الاحتجاجات السورية ترسم جغرافيا جديدة للبلاد

مدن وقرى جديدة تظهر على الخريطة بعد قمع النظام لها

صورة مأخوذة من موقع اوغاريت لمظاهرة ردا على خطاب الرئيس السوري
TT

إلى جانب القصر العدلي في شارع النصر وسط العاصمة السورية دمشق، وقفت صفاء (محامية) تجادل بائع الخرائط حول السعر، فهو يطلب مائة ليرة وهي تصر على دفع 75 ليرة فقط، لأنها اشترت في مارس (آذار) الماضي خرائط كل المحافظات مع خريطة لكل سوريا (أي خمس عشرة خريطة)، بواقع 75 ليرة لكل واحدة. البائع الذي قبل أخيرا بتخفيض أسعار كل الخرائط رفض أن يبيع خريطة محافظة درعا بأقل من مائة ليرة لأن عليها طلبا كبيرا ولم يعد لديه غيرها. تضحك صفاء وهي تعيد رواية هذه القصة وتقول «من الجيد أني اشتريت خرائط كل المحافظات بسعر مخفض لأنها اليوم جميعها تشهد احتجاجات وأكيد أن ثمنها ارتفع».

هناك قرى في محافظة درعا لم تكن معروفة حتى للسوريين مثل قرية «الجيزة» التي خرج منها الطفل حمزة الخطيب وتحول إلى رمز للانتفاضة السورية، ومن ثم رفيقه الطفل تامر الشريعي، وكذلك قرية المسيفرة القريبة منها التي أعيد إليها عدد من أبنائها شهداء بعد اعتقالهم لنحو شهر وعلى أجسادهم آثار تعذيب وحشي، أما المدن والبلدات الحورانية الأخرى في محافظة مثل داعل وأنخل والحراك وجاسم والصنمين ونوى والشيخ مسكين وبصر الحرير فقد سجلت ملاحم بطولية لن تنسى في تحدي آلة القمع الوحشي للنظام، فلم تعد أسماء تلك البلدات والمدن محض أسماء تمر مرورا عابرا كمناطق زراعية تشتهر بإنتاج البندورة الحمراء والقمح والشعير، ولا مناطق حدودية قريبة من الأردن لا بد للذاهب إلى عمان أن يمر فيها ويغسل بصره في امتداد سهولها الخصبة، أو «شرشف قصب ومطرز بنسيان» بحسب أغنية «عالبال بعدك يا سهل حوران» لمطرب الجبل فهد بلان، وإنما باتت قرى ومدن درعا سجلا حافلا بقصص التحدي البطولية والحوادث المروعة، ومجرد ذكرها يوجع القلب ويؤجج الغضب.

حوران التي تفجرت على حين غرة لحقتها على الفور منطقة أخرى غير متوقعة وهي مدينة بانياس الساحلية، والقرى المحيطة بها البيضة والمرقب، فكان للمدينة اعتصامات في وقت مبكر أذهلت السوريين، وكان للبيضة فيلم عن عملية اعتقال همجي اهتز له العالم، أما المرقب فنصيبها مجزرة حصدت عددا من نسائها العزل حين خرجن احتجاجا على اعتقال الرجال، ولم يكن يتوقع أحد أن تقوم أي انتفاضة في بانياس ولا حتى في كل الساحل السوري، حيث تتركز معاقل شبيحة النظام من مهربين ومارقين وخارجين على القانون، يبسطون سيطرتهم غير الشرعية، بالبلطجة، ولكن بانياس التي خرج منها نائب الرئيس السوري المنشق عبد الحليم خدام تحركت واتهم النظام حليفه المنشق بقيادة تلك التحركات، رغم علمه المسبق بمدى كراهية السوريين لخدام، ورغم أن مناصريه إن وجدوا فهم قلة، ويشك في قدرتهم على تحريك أي أحد في الشارع لا في بانياس المكلومة ولا في أي مدينة أخرى، فلهذه المدينة كما غيرها من المدن السورية ما يكفي من الأسباب والدوافع لتحتج على النظام، فهي بلدة ساحلية تحولت في السبعينات بعد إقامة مصفاة للنفط فيها ومرفأ يعد الثالث بعد مرفأي اللاذقية وطرطوس، إلى مدينة وبشكل مفاجئ، إذ وفدها عمال المصفاة ومحطة توليد الكهرباء وعدة منشآت أخرى، لينشأ فيها مجتمع جديد خليط، لم يسلم مع مرور الوقت وترهل الأداء الحكومي من الفساد والتهميش اللذين وصلا إلى حد لم يعد يحتمل، فخرجت بانياس لتنفض الغبار عنها وعن ماضٍ كان فيه صفحات مؤلمة سبق ودونها نظام الرئيس حافظ الأسد في الثمانينات خلال حملته للقضاء على الإخوان المسلمين، وكانت بانياس معقلا لبعض قادتهم. وإذ حضر هذا الماضي كذكرى حضرت معه وسائل الرد العنيف لكن ليس كذكرى وإنما ممارسة فعلية لا ترحم. ومن بانياس إلى محافظة حمص عاصمة النكتة والطيبة، تعرف العالم على أحياء ومناطق، تخلت عن وداعتها وهدوئها، وشدت حناجر أهلها بأطرف الهتافات وأقذعها، بل وأخطرها، فاستحقوا عليها ردا دمويا يكاد يوازي ما تعرضت له درعا وبانياس، فكان للأهالي في أحياء الخالدية وباب السباع وشارع الستين وساحة الساعة صولات وجولات، ومناطق باب الدريب وباب عمر والبياضة وتل الشور روايات مؤلمة ومشرفة، إذ لبت نداء استغاثة لنصرة لقرية تلبيسه؛ القرية الصغيرة التي لم يكن أحد يرد على ذكرها، وقدمت نفسها خلال الاحتجاجات بلدة عنيدة صعبة المراس، وقضت ثلاثة أشهر من المقاومة المرة، وكلما قال النظام إنه أخمدها خرجت مجددا من الرماد لتطالب بالحرية، حالها حالة مدينة الرستن التابعة أيضا لمحافظة حمص (وسط) التي قام أهلها منذ وقت مبكر بتحطيم أكبر تمثال في البلاد للرئيس حافظ الأسد، ومن يرى مشهدهم وهم يقومون بتكسيره يدرك أنهم لم يكونوا يحطمون رمزا بقدر ما كانوا يحطمون صنم الخوف المزروع داخل السوريين منذ أربعين عاما.

أما أهالي الرستن فقد سددوا ثمنا باهظا من أرواح أبنائهم، ومن بيوتهم التي تعرضت للنهب والتدمير، إذ لم يشفع لهم لدى النظام ابن الرستن العماد مصطفى طلاس ولا ابنه مناف طلاس، وربما العكس كان لذلك أثر سلبي لتشديد الضربات العسكرية، والقصف المدفعي الذي تعرضت له، فالعماد طلاس ليس أفضل من المسؤولين الكثر من أبناء درعا، فاروق الشرع نائب الرئيس وفيصل المقداد نائب وزير الخارجية وغيرهم العشرات، لم تنل بلداتهم من فضائل مناصبهم، سوى تماثيل وصور ضخمة للرئيس الراحل والحالي، تربعت على تل خراب الذي خلفه الفساد في تلك المناطق. ويتفق أهالي محافظة حمص ممن اطلعوا على ما حلّ بالرستن وتلبيسة «إذا سقط النظام سيذهل العالم من الجرائم التي حصلت هناك».

أما عروس محافظة اللاذقية عروس الساحل السوري، كما يسميها الإعلام الرسمي، فتعرف العالم على حي الصليبة ومخيم الرمل الفلسطيني، فالاحتجاجات التي لم تهدأ يوما كشفت عن مدى الظلم الذي تعاني منه هذه المحافظة، التي تعد من أهم المقاصد السياحية، ففي حين بيعت معظم مواقعها الساحرة لشركات السياحة والاستثمار، حرم أهالي بعض المناطق والأحياء ولا سيما الصليبة من الخدمات الأساسية.

فاللاذقية التي تحركت مع درعا وبانياس تعاني اليوم من استباحة الأمن الشبيحة لشوارعها، في ظل تعتيم كامل على ما يجري فيها، حيث إن مجرد خروج مظاهرة صغيرة فيها ولو لم تتجاوز عدة أشخاص يعد هذا ضربة موجعة للنظام، الذي ينتمي معظم رموزه وقادته إلى محافظة اللاذقية. ولعل هذا أسوأ مفاجأة واجهت النظام الذي سكت لعقود عن انتفاع مؤيديه وأقاربه هناك والذين ينتمون إلى طائفة معينة، بل إنه غض النظر عن إطلاق يدهم هناك في الوقت الذي عانت فيه باقي الفئات والشرائح الأخرى من الإهمال والتهميش.

ومن الساحل إلى شرق البلاد التحقت محافظة دير الزور بالاحتجاجات ونهضت ليرى السوريون قامتها السامقة، في البوكمال والميادين ودير الزور وقراها مناطق كانت بعيدة عن قلب الحكومة وقريبة من أيدي الفاسدين، الذين لم يوفروا فرصة لسرقة خيراتها، حتى تحولت إلى أرض جرداء. ولا تختلف دير الزور عن درعا من حيث عدد المسؤولين من أبنائها في الحزب والدولة، بينهم قياديون مهمون، إلا أنهم لم يقدموا لأهلهم سوى النكران والاستغلال، وكان أغلبهم من الفاسدين، الذين صمتوا عن استنزاف موارد تلك المناطق، فهي عدا كونها حقولا للنفط فهي من مصادر القطن والقمح ولحوم المواشي والألبان. لكنها اليوم تعاني من ضيق ذات اليد والإهمال. لذا فإن احتجاجها اليوم جاء صفعة للحكومة التي نامت عن تدهور الوضع البيئي في مناطق تعد جزءا لا يتجزأ من سلة الغذاء السورية.

وفي محافظة إدلب التي انطلقت احتجاجاتها من مدينة معرة النعمان والقرى المحيطة، تحولت إلى منطقة ملتهبة مع دخول مدينة جسر الشغور المثقلة بجراح الثمانينات إلى خط الاحتجاج لتشهد أوسع عملية عسكرية للجيش السوري، وليتصدر اسمها نشرات الأخبار لأكثر من أسبوع، كانت فيه محط أنظار العالم لما تشكله من نقطة فاصلة سواء بالاحتجاجات أو بعملية التطهير والانتقام التي يقوم بها النظام بعد أنباء عن حصول انشقاقات في الجيش هناك ومقتل أكثر من 120 رجل أمن بحسب ما قالته السلطات.

جسر الشغور شريكة حماه (وسط) في تاريخ المجازر التي ارتكبها نظام حافظ الأسد في الثمانينات، نالت ضربة عسكرية أرادها النظام قاضية، وهي الضربة لم يوجهها إلى مدينة حماة التي شهدت أكبر احتجاجات في البلاد على الإطلاق، إذ خرج أكثر من 300 ألف متظاهر في يوم جمعة «العشائر» دون أن يحصل أي احتكاك مع الأمن.