«الربيع العربي» يطيح بأسس اتفاقية شنغن للتنقل الحر

دول أوروبية تريد العودة لمراقبة حدودها والدنمارك تضع الجميع أمام الأمر الواقع

TT

تمثل اتفاقية شنغن للتنقل الحر التي تضم 26 بلدا أوروبيا، (منها 22 بلدا من الاتحاد الأوروبي وأربعة خارجه هي سويسرا، أيسلندا، النرويج، ليشنشتاين)، المكتسب الرئيسي الثاني للمشروع الأوروبي، إلى جانب العملة الموحدة (اليورو). إلا أن «الربيع العربي» يكاد يطيح بها بسبب تواتر تدفق المهاجرين المغاربيين والأفارقة على الشواطئ الأوروبية وتحديدا الإيطالية. وجاء اجتماع وزراء داخلية الاتحاد أمس في بروكسل للإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن «تكييف» الاتفاقية من غير الإطاحة بها وبـ«الحلم» الأوروبي الخاص بقيام فضاء تزول منه الحدود الداخلية؟

كانت فرنسا أول من قرع ناقوس الخطر عندما عمدت السلطات الإيطالية إلى منح الآلاف من المهاجرين التونسيين بطاقة إقامة صالحة ستة أشهر تخولهم النقل داخل بلدان شنغن. وبما أن الكثير من التونسيين لم يخفوا رغبتهم بالتوجه إلى فرنسا، فإن باريس المقبلة على انتخابات رئاسية عمدت إلى إغلاق مؤقت لحدودها الساحلية مع إيطاليا ومنعت انتقال القطارات إليها. وتبادلت روما وباريس التهم وكل منهما تندد بعدم احترام الطرف الآخر لبنود شنغن. ولم تهدأ الأمور إلا مع زيارة الرئيس ساركوزي إلى روما في 26 أبريل (نيسان) واتفاقهما على توجيه رسالة مشتركة إلى رئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو يطالبانه فيها بإعادة النظر ببعض بنود الاتفاقية وتحديدا تعديل الشروط التي تتيح لبلد عضو إعادة العمل بحدوده الداخلية في «حال وجود صعوبات استثنائية في إدارة الحدود الخارجية المشتركة».

وتجيز الاتفاقية الحالية العودة إلى الحدود الداخلية (أي عمليا تفتيش الأشخاص والبضائع) في «حالة وجود تهديد خطير للنظام العام والأمن الداخلي»، وذلك بشكل استثنائي ولمدة لا تزيد على ثلاثين يوما. والحال أن ما تريده باريس اليوم، مدعومة من ألمانيا وإيطاليا وعدد من بلدان أوروبا الشمالية هو تغيير الشروط مما يسمح بالعمل بالحدود بشكل مؤقت ليس فقط عند وجود تهديد للأمن بل لدى تدفق موجات من الهجرة غير المشروعة وإخفاق أي بلد أوروبي في الرقابة والسيطرة على حدوده الخارجية بحيث لا تتكرر «الحالة» الإيطالية.

ورغم أن المبدأ أصبح مقبولا بشكل عام وحتى من قبل المفوضية الأوروبية وتحديدا المفوضة المكلفة بشؤون الهجرة، سيسيليا مالموستروم التي قدمت اقتراحات بهذا الخصوص، فإن ما ترفضه الدول الشاكية هو أن يعود أمر العمل بالحدود الداخلية إلى المفوضية وليس حقا سياديا لكل بلد يعمل به وفق مصالحه وضمن الأصول المرعية. ومعنى ذلك أنه إذا أخذ بمقترحات المفوضية، التي تقدمت بها في الرابع من الشهر الحالي، فإن الأخيرة هي التي تقرر ما إذا كانت الظروف تبرر لهذا البلد أو ذاك إعادة الرقابة على حدوده أم لا. والحال أن بلدانا عدة ترفض هذا الأمر.

وفي هذه الأثناء، تسببت الحكومة الدنماركية في خلق أجواء من الإحراج بإعلانها إعادة المراقبة الجمركية الدائمة عند حدودها الوطنية مع ألمانيا والسويد لمكافحة الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة. وجاء هذا القرار الدنماركي، عشية اجتماع بروكسل ليضع الأوروبيين ومعهم المفوضية أمام الأمر الواقع. وأثار القرار الدنماركي موجة انتقادات عنيفة خصوصا داخل البرلمان الأوروبي الذي يعارض أية عودة إلى السابق. لكن المعارضة تأتي من أطراف أخرى، فقد أعلن وزير الدولة البلجيكي لشؤون سياسة الهجرة قبيل الاجتماع ملكيور واتوليه أن العودة إلى الحدود الداخلية «ليس الحل» وأنه بدلا من ذلك، من الأجدى التحاور مع البلدان التي ينطلق منها المهاجرون غير الشرعيين وتقوية الرقابة على الحدود الخارجية وتوحيد قواعد التعاطي مع المهاجرين. وبرأيه، فإن ليس ثمة مكان للحلول الفردية بل إنها يجب أن تكون «جماعية».

ويبدو الانقسام الأوروبي بينا إزاء مشكلة «تسمم» الأجواء الداخلية الأوروبية لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. وواضح أن الحكومة الدنماركية اتخذت قرارها الأخير تحت ضغط اليمين المتطرف (حزب الشعب الدنماركي) بينما الرئيس ساركوزي يجاهد لدخول المنافسة الرئاسية في ظروف مقبولة بينما اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن ينمو ويترعرع مستغلا موضوع المهاجرين غير الشرعيين وموضوع الإسلام وغالبا ما يكون الموضوع واحدا. والوضع هو نفسه في إيطاليا حيث رابطة الشمال تضغط على تحالف برلسكوني لدفعه لسياسات أكثر تشددا إزاء تدفق الآلاف على الشواطئ الإيطالية. غير أن الأمور لم تحسم في بروكسل بل سيعود البت بها للقادة الأوروبيين الذين سيجتمعون الشهر المقبل. وبانتظار ذلك التاريخ، ستبقى اتفاقية شنغن رهينة القادم من البواخر من شواطئ المغرب العربي مع ما تحمله من أحلام وربما أوهام.