النخبة والناس في مصر.. مسافة كبيرة

«عم أبو الفضل»: رزقي من الجرائد التي تبيع أوهام الكبار للمواطنين

TT

يمتهن العم سمير أبو الفضل (63 عاما) بيع الصحف والمطبوعات منذ أكثر من 20 عاما.. وأمام «فرشته» اليومية من الجرائد المتراصة بشارع القصر العيني، يجلس ليطالع الأخبار ويستقبل زبائنه من مختلف الثقافات والطبقات.. طلبة وأطباء وعمال وآخرون.. يتوالون على فرشته كل صباح، يتبادل معهم أطراف الحديث عن آخر الأنباء، ويتجادلون حول الأحوال السياسية والاقتصادية. ورغم أنه يبيع كلام الحكومة والنخبة المثقفة إلى رجل الشارع البسيط.. فإنه كثيرا ما يشعر في قرارة نفسه أنه يقتات «من بيع أوهام الحكومة للغلابة».

في موقعه الذي يقع على مسافة محايدة من ميدان التحرير قبلة ثوار 25 يناير (كانون الثاني)، ومقر مجلسي الشعب والشورى (البرلمان) ومجلس الوزراء، اللذين تفصل بينهما بضعة أمتار قليلة.. يؤكد أبو الفضل أنه وفقا للمصريين البسطاء الذين يلقاهم يوميا، فإن المسافة الفاصلة بينهما تتجاوز آلاف الأميال.

رؤية أبو الفضل يقيسها بمنظار حكمة السنين والأيام، فبين جمعة وأخرى تخفت حدة الإقبال على المظاهرات في ميدان التحرير، في الوقت الذي نشطت فيه حركات الحوار بين مختلف القوى الوطنية والسياسية في مصر، والتي اتخذت مؤخرا من مجلس الشعب مقرا لجلسات الوفاق الوطني لتخرج بتوصيات حول القوانين وآليات الحراك السياسي المستقبلي في مصر من أجل بحثها بمجلس الوزراء.

وبينما تجتمع النخبة في جلساتها 3 أيام أسبوعيا، في جلسات تستغرق ساعات طوالا، يجلس العم أبو الفضل أمام فرشته اليومية.. منتظرا مثله مثل ملايين المصريين النتائج النهائية للجلسات، أو «المكلمات» بحسب تعبيره، هذا الأسبوع.

ورغم حرصه منذ اندلاع الثورة على قراءة كل الأخبار – تقريبا - في كل المطبوعات التي يبيعها، بحسب قوله، فإنه أكد على أنه لا يفهم «ما يفعله السادة المنعزلون داخل المجلس»، مثله في ذلك مثل أغلب المصريين.. ليصل إلى نتيجة مفادها أنه يبيع أوراقا لا قيمة لها (في المطبوعات) تحوي أخبارا مما تصدره الحكومة والنخبة السياسية، إلى الشعب البسيط ومتظاهري التحرير.

يقول أبو الفضل لـ«الشرق الأوسط»: «أنا متعلم، وحاصل على البكالوريا (شهادة قديمة تعادل الثانوية العامة حاليا).. وصحيح أن عملي هو بيع الجرائد، إلا أنني قارئ جيد.. لكنني لا أفهم بالضبط ما يحدث حاليا في أروقة مجلس الشعب.. الناس اللي جوه دي بتتكلم وكأنها جاية من المريخ، ومش عارفة الناس عايزة إيه.. ما فيش تواصل مع المواطنين.. المسافة بين الاثنين بعيدة جدا، رغم أن الناس واقفة على باب المجلس». ولم تسلم حكومة تسيير الأعمال برئاسة الدكتور عصام شرف من مشاكسة أبو الفضل، فالحكومة - التي تشكلت قبل نحو مائة يوم - تتعرض لجدل كبير حول إنجازاتها في الشارع المصري، بين مؤيد لوطنية شرف ومعارض لـ«رخاوة» وغموض القرارات.

ويضيف أبو الفضل بعد أن يسحب أنفاسا من سيجارته: «وبعدين الحكومة كمان بتقول أرقاما وعبارات صعبة حتى على المتخصصين.. أنا مالي ومال موازنة الدولة، اللي اتعرضت على شوية شباب صغير، هما كمان ما يفهموش في الاقتصاد؟ أنا يهمني موازنتي أنا واللي زيي.. يعني الواحد يقبض كام، ويعلم عياله بكام، ويتعالج بكام، ويتبقى معاه كام يحوشه للظروف.. هو دا اللي يهم الناس البسيطة، مش موازنة البلد ودا داخل ودا خارج.. أمال إيه لازمة الجهات الرقابية ورؤساء الأحزاب؟ الغرض من الكلام دا إنهم يدخلونا في متاهة عشان نتشغل، وما نسألش عن حاجة بعد كده!!».

وكان المجلس العسكري الحاكم قد استضاف مجموعة من النشطاء الإلكترونيين لعرض موازنة الدولة عليهم، وهو موقف رآه البعض دليلا على حسن النية، بينما نظر إليه آخرون على أنه مطب أوقع فيه المجلس الشباب الذين لا يفهم أغلبهم في لغة الأرقام المعقدة.

واستغل أبو الفضل توقف أحد زبائنه لشراء الصحف، فبادره بسؤال حول رأيه في الموضوع، فرد المهندس عصام (في الثلاثينات من العمر): «أعتقد أن الفارق بين النخبة في المجلس والناس في الشارع، هو كالفارق الهندسي بين منظوري عين الطائر وعين النملة.. أحدهما ينظر للأمور من عل، بينما الآخر يراها من أسفل. ورغم أن كليهما يكمل الآخر.. فإن المشكلة هنا في التواصل، نحن حقيقة نعرف أسماء معظم الشخصيات التي تناقش مستقبل الوطن، لكننا لم ننتخبهم للحديث باسمنا، ولم يسألونا عن أولوياتنا! هم يتحدثون عن الأولويات من منظورهم ولم يراجعونا فيها، ونحن لا نعرف كل الآراء المطروحة، بل نسمع عن النتائج فقط».

وعلى مقربة من المكان، افترش بعض المعتصمين والمتظاهرين الرصيف.. مطالبين بما تصفه النخبة والحكومة بأنها مطالب فئوية. ولكن قوات من الشرطة أتت لتفريقهم، بعد لحظات من صدور قرار وزاري بتفعيل مواد قانون العقوبات المجرمة للإضراب عن العمل وتعطيل عجلة الإنتاج.

وبينما الاشتباك قائم بين الشرطة والمتظاهرين، وفي حين انصرف بعض المعتصمين، وشغل بعضهم الفراغ الخلفي لسيارات الاحتجاز التابعة لجهاز الشرطة.. قال العم أبو الفضل: «شايفين، دول هما شعب مصر.. ودي مطالبهم الحقيقية، ودا رد فعل النخبة اللي قاعدة على الكراسي في المجالس!!».