«تسونامي سياسي» في فرنسا إثر اعتقال ستراوس كان في مانهاتن بتهمة الاعتداء الجنسي

دفاع مدير صندوق النقد يدفع ببراءته.. وحديث عن مؤامرة لإسقاط الاشتراكي المرشح لخلافة ساركوزي

صورة التقطت مساء أول من أمس لفندق سوفيتال الذي شهد الاعتداء الجنسي المزعوم.. وفي الإطار صورة أرشيفية لستراوس كان (إ.ب.أ) و(أ.ب)
TT

«تسونامي سياسي»، شيء مهين لفرنسا، كارثة على الحزب الاشتراكي.. هذا غيض من فيض التعليقات التي تواترت منذ أن أعلن في نيويورك، مساء أول من أمس، عن اعتقال المدير العام لصندوق النقد الدولي والنجم الصاعد في الساحة السياسية الفرنسية، دومينيك ستراوس كان، بتهمة «الاعتداء الجنسي واحتجاز حرية شخص ومحاولة الاغتصاب».

وجاء وقع الصدمة قويا خصوصا بسبب صعود نجم الرجل في الساحة السياسية الفرنسية منذ أشهر، وترجيح استطلاعات الرأي له بالفوز في انتخابات الرئاسة المقررة العام المقبل.

ستراوس كان المعروف منذ سنين بأنه «زير نساء» وقع ضحية شهواته التي عرضته مرة أولى، بعد أقل من عام على وصوله إلى صندوق النقد الدولي، إلى تجربة مرة بعد أن افتضح أمر علاقته بخبيرة اقتصادية من جميلات المجر تعمل لصالح الصندوق، اسمها بروسكا ناجي. وقتها، عمد مجلس إدارة الصندوق إلى تكليف خبراء من القطاع الخاص للتحقيق فيما إذا كانت هذه العلاقة قد أصابت مصالح الصندوق ودفعت مديره العام إلى إغداق النعم على محظيته مقابل «التسهيلات» التي منحته إياها. وجاءت خلاصة الخبراء سلبية. لكن مجلس الإدارة وجه اللوم لستراوس كان لأنه «حايد الصواب» في تصرفه. ولم تتردد زوجة مدير الصندوق الصحافية المعروفة، آن سانكلير، في القول إنها «قلبت الصفحة»، وأن ما حصل لزوجها كان مجرد «نزوة مساء». وذهبت أبعد من ذلك حين أكدت أنهما «يحبان بعضهما البعض مثل أول علاقتهما».

غير أن ما حصل لستراوس كان مساء السبت في فندق سوفيتيل في حي مانهاتن الذي كان ينزل فيه، مختلف تماما. فمدبرة الغرف الشابة، 32 عاما، اتهمته بالتحرش الجنسي ومحاولة اغتصابها والاعتداء عليها وتقييد حركتها، وهي الاتهامات التي تبناها الادعاء العام ووجهها رسميا لمدير صندوق النقد.

ونقلت وسائل الإعلام النيويوركية عن المسؤول في شرطة المدينة بول براون، قوله إن موظفة التنظيف دخلت الغرفة وهي تظن أنها خالية لكن ستراوس كان خرج من الحمام واعتدى عليها جنسيا. وأضافت أن المرأة قالت إنه أجبرها على دخول غرفة النوم ثم أوصد الباب، وأنها قاومته لكنه جرها إلى الحمام واعتدى عليها مجددا جنسيا.

وقد نفى محامي ستراوس كان، «المزاعم الموجهة» ضد موكله، وأكد أنه «غير مذنب».

وكانت شرطة المطارات والمرافئ أخرت إقلاع طائرة «بوينغ» التابعة لشركة «أير فرانس». وصعد عدد من موظفيها بلباسهم المدني إلى مقدمة الطائرة، حيث ركاب الدرجة الأولى، وطلبوا من ستراوس كان مرافقتهم، واقتادوه إلى مقر الشرطة للتحقيق معه. وكان الأخير قد «نسي» في جناحه في الفندق هاتفه الجوال وبعض أغراضه الشخصية، مما فسرته الشرطة على أنه «استعجل» الرحيل من الفندق.

وكان مقررا أن يزور ستراوس كان برلين أمس، وأن تستقبله المستشارة أنجيلا ميركل، على أن يشارك اليوم في اجتماع وزراء مالية منطقة اليورو في بروكسل، ثم يلقي كلمة الأربعاء في المنتدى الاقتصادي الثاني عشر في بروكسل الذي تنظمه المفوضية الأوروبية.

وتأتي حادثة نيويورك التي تتحفظ الطبقة السياسية الفرنسية إزاءها بانتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، بعد أيام صعبة لستراوس كان؛ فقبل أيام نشرت الصحافة الفرنسية صورة له وهو يتأهب لركوب سيارة بورش مع زوجته. ثم عاودت الكرة بأن كشفت أنه يوصي على بدلاته لدى خياط النجوم في نيويورك، وأن البدلة الواحدة يصل سعرها إلى 35 ألف دولار. وأفادت المعلومات الصحافية بأن ستراوس كان وباراك أوباما زبونان عند الخياط نفسه.

وكانت هاتان الحادثتان كافيتين لفتح النار على مدير صندوق النقد وعلى حياة الأثرياء التي يتمتع بها بالنظر لثروته الخاصة وثروة زوجته. وقبل ذلك، تحدثت الصحافة عن الشقة الفخمة التي يملكانها في واشنطن وعن بيتهما الباريسي في الساحة الشهيرة التي عاش فيها الشاعر والروائي الفرنسي، فيكتور هوغو، فضلا عن الرياض التي اشترياها في مدينة مراكش المغربية، ثم فتح ملف ثروة ستراوس كان، ودارت الألسن متسائلة عما إذا كان الرجل هو المرشح الأفضل عن الحزب الاشتراكي، أي الحزب المدافع عن الفقراء، ثم سلطت الأضواء على آن سانكلير التي تزوجها ستراوس كان (وهو زواجه الثالث بعد طلاقين) في العام 1991 وعلى ثروتها التي ورثتها عن جدها، تاجر اللوحات الفنية وعلى ما يكسبه مدير صندوق النقد الذي يبلغ مرتبه السنوي الصافي أقل من نصف مليون دولار بقليل.

وكان الأخير الذي شغل منصب وزير الاقتصاد في حكومة ليونيل جوسبان اليسارية قد اضطر للاستقالة بسبب فضيحة مالية برئ منها لاحقا.

ولم يتردد اليمين الفرنسي التقليدي من مهاجمة ستراوس كان واتهامه بأنه لا يستطيع أن يفهم ويمثل الشعب الفرنسي وناخبيه بسبب «انقطاعه» عنهم، غير أن بعض أصدقاء ستراوس كان فهموا ذلك على أنه تنديد بأصوله اليهودية؛ إذ إنه يتحدر من والدين يهوديين.

وعلاقة ستراوس كان بالمال ليست جديدة، فقد ولد في مدينة نويي الراقية الواقعة على مدخل باريس الغربي. غير أن عائلته هاجرت إلى المغرب، وتحديدا إلى أغادير، التي عاد منها إلى باريس في عام 1960 من أجل دراسته الثانوية ثم الجامعية. وأبلى ستراوس كان المعروف بحدة ذكائه وامتلاكه الكثير من اللغات بلاء حسنا في دروسه وهو حاصل على دكتوراه في الاقتصاد، فضلا عن العلوم السياسية والإحصاء. وبعد سنوات من التدريس الجامعي، دخل السياسة من الباب الاشتراكي. ومع وصول الاشتراكيين إلى السلطة ولج البرلمان ثم الحكومة وزيرا. لكن اسمه برز وزيرا للاقتصاد في عام 1997. وفي عام 2007، سعى للترشح عن الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية. غير أن منافسته سيغولين روايال سبقته في الانتخابات الداخلية للحزب لتعيين المرشح الرسمي. لكنها خسرت الانتخابات أمام نيكولا ساركوزي. ولما توافرت الفرصة، دعم ساركوزي ترشيح ستراوس كان لإدارة صندوق النقد الدولي.

في الأشهر الأخيرة، كانت كل استطلاعات الرأي تؤكد على قوة وشعبية ستراوس كان وعلى قدرته على اكتساح الانتخابات الرئاسية وتأمين عودة اليسار إلى السلطة. وكان اليمين يعتبره المرشح الأخطر للرئيس ساركوزي. وكان ستراوس كان يتهيأ لترك صندوق النقد في شهر يوليو (تموز)، والتنافس ليكون مرشح الحزب الاشتراكي على أن يتهيأ بعدها للمنافسة الكبرى.

إلا أن تطورات الساعات الأخيرة ستطيح بكل السيناريوهات السابقة إلا إذا نجح ستراوس كان في إبراز براءته بشكل قاطع، وأثبت أن ما تدعيه مدبرة الغرف في فندق سوفيتيل اختلاق أو مؤامرة. وحتى في هذه الحالة، يرى مراقبون أن ستراوس كان قد «احترق» نهائيا، بل إنه لن يستطيع العودة إلى إدارة صندوق النقد ولا التنافس الرئاسي.

إذا كان القول المأثور: «رب ضارة نافعة»، فإن المنتفعين من «كبوة» ستراوس كان كثر، وأولهم رئيس الجمهورية الذي يتخلص، بأبخس الأثمان من أخطر منافس له. فستراوس كان كان مكللا بهالة نجاحه على رأس صندوق النقد، وفي التعامل مع الأزمة المالية ثم الاقتصادية العالمية. وكانت له مصداقية اقتصادية وسمعة عالمية. ولذا فإن خروجه من المسرح السياسي «خدمة» جلية لساركوزي، كما أنه خدمة لمنافسيه داخل الحزب الاشتراكي، وأهمهما اثنان: فرنسوا هولند، المرشح المعلن وأمينة عام الحزب، مارتين أوبري، التي كان يجمعها بستراوس كان اتفاق ضمني بحيث لا يترشح أحدهما بوجه الآخر. ومع خروج الأخير من السابق، تفتح اللعبة مجددا وستظهر من غير شك ترشيحات اشتراكية إضافية، لكن الحزب الاشتراكي ككل سيخرج خاسرا من هذه الفضيحة التي تصيبه في الصميم.

يبقى اليمين المتطرف وزعيمته مارين لوبن التي كانت أول من ندد بـ«سقوط» ستراوس كان. ومارين لوبن التي لا شك أنها ستترشح عن الجبهة الوطنية المتطرفة، ستجد وضعها أكثر ارتياحا في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وهي تحلم بأن تحقق ما حققه والدها جان ماري لوبن، عندما تأهل للدورة الثانية بعد خروج المرشح جوسبان من التنافس.

وهكذا، فإن «سقطة» ستراوس كان، إذا تأكدت، سيكون لها صدى قوي داخل الحزب الاشتراكي وعلى الطبقة السياسية الفرنسية بأكملها، فضلا عن صندوق النقد وسمعة فرنسا على الساحة الدولية.