تخلي ميركل عن الطاقة النووية: خوف من فوكوشيما أخرى أم حسابات انتخابية؟

توجه لإغلاق 17 مفاعلا.. وغالبية الألمان يقبلون دفع فواتير كهرباء أكثر مقابل إنهاء البرنامج النووي

امرأة تحمل شعارا يحذر من الإشعاعات خلال مسيرة مناهضة للطاقة النووية في ألمانيا (إ.ب.أ)
TT

بعد أن ضرب الزلزال وإعصار تسونامي المحطة النووية «فوكوشيما دايتشي» في اليابان في مارس (آذار) الماضي، بدأت المتاجر في ألمانيا بيع عدادات «غيغر» الخاصة بتعقب المواد المشعة. كما ارتفعت مبيعات أقراص اليود الخاصة بالوقاية من التسرب الإشعاعي بشكل هائل، مدفوعة بالقلق من أن يجد الناس أنفسهم غارقين في سحب محملة بالإشعاعات النووية بعيدة المدى.

وبصرف النظر عن أن الكارثة النووية الأولية كانت تبعد بنحو 5.500 ميل أو أن ألمانيا، على عكس اليابان، لا تقع على تصدعات أرضية تكتونية معروفة، فقد احتشد مئات الآلاف من المتظاهرين في شوارع المدن الرئيسية، مشيرين إلى الأحداث في اليابان باعتبارها نذيرا خطيرا بما يحتمل أن يحدث هنا في ألمانيا. وجاءت تلك المظاهرات قبل إجراء انتخابات في البلد لطلب وقف برنامج الطاقة النووية الخاص بألمانيا، وهو المصدر الذي يزود بنحو ربع الطاقة الكهربائية في البلاد.

وقد أدت هاتان الظاهرتان المتداخلتان (الذعر والمناورات الانتخابية) إلى ما بدا على أنه أحد أشد التغيرات التي تعصف بسنوات عمل المستشارة أنجيلا ميركل. فيوم الاثنين، تخلت عن الخطط التي وضعت قبل تسعة أشهر فقط لمد عمر محطات الطاقة النووية في الدولة، وأصدرت أوامر بالبدء في إغلاقها تدريجيا، بحيث تكون مغلقة بأكملها بحلول 2022. وعني القرار أنه، في قلب أوروبا، كرست القوة الاقتصادية الكبرى في القارة جهودها أكثر من جيرانها في الشرق أو الغرب لإحلال مصادر الطاقة المتجددة، مثل التوربينات الهوائية، محل الطاقة النووية، أو على الأقل، على حد ذكر النقاد، الاستعاضة عنها بطاقة نووية مجلوبة من دول الجوار مثل فرنسا.

غير أن الخطوة الألمانية أثارت أيضا تساؤلات بدت إجابتها محيرة: ما ضير أن تدافع دولة تعداد سكانها 82 مليون نسمة، والتي على مر العقود، نمت فيها حالة من البغض الشديد للطاقة النووية يبدو أنه لا يضارعها فيها أي من نظرائها من القوى الاقتصادية، عن سمعتها من أجل الدخول في جدل عقلاني مبرر؟

«تماما مثلما يرغب المؤمنون بنظرية الخلق في حذف نظرية النشوء من الكتب المدرسية»، هكذا قال عالم النفس بيتر هيلر في رسالة على الإنترنت تحدت الاعتقادات القومية الراسخة بخصوص الطاقة النووية. وأضاف: «يبدو كما لو أن كل تفسير واقعي ومحايد في ألمانيا يخضع لعملية حذف الآن» من الجدل المثار حول برنامج الطاقة النووية.

وفي حقيقة الأمر، مثلما أشار راينهارد وولف، وهو أستاذ في فرانكفورت، فإن الجدل محتدم جدا إلى حد أنك «إما أن تكون معنا أو ضدنا». وأضاف وولف: «لا يوجد حل وسط».

وقد غيرت قوة الآراء المضادة للطاقة النووية سياسات البقاء الخاصة بالانتخابات الإقليمية الأخيرة التي خاضتها ميركل في ولاية بادن فورتمبيرغ جنوب ألمانيا، كما شوهت سمعة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي تتزعمه ميركل في مدينة بريمن شمال ألمانيا لمصلحة الحزب الخضر المناهض للطاقة النووية. كان ظهور حزب الخضر قويا جدا إلى حد أنه بدا أنه لو تم إجراء الانتخابات الآن، فسيظهر الحزب متمتعا بنفوذ قوي، مثلما كان قبل أن تتولى ميركل السلطة في 2005.

وفي غضون أيام من هذا التحول الأساسي، اتجهت سياستها الخاصة بالطاقة النووية، والتي تركزت من قبل على مد عمر محطات الطاقة النووية في ألمانيا، اتجاها عكسيا ممثلا في تأييد إغلاق المحطات بأسرع وقت ممكن. ومثلما قالت عقب حدوث كارثة فوكوشيما، غيرت الأحداث في اليابان «كل مجريات الأمور في ألمانيا».

وبإعلان ميركل، الاثنين، عن خططها لإغلاق جميع مفاعلات الطاقة النووية السبعة عشر في ألمانيا، مثلما قال غيرد غيغيرينزر، مدير معهد «ماكس بلانك» للتنمية البشرية في ألمانيا، فإنها تواجه خطر «أنه عندما تتخذ الحكومة رد فعل متعجلا جدا تجاه حادث مثل فوكوشيما، فسيولد هذا انطباعا بعدم وجود سبب حقيقي بخلاف كسب أصوات في الانتخابات». وأضاف غيغيرينزر في محادثة هاتفية: «قررت الحكومة الاهتمام بمخاوف الناس والتحول إلى الاتجاه الذي ترغب المعارضة في تحولها إليه».

وقد عرف كاتب الأعمدة رولاند نيلز في مجلة «دير شبيغل» هذه العملية على أنها سياسات «معتمدة على مبدأين». وكتب نيلز: «الأول هو أنه إذا أراد الناس تنفيذ هذه العملية، فيجب بالضرورة أن تكون صحيحة. والثاني أن كل ما هو مفيد للناس يجب أيضا أن يكون مفيدا للمستشارة».

بيد أن ذلك التقدير تؤكده استطلاعات رأي تشير إلى أن نحو 70 في المائة من الألمان اعتقدوا أن المستشارة تتلاعب بما يخدم مصلحتها في المعركة الانتخابية. وذكرت النسبة نفسها أنها على استعداد لدفع فواتير كهرباء أكبر مقابل إنهاء استخدام الطاقة النووية.

بيد أن هذا يؤكد مجددا حقيقة أن الجدل المثار حول الطاقة النووية في ألمانيا يعقد مقارنات تنذر بعواقب مشؤومة. وقال زود دويتشه تسايتونغ، المنتمي إلى يسار الوسط: «ما عنته أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بالنسبة لاحتمال تعرض الغرب لكوارث»، على سبيل المثال، الكارثة التي حلت باليابان في 11 مارس 2011، «ستعنيه بالمثل بالنسبة لفكرة أنه يمكن التحكم في الطاقة النووية. فتلك الفكرة لم يعد من الممكن دعمها».

بالطبع، تخلو بعض ردود الفعل الألمانية الحديثة تماما مما يطلق عليه الأستاذ وولف في فرانكفورت «التجربة الألمانية» التي مرت بها في فترة الحكم النازي، والتي جعلت كثيرين يتشككون في تصنيع القوى المدمرة، سواء كيميائية أو نووية. ويرجع البعض نشأة حركة حزب الخضر في ألمانيا (الحزب الرئيسي المعارض لاستخدام الطاقة النووية) إلى تاريخ سابق، وتحديدا إلى عصر الرومانسية في القرن التاسع عشر، حيث التعطش إلى زيادة المساحات الخضراء وإلى عالم مثالي صحي.

ربما يبدو هذا غريبا بالنسبة للبعض. لكن ثمة شكا محدودا في أن تاريخ ألمانيا الحديث قد أسهم في توليد نزعة قوية للنفور من المخاطر ومحاولة تجنبها وتوخي الحذر وكره المفاجآت، وهي سمات تعظم معا من المخاطر المحتملة للطاقة النووية، مما يولد اعتقادا بأن ألمانيا مختلفة عن اقتصادات أوروبية أخرى بارزة مثل فرنسا أو بريطانيا، على حد قول المعلقين. وقالت كلوديا روث، قيادية بحزب الخضر الألماني: «الأحداث المروعة التي وقعت في اليابان توضح جليا أنه لا يمكن التحكم في الطاقة النووية مطلقا. فالطاقة النووية ليست آمنة بنسبة 100 في المائة، الأمر الذي يجعلها محفوفة بقدر هائل من المخاطر». ولا يعد تشكك ألمانيا في التكنولوجيا النووية جديدا، فقد نشأ جزئيا من مبدأ السلم واللاعنف الذي تعود جذوره إلى الحرب العالمية الثانية وقبل عقود مما أطلق عليه وولف «معركة نووية محتملة» بين الشرق والغرب على الخط الأمامي في الحرب الباردة.

منذ أربعة عقود مضت، اختارت منظمات المجتمع المدني شعار «طاقة نووية؟ لا شكرا». بعدها، بدت الزيادة في الآراء المعارضة لنشر أميركا قذائف نووية في الأراضي الألمانية بالنسبة للبعض على أنها تمزج بين قضيتين منفصلتين، وهما الطاقة النووية والأسلحة النووية، مما يشكل مزيجا قابلا للانفجار في أي لحظة. لكن رغم ذلك، فإن البعض الآخر يرى أن اللحظة الأكثر إثارة لمشاعر الفزع كانت لحظة انصهار مفاعل تشرنوبيل في 1986. وقالت كلوديا كيمفرت أستاذة الطاقة بكلية هيرتي للإدارة في برلين: «كانت تلك صدمة، ولم يتم التغلب عليها مطلقا». وقالت كيمفرت في محادثة أجريت معها عبر الهاتف: «كشفت حادثة انصهار تشرنوبيل أن التكنولوجيا النووية ليست آمنة»، الأمر الذي استحث الديمقراطيين الاجتماعيين وأعضاء حزب الخضر على بدء تدشين حملات ضد تكنولوجيا الطاقة النووية التي لم يستمر استخدامها فحسب، وإنما اتسع نطاقه أيضا. وفي ألمانيا، على حد قول كيمفرت، تعارض الجماعات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات الدينية كافة استخدام الطاقة النووية. وقالت: «هذه المجموعات كلها تعارض استخدام الطاقة النووية. والأمر يختلف في دول أخرى».

* خدمة «نيويورك تايمز»