما حدث كان تجاوزات هائلة وتعطيلا للعمل وسوء تخطيط وإهدارا للمال بحسب ما أوضح التدقيق الحسابي. ويقول ستيوارت بوين، المفتش العام الأميركي المختص بإعادة إعمار العراق، إنه خلال الحملة الأميركية لكسب قلوب وعقول العراقيين، «كان قطاع الرعاية الصحية هو الأسوأ، حيث لم يرقَ إلى التوقعات».

وأشار إلى أن إنفاق الولايات المتحدة على المعدات الطبية الحديثة بلغ 150 مليون دولار، لكنه لم يتم الاستفادة من أكثرها بسبب عدم تدريب الأطباء العراقيين عليها، وهو النهج الذي يبدو أنه ما زال متبعا في وزارة الصحة العراقية.

وفي غرفة الطوارئ بمستشفى بغداد العام يشعر الأطباء بالمفارقة، حيث لديهم جهاز «توشيبا» سعره 40 ألف دولار تحت تصرفهم، بينما يموت مرضى كل يوم بسبب عدم توفر المضادات الحيوية. يقول الدكتور نصرت شاكر: «إنها مشكلة إهمال إداري. نحن بحاجة إلى أجهزة علاج بالقسطرة الوريدية، فيسألوننا: هل أنتم بحاجة إلى أجهزة علاج بالقسطرة الوريدية؟».

رفض مسؤولو وزارة الصحة عدة طلبات للتعليق على هذا الأمر، لكن راضي صاخط، المتحدث باسم مستشفى بغداد طرح سؤالا، حيث قال: «يتهمنا الكثيرون بتعطيل التقدم، لكن دعني أسألك عن الوقت اللازم لإعادة كل شيء كما كان بعد سنوات من الظلم والعقوبات والتمرد والهجمات الإرهابية».

بعد خمسة أعوام من تولي الحكومة العراقية السلطة وفي الرواق الطويل وعبر الأبواب التي عليها إضاءة خافتة في شكل نجوم، كان يتحرك والد مجيد عبد الله، ثم أجهش بالبكاء وهو يطوي سجادة حمراء صغيرة في ركن غرفة الطوارئ وهو يدعو الله. لقد أصيب ابنه، الجندي العراقي ووالد خمسة أطفال، في انفجار قنبلة على جانب الطريق أثناء مرور موكب للجيش العراقي. وكانت هذه الهجمات في يوم من الأيام تستهدف القوات الأميركية التي تتراجع إلى قواعدها استعدادا للانسحاب الكامل من العراق بحلول نهاية العام الحالي.

أصيب عبد الله بشظية في مخه وتم توصيله بجهاز تنفس صناعي مؤقت على شكل صندوق بيج صغير من المفترض أن يستخدم لساعتين على أقصى تقدير، لكنه ظل يعمل لأكثر من ثلاث عشرة ساعة.

كانت غرفة الطوارئ هادئة في الساعة الحادية عشرة صباحا، فلم يكن موجودا سوى عدد قليل من المرضى وراء صف طويل من الستائر وردية اللون، أكثرهم مواطنون عراقيون عاديون تمكنوا أخيرا من الانتقال إلى المستشفى بحثا عن رعاية صحية لحالاتهم الصحية التي تم إهمالها لفترة طويلة.

خلف الستارة رقم 11 هناك شاب يعاني من ألم في الكلية. وقال سليم مشيرا إلى حظ الرجل الحسن: «سوف نجعله يجري فحصا بجهاز الموجات فوق الصوتية، حيث يوجد أكثر من جهاز». وعلى سرير آخر يرقد رجل يعاني من ألم في جانبه الأيسر ربما بسبب ورم. وأمر سليم بإجراء أشعة مقطعية وكان المريض محظوظا، فقد اشترت وزارة الصحة ستة أجهزة فحص بأشعة إكس حديثة وأصبحت قائمة الانتظار التي كانت تمتد إلى ستة أشهر أقصر بحيث لم تعد تتعدى أياما. سار سليم إلى مكتب شبه دائري في وسط غرفة الطوارئ، وسأل ممرضة مشيرا إلى وحدة رعاية الجهاز التنفسي في الطابق الأعلى التي تحتوي على 13 سريرا ليس من بينهم سرير شاغر: «هل اتصلنا بوحدة آر سي يو؟»، واتجه الطبيب نحو مكتب صغير خارج غرفة الطوارئ وهو مركز العمليات الذي أنشأته وزارة الصحة مؤخرا للمساعدة في إدارة مثل هذه المواقف، وفي هذه الحالة كان المطلوب السؤال عن الأسرة الموصلة بأجهزة تنفس صناعي في مستشفيات أخرى.

في الداخل يجلس موظف على سرير نقال، بينما يتصل آخر بجهاز كومبيوتر، وكان هناك هاتف أحمر معلق، وقال الموظف: «إنني أجري اتصالات، فإذا توفر سرير سأخطر غرفة الطوارئ».

ومن الصعب توضيح وضع مستشفى بغداد منذ أيام الحرب السيئة عندما كانت الموارد نادرة بحيث كان الأطباء يجرون عمليات القلب المفتوح دون قفازات طبية. كذلك لم تتوفر عقاقير هامة بسبب الخطورة على حياة السائقين الذي يذهبون إلى إحضارها من المخازن القريبة من بغداد. لقد كان الوصول إلى مكان العمل أشبه بمعجزة، فقد فقدَ المستشفى 40 طبيبا على الأقل في حوادث اغتيال منذ عام 2004، وصورهم معلقة على الجدران. ولا يزال يتم استهداف الأطباء حتى هذه اللحظة بين الحين والآخر. لكن في ظل تحسن الوضع الأمني يتساءل الدكتور مصعب عامر عن سبب خلوّ عربات الأدوات التي تستخدم في حالات الطوارئ خلال اليوم الذي لا يوجد به ضغط عمل كبير. وأخذ ينظر إلى الصواني المعدنية التي توجد بتلك العربات، وقال وهو يشير إلى العقاقير غير المتوفرة: «نحن بحاجة إلى أدرينالين. يجب أن يكون لدينا دوبامين، فقد نفد منذ خمسة أشهر. يجب أن يتوفر الفاليوم لعلاج النوبات».

وكان يوجد على رف ثلاث مضخات تنفس مطاطية وأخرى مكسورة للأطفال. وقال هو يهز كتفيه: «ربما يكفي هذا، لكن ماذا لو كان هناك عدد كبير من الجرحى؟».

وراء الستارة رقم 3 كان يفحص الطبيب رجلا يعاني من مرض السكري المزمن وقدمه بها غرغرينا. قال عامر: «سنعلق له المحاليل ونعطيه مضادات حيوية»، ثم سرعان ما تراجع وقال: «لكن ليس لدينا أنواع مختلفة من المضادات الحيوية، حيث لا يتوفر سوى البنسلين». لحسن الحظ لم يكن المريض يعاني من حساسية للبنسلين.

وبينما يفحص عامر عربة أخرى تحمل أدوات تستخدم في حالات الطوارئ، اقترب منه رجل وهو يلوح بقصاصة من الورق في غيظ. لقد طلب أحد الأطباء منه التجول في المستشفى بحثا عن نوع من الأجهزة الخاصة بالعلاج بالقسطرة الوريدية، وهي ضرورية للذين يعانون من قصور في جهازهم التنفسي. لكن عامر هز رأسه نافيا وقال: «للأسف هذا النوع غير متوفر. أحيانا يكون لدينا الكثير منها وأحيانا لا».وبحلول المساء كان مجيد عبد الله لا يزال منتظرا، بينما يصدر الصندوق الصغير طنينا بطيئا. كان والده في الركن نفسه يدعو بينما يتجمع أبناء عمومته حوله، وقال عمه ثامر عبد الله وهو يتحرك بخطى محمومة تفتقر إليها البيروقراطية العراقية: «لم يكلف أحد نفسه عناء إيضاح الموقف لنا. نحن لا نفهم».

وفي غرفة العمليات الصغيرة كان الهاتف الأحمر ساكنا، وكان يوجد موظف آخر قال إنه لم يتلقَّ تعليمات بإجراء أي مكالمات هاتفية. فالتقط طبيب يجلس خلف المكتب شبه الدائري بحنق جهاز استقبال وقال: «مرحبا، هل لديكم أسرة متصلة بجهاز تنفس صناعي؟». وجاءه الصوت من الطرف الأخر قائلا: «انتظر ودعني أنظر في الأمر». وبعد فترة صمت طويلة شرح خلالها الطبيب الوضع قائلا إن تلك الأسرة التي توجد في غرفة الطوارئ جزء من خطة طويلة الأمد، ليس من قبل الولايات المتحدة، فهي لم تستثمر الكثير من أموال إعادة إعمار قطاع الرعاية الصحية هنا.

لمس والد عبد الله كتف ابنه، ثم جاء الرد: «لا توجد أسرة». وعاود الطبيب الاتصال مرة أخرى. ثم بدأ والد عبد الله يخبط بيديه على صدره ويبكي قائلا: «ابني، ابني». تجمع ثلاثة أطباء حول عبد الله الذي شهد ثمانية أعوام من القصف الأميركي وقنابل المتمردين والرصاص وفوضى الحياة اليومية أيام الحرب. وأرسلوا في طلب جهاز مزيل الرجفان ودواء للقلب وكانا متوفرين، ثم أغلقوا الستارة وردية اللون. واصطحب موظفو الأمن أسرة عبد الله إلى البهو، بينما أعلن الطبيب وفاته. وكان هو الوحيد الذي توفي خلال تلك المناوبة.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»