الملك عبد الله.. الرقم الصعب في المعادلة الدولية.. شعاره «لا حياة لأمة بلا تاريخ ولا وجود لشعب بلا حضارة»

فتح عينيه لأول مرة على ملحمة البطولة والوحدة قبل 89 عاما

الملك عبد الله تشرَّب من والده المؤسس صفات العروبة من إباء وكرم ونجدة
TT

في قصر الحكم في الرياض، وبالتحديد عام 1343هـ الموافق عام 1924م فتح «عبد الله بن عبد العزيز» عينيه لأول مرة على ملحمة البطولة والوحدة وقد رآها تتحقق على يد والده القائد المؤسس، مما أثر على الأمير ودفعه إلى التعلق بمآثر العرب وبطولاتهم، ليصبح فيما بعد سادس ملوك الدولة السعودية الحديثة وأحد قادة العرب البارزين والمؤثرين والرقم الصعب في الكثير من المواقف والأحداث، وحوَّل بلاده إلى رقم صعب في المعادلة الدولية الراهنة بحقائقها التي لا تنفصم فيها عرى الاقتصاد عن السياسة.

ويعتبر الملك عبد الله بن عبد العزيز سليل أسرة عربية أصيلة، جذورها ضاربة في الأعماق، فهو ابن الجزيرة، وابن الصحراء، وابن عبد العزيز الملك والإنسان الموحد، أما خؤولته فمن رؤساء عشائر شمر، فجده لوالدته هو العاصي بن شريم، فارس نجيب من فرسان العرب وأحد شيوخ قبائل شمر، وكذا كان خاله مطني بن العاصي بن شريم.

أما والدته فهي «الفهدة» بنت العاصي بن شريم، تزوجها الملك عبد العزيز وسكنت في قصر الحكم بالرياض، وقد ولدت له الأمير عبد الله والأميرة صيتة والأميرة نوف، وقد توفيت في هذا القصر.

عاش عبد الله بن عبد العزيز في كنف والده مؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبد العزيز فتشرب صفات العروبة من إباء وكرم ونجدة، فهو عنصر عربي أصيل بكل ما تحمله الأصالة من معنى؛ حيث علقت أحداث تلك المرحلة التاريخية بذهنه، وهي مرحلة مشحونة بالصراعات القبلية والفكرية في شبه الجزيرة العربية، إلى جانب التطورات السياسية في العالم العربي، وفي العالم أجمع إبان الحربين العالميتين.

نشأ الملك عبد الله بن عبد العزيز، منذ طفولته، في محيط القيادة الواعية، والعقيدة الإسلامية السمحة، في عمق وصفاء، وشمائل عربية متعددة من الرجولة والصدق، وقوة الإرادة، ونقاء السريرة والشجاعة.. فمعلمه الأول هو الملك عبد العزيز، الذي أثر فيه تأثيرا واضحا، وأفاد الملك عبد الله من مدرسة والده وتجاربه في مجالات الحكم والسياسة والإدارة، وتلقى تعليمه ملازما لكبار العلماء والمفكرين الذين عملوا على تنمية قدراته بالتوجيه والتعليم أيام صغره؛ لذلك فقد كان، وما زال، حريصا على التقاء العلماء والمفكرين وأهل الحل والعقد، سواء داخل بلاده أو خارجها. كما أن الدعامة الثانية في تكوين شخصيته هي ثقافته التي استمدها من قراءاته المختلفة في جوانب العقيدة والفكر والثقافة والسياسة والتاريخ؛ حيث إن للملك عبد الله اهتمامات خاصة وكبيرة بالأدب والأدباء، وله علاقات وثيقة بكثير من الأدباء؛ حيث يرى أن في الكتاب طريقا لفهم ثقافة العصر ونظرياته وأفكاره وعلومه التي لا تنتهي، وهذا ما جعله يهتم بالكتاب وأهل الثقافة وكان من نتاج ذلك أن أسس مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض، كما أسس شقيقتها الأخرى في الدار البيضاء في المغرب، وتأكيدا على اهتمام الملك عبد الله بن عبد العزيز بالثقافة فقد أنشأ، قبل ربع قرن، المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، فهو صاحب فكرة المهرجان الذي أصبح يقام سنويا وتشارك فيه كل الفعاليات الثقافية والتراثية من مختلف أنحاء السعودية ويدعى إليه كثير من المفكرين والعلماء والمثقفين في جميع أنحاء العالم.

تعددت هوايات الملك عبد الله التي لازمته منذ الصغر وحتى اليوم ما بين القراءة والسباحة وممارسة رياضة المشي والفروسية، كما برز الملك باستخدام الأسلحة المختلفة ويعتبر من الرماة المشهورين، كما يجيد الملك لعبة البوليز.

ويميل الملك عبد الله بطبعه إلى البساطة في العيش؛ فهو يرى نفسه دائما بين البسطاء من الناس، لا يعرف الكبر أو التعالي إلى قلبه طريقا، كما أنه طاهر النفس، متسامٍ مع مكارم الأخلاق، يتعامل مع الآخرين بكل رحابة صدر، وينصت لمحدثه بكل هدوء فيوحي له بالاطمئنان، إن تحدث أوجز، وإن قال فعل، فهو مع إحقاق الحق ومناجزة الباطل، رافقت طفولته وصباه الصفات العربية، يهوى الصحراء، وقد أمضى جزءا من شبابه خارج المدن في الصحراء ولا يزال يخرج إليها كلما وجد متسعا من الوقت، وتعتبر روضة خريم مقرا موسميا له، خصوصا أيام الربيع والشتاء.

ويعتبر الملك عبد الله من الشخصيات النادرة في العالم العربي التي تتعامل مع الأحداث بكل الصراحة والوضوح والحكمة والاعتدال، والشجاعة في مواجهة المواقف، كلماته تخرج حاسمة من نفس مؤمنة بما تقول وتعتقد. يحترم الملك عبد الله من يتعامل مع بلاده بالندية؛ فكرامة وطنه ينبغي ألا تُمس، فالعالم وُجد ليتعاون، والمهم أن يكون التعاون متكافئا، كما يؤمن الملك عبد الله بالوحدة والتضامن، ويشعر بالألم حيال الذين يُظهرون خلاف ما يبطنون في الساحة العربية، في وقت تحقق فيه المطامع الدولية أهدافها في عالم عربي قدره غير هذا ووطنه كان يمكن أن يكون أفضل وأقوى من هذا الواقع.

تمكن الملك عبد الله أن يضع بلاده، خلال سنوات قليلة من عمر الدول والشعوب، في مصاف الدول ذات الحضور السياسي والاقتصادي اللافت على مستوى العالم، كما أصبح رقما صعبا في كثير من المواقف والأحداث، وتميز بطروحاته الواضحة وجرأته في الكثير من المواقف والرؤى.

وعُرف عن الملك عبد الله بن عبد العزيز، قبل أن يصل إلى سدة الحكم في بلاده وبعده، تمسكه الشديد بالقيم الإسلامية والشمائل العربية الأصلية. كما عُرف عنه حرصه على الاستفادة من أحدث معطيات التقنية الحديثة في مجالات التنمية ومواكبة مسيرة الحضارة العالمية وعطاءاتها، لكن بعيون مفتوحة، وعقول يقظة، فهو ضد الانبهارات بالثقافات الوافدة التي تستهدف الاستخفاف بالثقافة الوطنية وعزل الأجيال عن ثقافاتها وتراثها وأصالتها. كما أنه ضد الانهزام أو التأثر بموجات التحديث والانسلاخ عن القيم الموروثة، كما أن الملك يؤمن بضرورة التواصل بين مختلف الثقافات واستيعابها، وإرساء مبدأ الحوار الواعي، والخروج من دائرة التبعية الثقافية، وصولا إلى رحاب التواصل المفتوح بين المجتمعات الإنسانية.

ودائما يؤكد الملك أن التراث هو الخلفية الفكرية والحضارية للأمم، وهو قاعدة التطور والارتقاء، فلا حياة لأمة بلا تاريخ، ولا وجود لشعب بلا حضارة.

وفي حديث عمره 28 عاما، يؤكد الملك عبد الله (عندما كان أميرا) الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها بلاده، ويترجمها في أقواله وأفعاله؛ حيث يشير إلى أن «هي أولا وقبل كل شيء نهج ينطلق من عقيدة إيمانية راسخة في عالم أحوج ما يكون إلى العقيدة السماوية بعد أن امتد طغيان المادة ليشمل أكثر علاقاته.. إنها أسس تعتمد على كتاب الله وسنة رسوله.. دستورا وفكرا ونهجا، وما يقتضيه ذلك من تضامن الدول الإسلامية، لتحقيق العدل والسلام، وإنقاذ الإنسان في العالم.. وهي، ثانيا، تعتمد على فهم لواقع الحياة والتشريع الدولي، والتزام بما يفرضه هذا التشريع ومنظماته.. وهي، ثالثا، مبنية على فهم للواقع العربي ومتطلباته، والتزام بما يحقق الخير له، وهي، أخيرا، تنطلق من فهم عميق، وإحساس مرهف، وشعور بالمسؤولية نحو تنمية المواطن وتحقيق متطلباته، وخلق مجتمع الرفاهية والعدل».

وبرؤية الخبير، يقول الملك، في عبارات واضحة تؤكد أن التطور والحداثة هاجسان له: «نحن مجتمع مفتوح على الجميع، التكنولوجيا الجديدة جعلتنا في قلب العالم، بل وجعلت العالم في قلب السعودية.. المتغيرات كثيرة، والموازنة بين ما هو موجود وما يجب أن يكون موازنة دقيقة.. الآن هناك عناية بالصناعة والزراعة وإيجاد بدائل للثروة النفطية أو موازن لها»، مشددا بالقول: «نحن نريد لأمتنا أن تكون أمة حضارة لا أمة مدنية، ففي المدنية تطغى السلبيات على الإيجابيات، أما في الحضارة فتنفي الإيجابيات كل سلبية، لذلك فالأمة الحضارية هي دائما أمة معطاءة للتراث الإنساني لا أمة مبددة لهذا التراث.. ويجب أن نفطن إلى خطر استبدال النفعية بالنخوة، واعتبار الشهامة والنجدة والكرم أمورا تدخل في باب الموازنة بين الأرباح والخسائر.. وقد وجدنا في العقيدة أفضل ما يصون تلك الفضائل، وينفي سلبيات المجتمع ويحافظ للأمة على رسالتها الحضارية، ومن خلال المحافظة على جوهرها الذي وصفه العزيز الحكيم حينما قال: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)».

وفيما يتعلق بربط الحداثة والأصالة، يطرح الملك عبد الله نظرته في هذا الجانب من خلال استشهاده بالمؤسسة العسكرية التي رعاها منذ نحو نصف قرن وأسهم في تطويرها بعد أن شهد الحرس الوطني منعطفا مهما في تاريخه بتعيين الأمير عبد الله بن عبد العزيز عام 1962م رئيسا للحرس، ومعه انتقل هذا الجهاز من مجرد وحدات تقليدية من المجاهدين إلى وحدات عسكرية مسلحة بأحدث منتجات العصر ليتحول خلال العقود الماضية إلى مؤسسة حضارية عملاقة وقوة عسكرية متجددة؛ حيث أشار الملك بقوله: «إن الحرس الوطني تجربة رائدة وفريدة في مضمار القوة العسكرية، ونحن، في سعينا نحو تحقيق كل ما من شأنه خير أمتنا وبلادنا في مسيرة البناء، نحرص على تطوير كل جوانب الحياة فيها.. والحرس الوطني واحد من القطاعات التي نهدف إلى تطويرها لتصل إلى المستوى الأحدث والأفضل، في مجال التدريب والتسليح والشخصية العسكرية التي تكون درعا واقية لهذه الأمة وأهدافها وتطلعاتها، وتحقيق الأمن لشعبها.. إن مسيرة التطور لا تقف عند حدود أبدا، وفي القوات المسلحة بشكل خاص فإن التطور في التسليح والتدريب نتيجة للتجديد المتواصل في المنتجات العسكرية لا يتوقف، وكل ما نأمله هو تحقيق التطور بما يتلاءم مع أحدث الأساليب والوسائل التي أنتجها العلم الحديث ضمن حدود الأهداف التي ذكرت».

ويشدد الملك، في خطاب وجهه للأمة العربية والإسلامية قبل 22 عاما بمناسبة عيد الفطر، على أن مسيرة التطور لا تقف عند حدود، ليلتقي أقدم القديم بأحدث الحديث: «إن ما حولنا من عالم بارد، ومثقل بأعباء الشيخوخة وهواجسها، ليبرهن على أن ديننا، بنظامه، ينفرد من بين كل الأديان والأنظمة، بتنسيق بين شؤون المادة وشؤون الروح، وتوفيقه بين سلطات الدولة وحقوق المواطن، فنظامنا، كما تعلمون، ليس نظاما سلطويا محوره الحاكم، بل نظام إنساني محوره الإنسان.. إنه نظام الوسطية والوسط، فلا تطرف ولا جمود، ولا جموح ولا قعود، بل استمساك بتراثنا، وتفاعل بحاضرنا، وانفتاح على عالمنا، والأخذ بالصالح ونبذ الطالح، والتصدي بعزيمة المؤمن لكل ما يخالف جوهر الإسلام».