رائحة الدم والموت في حماه.. تستحضر ذكرى مجازر الثمانينات

قمع الأسد الأب للإخوان في المدينة غير صورتها بالكامل وقضى على عشرات الآلاف من أبنائها

سوريون ينقلون مصابا برصاص قوى الأمن في حماه أول من أمس.. في صورة مأخوذة من «يوتيوب» (أ.ف.ب)
TT

يوم «جمعة أطفال الحرية» كان يوم جمعة مدينة حماه بامتياز، فبعد انقطاع 24 ساعة للإنترنت، استفاق السوريون، أمس، على أنباء مروعة، تفيد بسقوط ما بين 50 و80 قتيلا في حماه ونحو 500 جريح، بحسب مصادر محلية، بينما نفذت المدينة، التي شيعت شهداءها أمس السبت، إضرابا عاما. وبحسب شهود عيان «فإن الحركة التجارية في المدينة معدومة بشكل كامل، عدا الصيدليات، مع اختفاء كامل للعناصر الأمنية وحتى رجال شرطة المرور».

وبينما نقل ناشطون عبر صفحاتهم على موقع «فيس بوك» أنباء عن دخول الدبابات إلى المدينة بعد ظهر أمس، قال أحد السكان: «بعد خروج الآلاف في تشييع شهداء الجمعة لا شيء في حماه سوى رائحة الدم والموت وشبح مجازر الثمانينات المؤلمة عندما قام نظام الرئيس حافظ الأسد وأخيه رفعت الأسد بقتل أكثر من 50 ألف من مواطن». ويتابع: «التاريخ يعيد نفسه مع أبناء حافظ الأسد، الزمن تغير وهذا النظام لم يتغير».

مدينة حماه، الواقعة وسط سوريا، ليست كأي مدينة. إنها مثقلة بتاريخ مكلوم منذ تسلم حزب البعث السلطة في سوريا منذ عام 1962. ففي عام 1964 حصل تمرد مسلح في حماه قاده مروان حديد، الذي انشق عن جماعة المسلمين ليختار طريقا آخر. وكان حينذاك نائب الرئيس السوري المنشق الذي يعيش في باريس، عبد الحليم خدام، محافظا لحماه، ولم يتوان عن استدعاء الجيش لقمع التمرد. ويروي معاصرو تلك الفترة أن «وجهاء ومشايخ حماه راجعوا خدام لحل الموضوع بالحوار فرفض وقام الجيش بقصف جامع السلطان وهدمت مئذنته».

أما مروان حديد، الذي اعتُقل أكثر من مرة، فقد قضى تحت التعذيب، مخلفا وراءه تنظيما باسم الطليعة المقاتلة، التي ستتهم لاحقا بقيادة تمرد الثمانينات. رد عليه النظام بارتكاب أبشع مجزرة في تاريخ المنطقة؛ حيث طبق العقاب على كل منتسبي جماعة الإخوان المسلمين وكل من يعرفهم أو تربطه أي صلة بهم من قريب أو بعيد.

أما مدينة حماه فكانت عقوبتها أعنف من أن يتجاوزها التاريخ. وبحسب أرقام لجان حقوق الإنسان والإحصاءات الرسمية فإن ما بين 30 و40 ألف إنسان تم قتلهم خلال شهر واحد، في حين يتحدث أهالي حماه وكبار شيوخهم عن مقتل أكثر من 80 ألفا ما بين طفل وامرأة وشيخ وشاب. وقد لا توجد عائلة حموية واحدة سلمت من المجزرة.

وبحسب المعلومات المتوافرة التي لا تزال السرية تلف تفاصيلها، لقي ما يزيد على 25 ألفا حتفهم على أيدي السلطات السورية التي حشدت القوات الخاصة وسرايا الدفاع وألوية مختارة من الجيش (اللواء 47 واللواء 21) بمعداتهم الثقيلة، يدعمهم السلاح الجوي لتصبح المدينة منطقة عمليات عسكرية واسعة؛ حيث قصفت المدينة بنيران المدفعية وراجمات الصواريخ وبشكل عشوائي لمدة 4 أسابيع متواصلة، في الوقت الذي أغلقت فيه منافذها الـ4 أمام الفارين من وابل النيران، ذلك كله في ظل تكتم إعلامي رهيب فرضه النظام حين لم يكن هناك إعلام فضائي ولا إنترنت. ونجح في تنفيذ المجزرة في معزل عن أنظار العالم وأسماعه. فعدا منع الصحافة من الكتابة عما جرى في حماه، حرم على السوريين لسنوات طويلة ذكر اسمها؛ إذ حمل شبهة تعاطف، فهذا قد يعني تعاطفا مع الإخوان المسلمين، ولا تزال هناك مادة في القانون السوري تنص على إعدام كل من ينتسب لجماعة الإخوان، ومعاقبة كل من له صلة مع أحد منهم.

العملية العسكرية الجائرة التي شهدتها حماه لم توفر فيها شيئا؛ إذ لم تسلم البيئة والأبنية والعمران ودور العبادة التي يغلب عليها الطابع الأثري المميز وكذلك المنشآت الحيوية من التدمير المتعمد. وبحسب بعض الإحصاءات فإن التدمير شمل معظم الأحياء والمباني القديمة فهدمت أحياء «العصيدة» و«الشمالية» و«الزنبقي» و«الكيلانية» كليا. أما حي «بن الحيرين» وحي «السخانة» فقد بلغ الهدم فيهما قرابة 80%. وتصل النسبة في الأحياء الواقعة على أطراف المدينة مثل حي «طريق حلب» إلى 30%.

ويقال إن عمليات التدمير تمت على 3 مراحل: القصف العشوائي، ثم القصف المركز ضد أهداف محددة، ثم التدمير بالتفجير أو بجرف الأبنية. وقد استخدمت السلطة في عمليات التدمير المنظم المدافع والدبابات وراجمات الصواريخ والبلدوزرات والمتفجرات، حتى إن معالم المدينة تغيرت بشكل شبه تام، ليكتب النظام إحدى أكثر الصفحات سوادا وعارا في تاريخه، ملحقا الظلم بحق مدينة حماه التي تعتبر بين المدن التاريخية التي، ويعرف أهلها من المسلمين السنة، وهم الأغلبية، والمسيحيين بشدة الالتزام، حتى لا يكاد المرء يميز بينهم، من حيث الملابس والسلوك الاجتماعي المحافظ، كما توصف بأنها مدينة الشعراء والأدباء ومدينة النواعير ومدينة أبي الفداء.

ولم يكتفِ النظام بذلك، بل حول حماه من مدينة الطيبات والخير تعرف بألبانها وأجبانها وجمال طقسها وشهامة أهلها، إلى مدينة منبوذة هُمشت عمدا. وصم أهلها بالتمرد ليبقى الحديث عمَّا حل بهم همسا مشوبا بالكمد والحقد، إلى أن اندلعت الأحداث في سوريا في 15 مارس (آذار) الماضي، وعادت الأصوات الغاضبة لتصرخ في الشارع السوري، مستنكرة القمع والظلم والتهميش، فخرج أهالي حماه في المظاهرات يطالبون بالكشف عن مصير المفقودين منذ الثمانينات، يقدر عددهم بأكثر من 15 ألف مفقود. وذلك بعد أن نكأت أحداث درعا جراحهم، فهبوا لنصرتها كي لا تتكرر جريمة الصمت التي ارتكبها العالم بحقهم، فهتفوا وهم يستحضرون تاريخهم المؤلم مع نظام الرئيس حافظ الأسد وبكثير من التحدي والإصرار قالوا: «وينك يا حافظ؟ وينك الحموي شوكة بعينك؟» و«قولوا للشبيحة الحموية دبيحة».

حماه واقعة شمال غربي سوريا على نهر العاصي، وهي رابعة مدن سوريا من حيث عدد السكان؛ إذ يبلع عدد سكانها نحو 900 ألف نسمة، وتبعد عن العاصمة دمشق 210 كم وعن مدينة حلب 135 كم وعن بانياس الساحلية 96 كم. سكانها مسلمون وأقلية مسيحية تتركز في حي «المدينة». ومع أنه طيلة الأيام الماضية لم تكن المظاهرات في حماه تشهد أعمال عنف، كما حصل يوم الجمعة الماضي (جمعة أطفال الحرية)، وذلك لحرص أبداه محافظ حماه على امتصاص الغضب، وهو ما لمسه أهالي حماه، لكن ذلك، بحسب مصادر محلية، لم يرق لجهات أخرى كانت مصرة في السير في الحل الأمني إلى النهاية، ما دام المتظاهرون يخرجون إلى الشارع لنصرة درعا وغيرها من المدن السورية التي تشهد احتجاجات.