ستروس - كان.. هل كان ضحية ثقافة في بلده؟

إعلاميون فرنسيون يلومون أنفسهم: عدم التعرض لأسرار الشخصيات العامة توجه خاطئ

امرأة تطالع صحيفة «ليبراسيون» وعلى صدر صفحتها الأولى صورة وعنوان حول موضوع اعتقال ستروس-كان، في مقهى بباريس الاثنين الماضي (إ.ب.أ)
TT

هي الطقوس ذاتها التي تلي هتك الستر: فضيحة تهدد بتدمير سمعة شخصية قوية في فرنسا. يقول السياسيون إنهم يشعرون بالصدمة، ويقول الأصدقاء إنهم يشعرون بالشك، في حين هناك جدل بين الصحافيين حول ما إذا كان ينبغي عليهم التحقق من الشائعات وكشف الأسرار. يبدأ الغبار بالانقشاع ثم يعود الوضع إلى ما هو عليه، وهو حماية الحياة الخاصة.

فمثلا، عندما سأل صحافي الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران خلال فترة رئاسته عما إذا كان صحيحا أن لديه ابنة خارج نطاق الزواج، أجاب: «نعم، هذا صحيح، وماذا في ذلك؟ أعتقد أن هذا أمر شخصي ولا يهم العامة». كان الفرنسيون ضالعين في جريمة قبول هذا النوع من الإبقاء على السرية: فهم لا يفضلون هذا النوع من الكشف الذي يمكن أن يمزق النسيج الاجتماعي. وما أثار صدمتهم أكثر من وجود عشيقة لميتران وابنتهما هو الكشف بعد موته أن الدولة الفرنسية كانت تدعمهما ماليا وأنها كانت توفر لهما حماية الشرطة. والآن وبعد اعتقال مدير صندوق النقد الدولي، دومينيك ستروس-كان يعود التساؤل إلى الواجهة مجددا: هل الحياة الخاصة للأثرياء والمشاهير وأصحاب النفوذ لا تخضع لقيود الأمن العام. الاتهام الأكثر خطورة الذي يواجه ستروس-كان هو محاولة الاغتصاب، لا مجرد نزوة تتضمن علاقة جنسية عابرة، يؤكد على ضرورة رفع الستار عن الحياة الخاصة للأفراد في فرنسا.

ويقول بيير هاسكي، أحد المعلقين السياسيين البارزين في فرنسا والمؤسس للصحيفة الإنترنتية «شارع 89»: «شعرنا أننا نتفوق على الأميركيين والبريطانيين في الالتزام بمبادئ الحياة الخاصة. لكننا كصحافيينا لم نقم بمهمتنا كما ينبغي. فقد تم استغلالنا وانتهكت حقوقنا بإبقائنا محافظين على الأسرار. نحن بحاجة إلى القيام بدورنا بصورة أكثر عدوانية وأن نعلن صراحة أنه ليس كل شيء خاص يكون سرا». ويرى هاسكي أنه أخطأ في حجب المعلومات في الماضي بشأن الرموز السياسية في فرنسا والتي كان بمقدورها أن تعوقه عن القيام بمهامه. ويضيف هاسكي: «أنا أعلم أن رولان دوما عندما كان وزير خارجية فرنسا كان يقيم علاقة عاطفية مع ابنة وزير الدفاع السوري. لم أكتب ذلك لأنه كان أمرا يتعلق بحياته الخاصة، لكني كنت مخطئا في ذلك فقد كانت لتلك العلاقة أثرها على السياسة الخارجية الفرنسية».

كما وبخ نفسه أيضا والإعلام الفرنسي على الحفاظ على الأسرار الخاصة بالسياسية الاشتراكية سيغولين روايال في أنها وشريكها منذ أمد طويل فرانسوا هولاند، والد أبنائها الأربعة وزعيم الحزب الاشتراكي، كانا قد افترقا خلال ترشحها للرئاسة عام 2007.

وتتزامن فضيحة ستروس-كان مع التحول في الحياة العامة الفرنسية والتي بدأت مع تصدع القوانين والأسرار التي كُشف عنها، فالطبيعة الشخصية للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلقت حالة من التعطش لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية وكل ما يتعلق بها. وقد سهلت التكنولوجيا ذلك في تسجيل وتصوير الحياة الخاصة واللقاءات العامة المحرجة على الهواتف الجوالة لتسهم في الشفافية التي لم تكن موجودة من قبل. لكن التاريخ يؤكد أن الفرنسيين كانوا يتناقلون الشائعات والأسرار وهناك كثير من الأسباب التي دفعت إلى تناقل هذه الأسرار في الدوائر الخاصة دون طرحها للنقاش العام.

السبب الأول في ذلك يرجع إلى أن الفرنسيين اعتادوا تناقل القصص غير المؤكدة بشأن السياسيين والشخصيات القوية. ويرجع تاريخ هذه العادة إلى حقبة البلاط الملكي عندما كانت المعلومات قوية، لكن على الرغم من ذلك كان التعامل معها حذرا للغاية، فقد كانت القصص الجنسية، سواء كانت صحيحة أم لا، تشكل نوعا من الترفية الجيد.

وأثر ذلك على التسامح الفرنسي بشأن السلوك الخاص للأفراد خاصة فيما يتعلق بالسلوك الجنسي، وأنه لا ينبغي للحياة الخاصة أن تنتهك من قبل المتطفلين. ويقول جان بيير كلاريس دي فلوريان، وهو شاعر من القرن الثامن عشر: «كي تعيش سعيدا ينبغي أن تعيش بعيدا عن الأنظار». ولم يكن هناك غضب شعبي عارم أو تحقيق رسمي، على سبيل المثال عندما رشح ساركوزي اسم فريدريك ميتران، ابن أخ فرانسوا ميتران، وزيرا للثقافة، على الرغم من المزاعم بارتكابه فضيحة جنسية في تايلاند.

لم يتحرك أحد إلا بعد قيام مارين لوبان، زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، بالكشف عن هذه الفضيحة وطالبت باستقالة الوزير، لكن ساركوزي دعمه وأبقاه في منصبه. والأمر الثاني، أن السياسيين في فرنسا لا يلاحقون خارج مكاتبهم سعيا وراء الكشف عن نزواتهم الجنسية (على الرغم من أن العنف ضد المرأة حالة مستقلة بذاتها). فمعروف في فرنسا أن السياسي الذي يكشف عن فحولته الجنسية، فإنه بذلك يبرز قوته: يظهر لأبناء دائرته الانتخابية أنه قادر بدنيا وعقليا على إدارة البلاد.

يذكر أنه خلال فضيحة بيل كلينتون ومونيكا لوينسكي في الولايات المتحدة اختار بعض السياسيين الفرنسيين ذوي التوجهات الكاثوليكية تهنئة الرئيس كلينتون على قوة رغبته الجنسية. وقالت ماري كريستين بوتين، النائبة في البرلمان الفرنسي وزعيمة اليمين المتدين: «إنه يحب النساء، هذه هي طبيعة الرجل. إنها علامة على صحته الجيدة». وقد دافعت بوتين عن ستروس-كان بعد القبض عليه مؤكدة أنه كان ضحية لمؤامرة. والسبب الثالث قوانين القذف والتشهير التي تحمي الحياة الخاصة، فأقل تطفل سواء في الصحف والإذاعة قد ينجم عنه إجراء قانوني وغرامات ضخمة. وهو ما جعل وسائل الإعلام الفرنسية تخشى عواقب الصحافة الاستقصائية التي تسترشد بالأسلوب الأميركي. ففي عام 2005 نشرت مجلة «باري ماتش» صورة غلاف لسيسيليا ساركوزي، التي أصبحت السيدة الأولى عام 2007 مع ريتشارد آتيس الذي قيل حينها إنه عشيقها، وقد تزوجا الآن، وقد دفع رئيس التحرير ثمن ذلك بالإقالة من المجلة لأن أرنو لاغاردي الذي يسيطر على المجموعة المالكة للمجلة كان صديقا مقربا من ساركوزي.

وأخيرا، هناك كثير من الشخصيات السياسية القوية البارزة في فرنسا، خاصة الرجال، ممن يعتقد أنهم يمارسون علاقات جنسية خارج إطار الزواج وأن الإعلان عنها قد يتسبب في تغيير المشهد السياسي في فرنسا.

فالشائعات بشأن سلوك ستروس-كان كانت تتداول في فرنسا لسنوات. وفيما يشبه لعبة الصالونات الفرنسية قام كثير من الصحافيين والمؤلفين بالاقتباس من بعضهم البعض خشية التعرض للملاحقات القضائية. وكتب كريستوفر ديلوير، أحد مؤلفي كتاب السياسة الجنسية، الكتاب الذي يحقق في الحياة الجنسية للعديد من الشخصيات السياسية الفرنسية: «من واجبنا أن نوقف أنفسنا عن نشر الشائعات. السماح بانتشارها دون امتلاك رغبة التأكد من صحتها أمر خاطئ». وأضاف: «لا يمكن أن نعطي لمواطنينا أسبابا بالاعتقاد أننا نكذب عليهم، حتى بإغفال هذه المعلومات».

يعتمد الكتاب بقوة على المقابلات المسجلة وتقارير الشرطة، وقد وصف بأنه كسر المحرمات بشأن مناقشة الحياة الخاصة للمشاهير. لكن على الرغم من أن التحقيق في جريمة مزعومة مثل الاغتصاب يختلف عن عرض تفاصيل الحياة الخاصة لشخص ما، فإن هناك ترددا في فتح بوابة طوفان من الأسرار الخاصة للشخصيات السياسية البارزة.

ويقول هاسكي: «في الولايات المتحدة عندما يكتشف أن لك عشيقة تقال من عملك. أما إذا كان لستروس-كان عشيقة، فأنا لا يهمني. ولو أنه قام بأمر خطير للغاية يمكن أن يؤثر على قدرته كشخصية عامة هنا ينبغي التوقف. نحن لم نقم بواجبنا كما ينبغي بالنسبة لستروس-كان، لكن ما أخشاه هو أن تؤدي هذه الفضيحة بنا إلى سياسات غرف النوم التي أكرهها».

* خدمة «نيويورك تايمز»