المصريون يبتكرون حيلا بعد «ثورة يناير» للتغلب على أزماتهم

مرونة الطبقات البسيطة تغلبت على المشكلة.. والأوضاع الاجتماعية تضع الصفوة على المحك

TT

على غير عادته، أصبح الدكتور فيصل أحمد بعد «ثورة 25 يناير» يقضي أوقاتا طويلة يدخن الشيشة ويقرأ الصحف أمام مطبعته الكائنة في حي الفجالة بوسط القاهرة، بعدما كان لا يجد وقتا لقراءة الصحف حتى في منزله الذي كان يصله منهكا بعد يوم طويل من العمل.

فيصل (55 عاما) الذي لم يكن يجد وقتا لرؤية أسرته، أصبح يعاني الآن من أنه لا يجد ما يشغل وقت فراغه الكبير به، وهو ما يفسره بقوله «وضعي المادي سيئ جدا بعد الثورة، فحجم الأعمال بالمطبعة تراجع بشكل مخيف».

ويقول فيصل لـ«الشرق الأوسط»، إن «العمل في المطبعة لم يكن يهدأ قبل الثورة، فحجم المطبوعات كان كبيرا جدا.. وبالتالي وضعي المادي كان ميسورا»، مشيرا إلى أنه كان يضطر في كثير من الأحيان لرفض أعمال مطبعية كثيرة لازدحام جدول المطبعة بأعمال أخرى.. ولكن بعد الثورة، قلصت الكثير من الشركات المتعاملة مع مطبعة فيصل حجم مطبوعاتها الشهرية ترشيدا للنفقات، وهو ما انعكس سلبا عليه، فانكمش دخل المطبعة الشهري بمعدل كبير ومحزن.

ويوضح فيصل أن مشكلته تكمن في أنه مطالب بمصاريف ثابتة مستحقة كل شهر على المطبعة، بالإضافة لمصاريف أسرته.. وهو ما يجعله يحاول التكيف مع الأزمة بأي طريقة ممكنة. ويضيف بعد برهة من السكون «لا يمكن أن أغير نشاطي، أنا لا أبيع الساندويتشات مثلا»، موضحا أن نشاطه غير مرن، وهو ما يجعله غير قادر على التكيف مع الظروف الطارئة.. ولكنه استطرد قائلا «نحاول قدر الإمكان تخفيض الأسعار للزبائن حتى نفوز بهم».

المطبعة التي تحتوي على ثلاث ماكينات طباعة كانت بابا مفتوحا للرزق لأسر عشرة عاملين بها. يقول فيصل عنهم: «نصفهم ذهبوا للبحث عن رزقهم في أي مهنة بسيطة.. فخمسة من العاملين تركوا المطبعة بحثا عن باب آخر للرزق، وقد نجحوا، فمنهم من يبيع المنتجات الصينية في سوق العتبة، ومنهم من اتجه للعمل كسائق على سيارة نقل».

ولكنه أكمل حديثه بنبرة يملؤها الأسى «وضعي الاجتماعي يمنعني من ذلك بالطبع»، ففيصل الذي تتعلم بناته الثلاث في مدارس خاصة، واعتاد أن يقضي عطلته الصيفية في الساحل الشمالي الغربي لمصر، التي كانت ترتادها الطبقات الغنية قبل «ثورة 25 يناير»، لا يمكنه أن يمتهن غير مهنة الطباعة. ولكن أكثر ما يحزنه الآن هو أنه غير قادر على صيانة آلاته المعطلة، قائلا «تكلفة الصيانة مرتفعة وحجم العمل لا يدفعني للإنفاق على صيانة الآلات».

حال الدكتور فيصل لا يختلف كثيرا مع وضع المهندس هشام عادل، الذي يعمل منذ 30 عاما كمهندس صيانة ماكينات الطباعة، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «الأوضاع الاقتصادية جعلتني جليس البيت لأول مرة منذ 30 عاما».. وهو الوضع الذي لم يعتد عليه هشام الذي لم يجلس قط في بيته دون عمل منذ تخرجه في كلية الهندسة أواخر سبعينات القرن الماضي.

المخاوف من العثرات الاقتصادية القادمة جعلت أصحاب الشركات لا يقدمون على شراء آلات جديدة ولا صيانة القديمة منها، وهو ما أوقف رزق المهندس صاحب الـ54 ربيعا، فهشام عائل لأسرة من الطبقة فوق المتوسطة تتكون من ثلاثة أبناء وتعيش في حي راق بالقاهرة.. وهو ما يتطلب مصاريف شهرية ثابتة، يخشى ألا يستطيع الوفاء بها في الفترة المقبلة، خاصة أنه أصبح دون دخل مادي تقريبا الآن.

وقال: «رغم ظروفي الحالية، فإنني أؤيد الثورة، فمصلحة مصر تسبق مصالحنا الضيقة»، هكذا أنهى هشام حديثه، متمنيا أن تتحسن أحوال البلاد، وبالتالي أحواله في أقرب وقت.

وفي الوقت الذي يعجز فيه البعض من الطبقات الأعلى على التكيف تماما مع تردي الأوضاع الاقتصادية، فإن البعض تمكن من التكيف مع الظروف دون المساس بوضعه الاجتماعي. فمحمد مصطفى، المرشد السياحي الحر بالأقصر وأسوان، اعتاد على مرافقة أفواج السائحين الأجانب، وخاصة الإسبان منهم، وهو ما كان يوفر له مصدر رزق كريما.

ولكن مع انخفاض معدلات السياحة الأجنبية الواردة، انخفض دخله بشكل كبير، ويقول مصطفى لـ«الشرق الأوسط»: «موسم السياحة الشتوي كان مصدر رزقنا الأكبر، بسبب اعتدال الطقس في مصر مقارنة بالدول الأوروبية، ولكن ظروف الثورة هذا العام حرمتنا منه تماما».

مصطفى الذي ينتمي لأسرة ميسورة رفض تماما تلقي أي مساعدة مادية من أبيه، كما رفض الاستسلام للواقع الصعب، فعدل قليلا من نطاق نشاطه منتقلا للعمل في القاهرة.. وبدأ التعامل مع عدد السائحين الأجانب، موضحا: «نعم، ما أتحصل عليه هنا قليل، ولا يقارن بما يدفعه الأجانب في الأقصر، ولكنه أفضل من لا شيء»، مشيرا إلى أنه أيضا يبحث عن أي وظيفة تتطلب مترجما إسبانيا، وهي اللغة التي يجيدها بطلاقة.

وفي مجال السياحة أيضا، الذي يعد الأكثر تضررا اقتصاديا جراء إحجام السياح الأجانب عن القدوم لمصر، اضطر الكثير من منظمي الرحلات السياحية للأجانب في المدن السياحية كشرم الشيخ والغردقة، إلى تقديم برامج سياحية جديدة تناسب ميزانية السائح المصري.

البرامج الجديدة تشمل أماكن ترفيهية بمبالغ مناسبة، وهو ما يقول عنه أحمد عز (24 عاما) أحد منظمي تلك البرامج: «لا بد أن نتعايش مع الظروف الجديدة»، موضحا أن تلك الفكرة لم تعوضه وشريكه تماما، ولكنها أفضل من الاستسلام للواقع، قائلا «علي أن أدفع أقساط سيارتي وعلى شريكي أن يدفع أقساط شقته، لذا علينا التكيف بأي شكل».

أما محمد العربي، المحامي بإحدى الهيئات الحكومية في القاهرة، فقد تم إنهاء عقده بصورة فردية وتعسفية من قبل الهيئة التي يعمل بمكتبها القانوني منذ عامين. قرار إنهاء عقده تضمن عدم الحاجة لمجهوده حاليا، وهو القرار الذي يصفه العربي بالقاسي وغير المبرر.. فالعربي الذي كانت وظيفته توفر له 1500 جنيه مصري شهريا (نحو 255 دولارا) أصبح بلا مصدر رزق تماما.

يقول العربي لـ«الشرق الأوسط»: «فجأة أصبحت بلا عمل، وبطريقة غير قانونية، وهو ما تركني بلا دخل»، مشيرا إلى أنه سيقاضي جهة عمله حتى يحصل على حقه. ولكن العربي كان أكثر تكيفا مع الظروف، حيث بدأ مؤخرا في تقديم المساعدة القانونية لجيرانه ومعارفه، فيما يتعلق بكيفية إنهاء الإجراءات في المصالح الحكومية بمقابل مادي بسيط.

أكثر الطبقات قدرة على التكيف مع تردي الأوضاع الاقتصادية كانت الطبقات البسيطة، والتي أبدت مرونة أكبر في التنقل بين المهن الخدمية البسيطة. فأشرف خليل (57 عاما) الذي تتكون أسرته من 4 أبناء، عمل لسنوات كسائق بإحدى شركات الحلوى بالقليوبية (شمال القاهرة)، وبعد الثورة قررت شركته الاستغناء عن خدماته ضمن عشرات غيره، وهو ما جعله بلا مصدر رزق.. ولكنه الآن يعد أشهر بائعي الشاي في ميدان التحرير، وكل أماكن الاعتصامات والمظاهرات القريبة منه.

المشكلة أنه في الوقت الذي يعاني فيه عشرات الآلاف من المصريين من سوء الأحوال الاقتصادية في مرحلة ما بعد الثورة، تتجه الأنظار فقط نحو الطبقات محدودة الدخل أو التي تتحصل على رزقها بطريقة «اليومية»، وهي النظرة التي تغفل معاناة طبقات أخرى أفضل حالا بشكل واضح وجلي، والتي تأثرت ماديا بطريقة مؤلمة جراء التبعات الاقتصادية للثورة المصرية. فإذا كانت بعض الطبقات البسيطة تمكنت بمرونة فائقة من التكيف مع الأزمة الاقتصادية بتغيير نشاطها مثل أشرف وآخرين، ألا أن طبقات أرقى فشلت في تغيير نشاطها لعدم مرونة نشاطهم الاقتصادي كالدكتور فيصل، أو لمكانتهم الاجتماعية كالمهندس هشام.. وهو ما يحتم عليهم حاليا السحب من مدخراتهم لمواجهة احتياجاتهم المعيشية، الأمر الذي يضع مستقبلهم المادي على المحك.