حكام الصين يكتبون تاريخ مسيرتهم.. من دون جوانب مظلمة

حساسيات الماضي تطلبت جهودا تحريرية دامت 16 عاما وعرضها للمراجعة من قبل 64 مؤسسة

شابات صينيات يحملن أعلام الحزب الشيوعي في مناسبة رياضية في إقليم غانغزهو (أ.ف.ب)
TT

أخيرا، كتب الحزب الشيوعي الصيني تاريخه بصراحة. وقد استغرق ذلك 16 عاما من التحرير وإعادة الصياغة، وساهم فيه القادة الصينيون الذين انشغلوا بحكم القوة العظمى الناشئة. وقال تشي زونغكوان، الذي ساعد في صياغة ما يتمنى الحزب أن يصبح الكلمة الفصل في أكثر الموضوعات السياسية حساسية وأكثر الأحداث دموية في تاريخ الصين الحديث من خلال توثيق فترة حكم الحزب في 1074 صفحة: «لم أعتقد يوما أن هذا سيستغرق كل ذلك الوقت». ومع اتجاه الصين نحو المستقبل بسرعة كبيرة، ما زال الحزب الشيوعي الذي سيحتفل بذكرى تأسيسه التسعين في يوليو (تموز) القادم يأخذ الماضي، خاصة الجزء الذي يخصه، على محمل الجد. ويوضح تشي أحد قدامى مؤرخي الحزب قائلا: «كتابة التاريخ ليست بالأمر السهل».

ويزداد الأمر صعوبة خاصة عندما يتضمن ليس فقط أكبر كارثتين من صنع الإنسان شهدهما القرن الماضي وهما القفزة الكبرى إلى الأمام والثورة الثقافية، وإنما أيضا الاضطراب الصغير الذي يعود إلى عام 1962 وفضيحة شي زهونغكسون، والد شي جين بينغ، نائب الرئيس الحالي والذي ينتظر تولي منصب الرئاسة.

ويقول روديريك ماكفاركوهار، وهو باحث بجامعة هارفارد الأميركية والخبير في شؤون السياسة الصينية إبّان حكم ماو تسي تونغ الذي تُوفي عام 1976: «إنها نكتة شيوعية قديمة تقول بأن الماركسيين يستطيعون التنبؤ بالمستقبل، لكن الماضي أصعب». وأضاف أن الماضي «هام لأنه يضفي الشرعية على الحاضر. ويجب تفسير ما حدث من أخطاء الآن».

وأصدر الحزب أول مؤلف رسمي لتاريخ الصين منذ عشرين عاما، لكنه توقف عند غزو ماو للصين عام 1949. ويقتحم الحزب الآن منطقة خطيرة من خلال نشر كتاب «تاريخ الحزب الشيوعي الصيني - الجزء الثاني» (1949 - 1978) في يناير (كانون الثاني) والذي يستكمل الأحداث التاريخية حتى العام الذي بدأ فيه دينغ شياو بينغ حذف جزء كبير من تراث ماو.

ومع اقتراب الصين من الاحتفال بذكرى تأسيس الحزب في يوليو عام 1921، يصبح التاريخ صناعة رائجة. لا يريد أحد خارج المجموعة الصغيرة المؤيدة لماو إحياء الصراع الطبقي والتطهير الوحشي. لكن الحزب يريد إرسال رسالة يراها هامة لتستمر قبضته على مقاليد الحكم ومفادها أن ازدهار اقتصاد الصين وزيادة تأثيرها العالمي هما ثمرة استمرار حكم الحزب الواحد.

وقد أنفقت الدولة 400 مليون دولار لبناء المتحف القومي الجديد الذي يعجّ بالأعمال التذكارية الخاصة بالثورة والملايين لإنتاج فيلم «تأسيس حزب»، وهو يتناول تاريخ الحزب ويقوم بالتمثيل فيه نخبة من النجوم، ويفترض أن يعرض قريبا. وعلى الجانب الآخر، صدرت تعليمات للمحطات التلفزيونية الصينية بعدم عرض مسلسلات عن الشرطة والتركيز على عرض المسلسلات التي تتناول تاريخ الحزب. وتعد عملية صياغة التاريخ أمرا هاما بالنسبة إلى ما يسمى بطبقة أبناء رفقاء ماو. فبعد أن تمتعوا بالنفوذ والثروة التي كونوها على أساس علاقات عائلاتهم، يحتفل أفراد هذه الطبقة المحدودة ذات النفوذ بنسخة من التاريخ تخلو من الوحشية وتعزز مكانتهم وتقلل من شأن الدور الذي اضطلع به آباؤهم في الحثّ على الأعمال الوحشية قبل أن يصبحوا ضحايا لها.

ويسعى شي جين بينغ، وهو أحد أعضاء المكتب السياسي والذي يفترض أن يتولى منصب زعيم الحزب العام المقبل وكان والده قد عانى من التطهير على أيدي ماو عام 1962، إلى التأكيد على أهمية كتابة التاريخ بشكل صحيح. ودعا خلال مؤتمر التاريخ الصيف الماضي، كل أعضاء الحزب الذين يصل عددهم إلى 80 مليونا تقريبا إلى «محاربة التوجه الخاطئ نحو تشويه تاريخ الحزب». ولم يأت على ذكر والده.

وبالرجوع إلى التاريخ، نجد أن ابن ليو تشاو تشي، الرئيس الصيني الأسبق الذي توفي عام 1969 بعد أن حرم من الرعاية الطبية، قد عانى من التطهير على أيدي ماو خلال الثورة الثقافية. وكتب الابن ليو يوان، الذي يعمل ضابط شرطة، في مقدمة كتاب جديد: «لقد كان الكثير ممن شغلوا منصب الأمين العام للحزب داخل البلاد أو خارجها، سواء الآن أو في الماضي، خونة». وقد كان ماو، الذي صورته معلقة على البوابة الرئيسية للقصر الإمبراطوري، هو المستهدف في الكتب التي صدرت خلال السنوات الماضية والممنوعة الآن في الصين، حيث صورته شخصا مصابا بجنون العظمة ومهووسا بالجنس ومتورطا في القتل الجماعي.

وأقر تشي، نائب رئيس مركز أبحاث تاريخ الحزب السابق، بوجود اختلافات كبيرة في الرأي بين الباحثين سواء كانوا من الصينيين أو من غير الصينيين، لكنه قال إن الحزب لم يحد عن الرواية التي رسمها عام 1981، وهي أن ماو ارتكب «أخطاء جسيمة»، لكن ما فعله من أعمال عظيمة فاق أعماله السيئة. وقال تشي: «لا يمكنك انتقاد ماو دون أن تنتقد الحزب الشيوعي الصيني».

ونظرا لحساسية موقف الحزب من الماضي، كان لا بد أن يراجع 64 مؤسسة، منها جيش التحرير الشعبي، التاريخ الجديد الذي ساهم تشي في كتابته. واستغرقت كتابة المسودة الأولى للتاريخ أربعة أعوام، لكنها لم تمرر من قبل القيادة، واستغرق إعلان المكتب السياسي للحزب الصيغة النهائية 12 عاما. وبحسب أحد المحررين، جاءت هذه الصيغة بعد «مجموعة من الطلبات الواضحة بشأن مراجعات هو جين تاو، رئيس الحزب، وشي جين بينغ، خليفته المحتمل وتسنغ تشينغ هونغ، نائب رئيس الصين الأسبق».

وطال أمد العملية بأكملها حتى توفي عدد كبير من الباحثين المشاركين فيها قبل صدور الكتاب، ولم يبق على قيد الحياة من الثلاثة محررين الكبار سوى تشي الذي بلغ الثالثة والسبعين. وساهم اهتمام القيادة في زيادة المبيعات، حيث تصدر المؤلف الذي يتكون من جزأين قائمة الكتب الأكثر مبيعا لأكثر من شهر. ويرجع ذلك إلى ضخامة حجم الطلب عليهما من وحدات الحزب التي صدرت لها تعليمات بدراسة هذا العمل. وعلى الجانب الآخر، رفض المؤرخون الآخرون المشروع، حيث قال يانغ كويزونغ، أستاذ التاريخ البارز في بكين: «إنه مشروع سياسي ودعاية سياسية. لست معنيا بهذا الموضوع».

لكن رغم المتحف القومي الذي افتتحته الدولة الصينية وما تبنته من مشاريع أخرى تستعرض التاريخ، لا يحتفي التاريخ الرسمي بانتصارات مثل أول اختبار لقنبلة ذرية عام 1964 وحسب، بل يتناول أيضا أحداثا مؤلمة ومؤسفة خاصة بالحزب. ويرى تشي أن الثورة الثقافية (1966 - 1976)، التي اعتبرها الحزب كارثة منذ فترة طويلة وحمل عصابة الأربعة المسؤولية عنها، ليست أكثر الفترات التاريخية حساسية، بل العشر سنوات التي تسبق تلك الحادثة. فخلال تلك الفترة انقلب ماو ضد الكثير من حلفائه، وفي مقدمتهم المفكرون في إطار حملة مناهضة اليمينيين، ثم كبار مسؤولي الحزب ومن ضمنهم شي زهونغكسون، والد شي جين بينغ، خليفة الرئيس هو جين تاو المحتمل.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»