أوغلو.. ينزل من برجه العاجي إلى الشوارع الصاخبة ليخوض السباق الانتخابي

ينظر إلى وزير الخارجية التركي على أنه مهندس العلاقات الخارجية لأنقرة

TT

ربما جاءت شعبيته من إشارته العفوية المتكررة إلى تأثير باحث من القرن الـ13 على صحوة دينية في الإمبراطورية السلجوقية، أو ربما من الإحراج الشديد الواضح الذي شعر به لدى رؤيته صورته معلقة على حافلة صغيرة. لكن عندما بدأ أعوانه في نقل توقعات «عظيمة» لأطفال المدارس الذين يستطيعون بالكاد القراءة، كان من الواضح جليا أن ثمة شيئا ما مختلفا.

للمرة الأولى، يخوض وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، المعروف بحديثه المعسول، السباق الانتخابي للفوز بمقعد في البرلمان التركي اليوم. وفي انتخابات يعتبر حجم أغلبية حزبه فيها مثار جدل حقيقيا، يأتي نزوله من برجه العاجي إلى الشوارع الصاخبة في مدينة معروفة باتجاهاتها المحافظة وأطعمتها المميزة بصورة تجعل من هذا السباق الانتخابي أحد أكثر السباقات الانتخابية احتداما في ظل المناخ الديمقراطي الصحي الذي يسود تركيا في الوقت الراهن.

«لا توجد مشكلات بالنسبة لقونيا»، هكذا تحدث عثمان سرت، الناطق الإعلامي باسمه مازحا.

كانت هذه إشارة ضمنية إلى قول داود أوغلو الشهير: إن تركيا ستكافح من أجل توطيد سياسة «تصفير المشكلات» مع دول الجوار. وعلى الرغم من أنه لم ينجح بشكل كبير في تحقيق ذلك المبدأ بشكل ملموس على أرض الواقع، فإن رؤيته الجذابة قوبلت بتأييد قوي وبتوجيه اهتمام إلى رجل أمضى 15 عاما من عمره كأستاذ علاقات دولية في ماليزيا وتركيا، ثم ظهر كمهندس للعلاقات الخارجية التركية بعد أن تولى منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء لشؤون السياسة في 2002. وكان أشهر كتبه هو «العمق الاستراتيجي». كما ألف أيضا كتابا عنوانه «النماذج البديلة.. تأثير الرؤى الإسلامية والغربية على النظرية السياسية».

وربما لا يمكن إدراج الكتاب الأخير ضمن المؤلفات الخاصة بالحملات الدعائية، لكن نادرا ما يعمل الساسة كوزراء هنا من دون شغل مقعد في البرلمان، ومع اقتراب حزب العدالة والتنمية من دخول عقده الثاني في السلطة، جاء داود أوغلو على رأس قائمة الأسماء المرشحة لشغل الـ14 مقعدا المخصصة لمدينته الأم في البرلمان.

وعلى مدار الحملة، كان لدى رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، شعور عميق تجاه الجمهور، لكن في صباح أحد الأيام في وقت قريب، كان داود أوغلو ما زال يسعى إلى التقرب من العامة. فقد ظهر بمظهر يجمع بين سمات الطالب المجد والأستاذ المتوحد مع نفسه، ولم يبدُ مستعدا على الإطلاق لخلع سترته.

«بعض الأمور يصعب التكيف معها»، هكذا تحدث وهو في طريقه لحضور حدث آخر في منطقة أخرى وفاء بوعده بزيارة المقاطعات الـ31 بكبريات المناطق في تركيا. وكانت هناك 9 مقاطعات من المفترض أن يزورها.

وكانت هناك حافلة صغيرة ملحق بها 4 مكبرات صوت، وعلقت عليها صورته وأسفلها شعار «فلندع الاستقرار يستمر ولندع قونيا تزداد قوة». وفي الطريق، لوحت الجماهير إليه، بينما كان يمر بسيارته. ونظرا لانشغاله بالحديث، يبدو أنه لم يلاحظهم.

وقال: «بوصفي أكاديميا، لم يكن هذا نمط الحياة الذي خططته لنفسي. والآن، أرى نفسي في كل مكان». وأدار رأسه للنظر من الشباك. وأضاف: «ليس لديَّ وقت للقراءة أو التفكير أو الكتابة أو الدراسة أو التأمل والانفراد بنفسي».

لقد احتل حزب العدالة والتنمية، المعروف هنا في تركيا بالاختصار «إيه كيه»، موقع الصدارة في تركيا لفترة طويلة. وقد ارتفعت مكانة الدولة في المنطقة وخارجها بشكل ملحوظ، الأمر الذي يعود الفضل فيه بدرجة كبيرة إلى نجاح داود أوغلو كدبلوماسي، كما أثمرت سياسات الحزب أيضا عن حكومة ناجحة راعت الفقراء ومنحت التمكين لطبقة رأسمالية متمردة تجسد الخلفية المحافظة للحزب. وعلى عكس الساسة السابقين، فإن قادة تركيا الحاليين يعبرون عن الشعب الذي يمثلونه: عمل أردوغان في بيع عصير الليمون في فترة شبابه، كما كان والد الرئيس عبد الله غل عاملا في مصنع.

ولفترة قصيرة، تعثر داود أوغلو قليلا، بينما كان يحاول استغلال تلك الشعبية. وعبر عن أسفه لأن الحملات الدعائية كانت متعلقة بـ«الاتصال الأفقي لا بالتعقيد الثقافي». لقد تحدث ببراعة إلى مجموعة من الأطفال المعجبين به، الذين منحهم نسخا من كتب لمؤلفين مشهورين أمثال ثربانتس وديكنز ودوما، وألقوا أمامه قصيدة في المقابل.

غير أن داود أوغلو سار على منهجه بكل ثقة في اجتماع لصناع أحذية، والذين تعتبر صناعتهم إحدى أضخم الصناعات في قونيا، فقد ألقى خطابا بارزا في مؤتمر حمل عنوان «قطاع صناعة الأحذية في عالم يتجه إلى العولمة»، وقوبل بهتاف الحضور.

قال داود أوغلو: «كل أسرة في قونيا بها صانع أحذية واحد على الأقل، وأنا من بين تلك الأسر». بعدها، عرض لجمهور الحضور صورة لجده في ورشته، وخاطبهم قائلا: «أشكركم لأنكم ذكرتموني بكنوز أجدادي».

وعلى مدار أسبوع من الحملة، تعين على داود أوغلو السفر إلى إسطنبول في مهام دبلوماسية. وقبل ذلك بيومين، لزم عليه الابتعاد عن النقاش في سياسة تركيا من أجل حضور اجتماع في أنقرة مع مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الوطني الانتقالي، المجموعة الثورية التي سعت للإطاحة بالعقيد الليبي معمر القذافي، ذلك القائد الذي لم تربط تركيا علاقات قوية به سوى خلال العام الماضي فقط. وفي حركة أكثر هدوءا، اعترف بأنه قد زار سوريا أكثر من 60 مرة على مدار الـ8 أعوام الماضية، في حين لم يزر مدينته الأم سوى 20 مرة فقط.

لكن في هذا اليوم، زار متاجر تعرض أدوات رياضية وأحذية وبوتيكات ومطاعم، بل وحتى شقة امرأة حيته من شرفتها. ومر من أمام مسجد مبني من الأحجار يعود إلى عصر الإمبراطورية السلجوقية، وقدم تقييما عن صدر الدين كونفي، المفكر الديني الذي دُفن هناك.

والتقطت الجموع صورا له بالهواتف الجوالة، بينما أصر آخرون على أخذ صور جماعية معه. وتطوع البعض بتقديم أوراق عليها أرقام هواتفهم الجوالة ومطالبهم، ومنها: نقل مدرس من الأناضول إلى قونيا، إيجاد وظيفة حكومية لطالب أنهى دراسته الثانوية من ذوي الاحتياجات الخاصة، دعم أحد فرق كرة القدم المحلية. وتم ضم جميع الطلبات في برنامج كومبيوتر، يديره ثلاثة أفراد فوضهم بالرد على الطلبات المعقولة. وحتى المعارضون لحزبه رحبوا به ودعوه إلى دخول منازلهم واحتساء فنجان من القهوة.

وتحدث إلى حنيف أركان، صاحب بوتيك، الذي عرض عليه أن يقرأ له طالعه، قائلا: «إذا كان بوسعك خدمة كل شخص يزورك، فمن المؤكد أنك ستحقق النجاح الذي تصبو إليه».

وبمرور اليوم، عرض داود أوغلو رؤية ربما تبدو ملائمة للعالم العربي الذي يموج بحالة من الاضطراب؛ حيث، ربما، تبدو السياسات الخارجية للحكومات الحالية مثل حكومة مصر بعيدة كل البعد عن نمط سياسات السابقين الذين ظلوا مذعنين للولايات المتحدة.

«إنها نعمة الديمقراطية»، هكذا وصف الوضع.

* خدمة «نيويورك تايمز»