المصريون في التحرير: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي»

الطقس بطل ثورة الغضب الثانية.. يعتدل بصورة مفاجئة ليساند المتظاهرين

TT

«قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي».. أكثر من مائة عام فصلت المصريين عن هذه الومضة الحميمة من فولكلورهم، لكنهم استعادوها بقوة أمس كصرخة جماعية تناشد الطبيعة أن تخفف من حرارة شمسها، وتلطف الجو في سماء ميدان التحرير بوسط العاصمة، الذي واصل فيه المصريون أمس فصول ثورتهم، في جمعة أطلقوا عليها «جمعة الغضب الثانية».

أدرك المصريون أمس أن هذه الومضة التي انسربت من ذاكرة نضالهم العتيد كأغنية عاطفية شجية على لسان المطربة الرقيقة شادية، لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة الخلاقة، فأخرجوها من عباءة تاريخهم، وتداولوها فيما بينهم على مواقع التواصل الاجتماعي كأنشودة وطنية مغسولة بطعم ورائحة ميدان التحرير.

فبالأمس البعيد استفاق المصريون على صرخة مدوية ممهورة بخمس رصاصات أطلقها الشاب المسيحي إبراهيم نصيف الورداني على رئيس وزرائهم المسيحي بطرس غالي لترديه قتيلا أمام ديوان وزارة الخارجية منهيا نحو 5 سنوات لم يفارقهم فيها الإحساس بالذل والمهانة.

هذه الصرخة التي انطلقت يوم 20 فبراير (شباط) عام 1910، لم تكن وليدة الصدفة العابرة، أو الثأر الشخصي، بل كانت بمثابة حكم شعبي تعود حيثياته الواقعية إلى محكمة دنشواي الشهيرة عام 1906 إبان الاحتلال الإنجليزي، حين أصدر القاضي آنذاك بطرس غالي حكمه التاريخي بإعدام أربعة من الفلاحين المصريين البسطاء، كما قضت المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة على اثنين آخرين والسجن 15 سنة على أحدهم، والأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على 6 آخرين، غير أحكام أخرى بالجلد 50 جلدة على 8 من أهل القرية، بتهمة قتل ضابط إنجليزي، مات جراء إصابته بضربة شمس، في أثناء قيامه وأربعة من زملائه في يوم صيفي قائظ برحلة لصيد الحمام من أبراج قرية دنشواي بمحافظة المنوفية.

في غبار الصورة لم ينس المصريون أن تكليف القاضي بطرس غالي بتولي حقيبة رئيس الوزراء كان محض مكافأة له على أدائه في تلك المحاكمة المشينة، وبالتواطؤ مع ممثل الادعاء إبراهيم الهلباوي.

لم يستطع المصريون الطعن في الحكم الظالم الذي نص على أنه غير قابل للطعن، وكظموا غيظهم تحت القبضة الأمنية التي عمت البلاد آنذاك، لكنهم في ليلة 18 مايو (أيار) من عام 1910، انفجروا في عرس جماعي، ليودعوا بطلهم الشاب المسيحي، القاتل النبيل، الذي اغتال ابن جلدته درءا للفتنة الطائفية، وهو يخطو خطواته إلى حبل المشنقة مرددين في إيقاع فريد أخرجوه من جراب تراثهم الشعبي: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي».

بعد كل هذه السنوات يحرس المصريون ثورتهم في الميدان، بعين تتطلع إلى الغد، وأخرى مشدودة إلى السماء، وبإرادة تلقائية تحاول أن تقرِّب المسافة بينهما، لكنها تأبى أن تختصر الوطن، في صيغ وقوالب جاهزة، وتراه أبعد وأعمق من رؤى، وآيديولوجيات تحاول أن تستعيره، وتضعه كأيقونة محنطة على طاولتها الخاصة.

يصدح صوت شادية على صفحات «تويتر» و«فيس بوك»، ويستقر في قلوب المتظاهرين كقطرات من الندي، وفي عمق الميدان يردد المتظاهرون، وراء العندليب الأسمر، ومن كلمات شاعر المرح والغضب صلاح جاهين «صورة.. صورة.. صورة.. كلنا كده عاوزين صورة.. صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة».

وقبل أن يدلف العندليب إلى المقطع الثاني من أغنيته الوطنية، تختبئ الشمس كقروية خجول وراء سحابة تتهادى في دلال، مطلقة زخات من رذاذها الفاتن على رؤوس المتظاهرين، فيكمل العندليب «صور يا زمان.. صور يا زمان»، ليعانقه في اللحظة نفسها شعار أطلقته الحناجر بالميدان: «الجدع جدع.. والجبان جبان.. وأحنا يا جدع راجعين للميدان».