«بابا طيب».. على أبواب عقد ثان في قيادة تركيا

أردوغان تجاوز حزبه في الشعبية.. ويحسن فن إبراز نفسه خاسرا في أوج الإمساك بالسلطة

أردوغان
TT

تعالت الصيحات من إحدى الشرفات بينما كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يمشي مختالا في إطار حملته الانتخابية في هذه المدينة الصناعية النابضة بالحياة والعاصمة العثمانية السابقة. «بابا طيب!»، تلك هي العبارة التي ترددت على ألسنة الهاتفين، والتي رسمت ابتسامة على وجه أردوغان.

ربما افتقر هذا اللقب إلى ثقل لقب «أبو الأتراك»، ذلك اللقب الذي منح لمصطفى كمال أتاتورك بعد أن أسس تركيا الحديثة في 1923. لكنه أوضح الكثير عن أردوغان، ذلك الرجل الذي يحظى بشعبية كبيرة بين معارضيه، فضلا عن كونه صاحب كاريزما مميزة ورؤية مثالية حالمة بالنسبة لأنصاره، والذي سيدخل قريبا عقده الثاني كقائد لدولة ساعد في تحويلها جذريا.

وبينما تستعد تركيا لانتخابات في 12 من الشهر الحالي، مع أن نسبة التأييد لأردوغان تبقى التساؤل الوحيد المطروح، فإنها تواجه الربيع العربي، الذي باغتها والمطامح التي تتجاوز حدود إمكاناتها والمخاوف المتزايدة من أن يكون بقاء أردوغان في السلطة لمدة ثماني سنوات قد أدى بشكل حاسم إلى تحويل السلطة من النخبة العلمانية القديمة إلى حزبه الجديد وطبقة التجار والمهاجرين والمضطهدين الذين يتودد إليهم الحزب.

لكن، حتى منتقدوه يعترفون بأن هذه الدولة البالغ تعدادها 79 مليون نسمة مختلفة تماما عن تلك الدولة التي آلت إليه، لظهورها كقوة مؤثرة في منطقة ظلت خاضعة لهيمنة الولايات المتحدة لفترة طويلة.

ورغم أن تركيا لا تزال تواجه مشكلة البطالة، فإن أعمالها التجارية في ازدهار. وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإنها تعمل كوريث للإمبراطورية العثمانية، عبر توطيد علاقات مع إيران وجيرانها من الدول العربية على حساب إسرائيل.

وفي ظل القضايا المتعلقة بالهويات - الكردية والتركية والعلمانية والدينية - قديمة الأزل التي ألقت بظلالها على الدولة، تولى الحزب الحكم في فترة تبدو فيها الانقسامات أقل وضوحا وربما أقل ارتباطا بدولة تمضي في خطاها نحو التحديث.

تتمثل القوة الانتخابية في تركيا، في حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان، والمعروف اختصارا بـ «إيه كي»، مثلما كانت منذ أن فاز في أول انتخابات خاضها عام 2002. غير أن القوة التي لا جدال فيها في هذا البلد، تتمثل في أردوغان، 57 عاما، عمدة اسطنبول ولاعب كرة القدم شبه المحترف سابقا والابن المفضل لحي «قاسم باشا» الشعبي المعروف برجاله الأقوياء الصرحاء.

وفي الوقت الذي تشير فيه الاستطلاعات إلى أن حزبه يفوز بأغلبية الأصوات من خلال حملة انتخابية تروج لقادة الحزب باعتبارهم مجددين وذوي شعبية ومدافعين عن حقوق الفقراء، يبدو أردوغان أعلى مقاما بكثير من الحزب. وكشف استطلاع أجري أخيرا، أن نصف الأصوات أتت عن طريق رئيس الوزراء نفسه، وهو تفويض شعبي استغله حزبه في دفع عجلة الإصلاح الاقتصادي وتحدي سلطة النخبة القديمة من خلال التعديلات الدستورية والدعاوى المنظورة أمام المحاكم، بل والترويع، على حد قول البعض. قال يلماز أسمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بهتشه شهير التركية: «إنه ظاهرة فريدة من نوعها بحق».

وفي حشد انتخابي هذا الشهر في كوجالي، إحدى المدن الصناعية الأخرى، سار أردوغان في استاد يعج بعشرات الآلاف من أنصاره، في خيلاء، مباعدا بين ساقيه وهو يهز كتفيه المنحنيتين. وتملكت الجموع التي انتظرته لساعات حالة من النشوة الغامرة. صعد أردوغان المنصة مرتديا بدلة من دون ربطة عنق، وقد اختفت نظرته المحدقة بقوة خلف نظارته الشمسية. وقال مخاطبا الجمهور: «لم نأت لنحكمكم! بل أتينا لخدمتكم».

يشبه أردوغان أي خطيب مفوه في المنطقة، ولديه فهم غريزي لجمهوره. وهو يجمع بين سمات خطيب في صلاة الجمعة وشخص مثير للفتنة والاضطرابات في المنطقة، والذي يظهر نفسه بمظهر الخاسر حتى وهو يتمتع بسلطة لا مجال للشك فيها.

إنه على درجة كبيرة من التقوى والورع، لكن خطابه لم يشتمل على الكثير من الجوانب الدينية. بل كان مفاد رسالته هو تجميع كل السمات المميزة لأردوغان، والتي تشمل الشعبية والحس الوطني والتمسك بالفضيلة والأخلاق، مغلفة بمجموعة إصلاحات على رأسها بناء المدارس وتمهيد الطرق وإصلاح البالوعات وتجديد المستشفيات. ووعد الجمهور قائلا: «فعلنا كل هذا من قبل، وسنفعل ما هو أفضل الآن». وكان جمهور الحضور يمثل قطاعا عريضا من شعب تركيا، وكان العدد الأكبر منهم من أصحاب الوجوه الصارمة المحرومين من حقوقهم القادمين من منطقة الأناضول الحيوية التي يتودد أردوغان لأهلها.

«لطالما أحببته منذ أن كان عمدة لاسطنبول»، هكذا تحدثت ماهون أويان، 46 عاما، وهي ربة منزل جلبت أبناءها الثلاثة للاحتشاد ورفعت العلم البرتقالي الذي يرمز للحزب. وأضافت: «منذ ذلك الحين، كان بمثابة أخ في هذا العالم، وسيكون كذلك أيضا في المستقبل».

ترجع شعبية أردوغان إلى خمسينات القرن الماضي في تركيا. فقد قيل إنه عمل ببيع عصير الليمون وكعك السمسم في شبابه في حي قاسم باشا، ويوقره سكان هذا الحي بوصفه ابنا مفضلا لهم. وفي سراي كافيه، المزين بصور لأردوغان، أكد يسار كيريشي، صاحب المقهى، أن رئيس الوزراء يعرف كل سكان الحي بأسمائهم. وقد ظهرت على كيريشي أمارات الغضب حينما نظر إليه من يحدثه نظرة عدم تصديق. فصاح، وهو يضرب بإصبعه على صدره، قائلا: «ليس هذا مدعاة لأي شك!».

على الحائط، كانت هناك صورة لأردوغان إلى جانب أتاتورك. بينما ظهر في صورة أخرى في حفل ختان بأحد الأحياء. وبدت صورة كبيرة له وهو يقرع الرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريس في اجتماع في دافوس بسويسرا في 2009.

ثمة جدل مثار منذ فترة طويلة حول ما إذا كانت تركيا قد مالت إلى كفة الشرق بعد عقود من الانحياز للغرب، بوصفها عضوا في حلف شمال الأطلسي وحليفا شبه مؤكد للولايات المتحدة. وما زالت تتبنى اسميا هدف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بتنفيذ الإصلاحات التي تلزمها بها عملية الانضمام والتي جعلت من تركيا دولة أكثر ليبرالية.

لكن نظرا لإدراكهم بتضاؤل القوة الأميركية في المنطقة، بات المسؤولون الأتراك أكثر إصرارا وبقوة في الشرق الأوسط، متباهين بأنفسهم لإتاحتهم قنوات مفتوحة لكل الأحزاب.

وتندرج هذه السياسة تحت مبدأ «تصفير المشكلات» مع دول الجوار، رغم أنه لم يثمر سوى عن نجاحات محدودة. فما زالت تركيا تعاني من مشكلات مع أرمينيا، فضلا عن عجزها عن حل النزاع في قبرص. وفيما عملت من خلال علاقتها بإسرائيل كوسيط بين سوريا وإسرائيل، انهارت علاقتها بإسرائيل بعد أن قتلت القوات الإسرائيلية تسعة أشخاص على متن أسطول بحري تركي كان يحاول اختراق غزة. وقال أردوغان في لقاء أجري معه: «المشكلة تكمن في إسرائيل».

ويعترف مسؤولون أتراك بأن وزارة الخارجية ما زالت تتمتع بنفوذ محدود على نحو يحول دون تحقيق طموحاتها كقوة إقليمية. فقد تكبدت تركيا خسارة قدرها 15 مليار دولار على الأقل في الاستثمارات أثناء الحرب في ليبيا. وتواجه سورية، التي كان ينظر إليها باعتبارها نقطة ارتكاز تركيا لدمج اقتصاد المنطقة، ثورة تضع علاقة الصداقة التي تربط أردوغان بالرئيس بشار الأسد في موضع اختبار. وفي الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى مصر باعتبارها حليفا لتركيا تم اكتشافه حديثا، ينظر إليها آخرون باعتبارها منافسا جديدا في منطقة يظل أردوغان أحد أبرز الشخصيات فيها.

ويأتي التفاؤل من الإرث العظيم لأردوغان: اقتصاد زاد أكثر من ثلاثة أضعاف منذ 2002، وصادرات بلغت قيمتها 114 مليار دولار سنويا بعد أن كانت قيمتها 36 مليار دولار. وتحتفظ أوروبا بسوقها المتميزة، لكن رجال أعمالها عبروا الطرق التجارية التركية ولديهم شعور بالتفاؤل بالأسواق غير المستغلة. ويفد كثيرون من الأناضول، مشاركين آيديولوجية الحزب الممثلة في مبدأ المحافظة الاجتماعية والليبرالية الاقتصادية، مع مسحة من الحنين لأيام الإمبراطورية العثمانية القديمة.

وهم يحبون الاستشهاد برأي أردوغان، وهو أن تركيا ستصبح ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا بحلول 2050. والثقة التي يبثها أردوغان أحيانا ما يكون مبالغا فيها إلى حد أنها تقترب من روح الشوفينية أو الغلو في الوطنية.

«نحن لا نرغب في أن نكون شعوبا في المرتبة الثانية أو الثالثة، بل نرغب في أن نكون في المرتبة الأولى»، هكذا قال هاكان كينكيليك، مدير قسم التجارة الخارجية بمصنع «سان بيت»، وهو مصنع بلاستيك في غازي عنتاب، بالقرب من الحدود السورية، والذي زادت صادراته لأكثر من الضعف خلال ثلاث سنوات.

يبدو أن الشعور بالحماسة الشديدة قد اكتسح مختلف أجزاء الدولة التي تعود إلى عهد قديم، والتي ما زالت موجودة بالطبع. ويخشى كثير من المثقفين من أن يؤدي انتصار ساحق لحزب أردوغان الشهر المقبل إلى تمكين الحزب من إعادة صياغة الدستور، مع المشاركة المحدودة للمعارضة، بل وحتى وضع نظام رئاسي جديد اقترحه أردوغان.

إن النزعة الفاشستية لدى أردوغان - الممثلة في حساسيته للرسوم الكاريكاتورية الساخرة وازدرائه النقد ومحاولاته المنهجية تفكيك النخبة العلمانية المحافظة في الجيش والمحاكم - أدت إلى فقدان الحزب قدرا من الدعم الليبرالي الذي كان قد حظي به من قبل. وأشار أحد الأساتذة الجامعيين إلى أردوغان بـ«المتكبر»، ثم طلب فيما بعد عدم نشر هذا التعليق، خشية أن يفقد وظيفته. لكنه حتى أقر بأن المخاوف القديمة من أن يفرض أردوغان طابع التقوى والورع على الدولة لم تتحقق فعليا على أرض الواقع.

وقد حاول حزب المعارضة الرئيسي إقصاء نفسه عن الجدل المثار حول التركيز على الجانب الديني في مقابل الدنيوي، باعتباره أمرا يضعه في موضع الطرف الخاسر في دولة محافظة. وبينما كان أتاتورك من قبل يحشد الأصوات لتأييد قيام دولة علمانية، نادرا ما أشار إليه قائد المعارضة باسمه.

وأشار الاستطلاع الأخير إلى أن المصوتين أنفسهم باتوا أقل ارتباطا بالمفاهيم القديمة العلمانية والدينية في دولة اعتبرها أتاتورك تضع مقصورات الكنائس في المساجد وتقدم موسيقى غربية كلاسيكية في الطقوس الدينية. وفي استطلاع أجرته شركة «إكسارا» المحلية، طلب من المصوتين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و25 عاما تحديد توجهاتهم الآيديولوجية. وأشار أكثر من ثلث أنصار أردوغان إلى آيديولوجية كمال أتاتورك باعتبارها إحدى هوياتهم المميزة. وقال سلجوق سيرين، أستاذ بجامعة نيويورك وشارك في عملية الاقتراع: «لقد مل الناس من الهويات القديمة، القسم القومي والقسم الديني». وأضاف: «ثمة نقطة مرتبطة بأبناء الجيل الواحد في هذا الشأن».

* خدمة «نيويورك تايمز»