أمير من العهد الملكي يسهم في التعريف بماضي كوريا

يي سيوك عاد للبلاد بعد سنوات في المنفى وبلدته أعادت له الاعتبار وتستعين به في الترويج للسياحة

TT

أمضيت أنا وزوجي أسبوعا في مشاهدة معالم مدينة سيول، وصعدنا إلى الأدوار العلوية من ناطحات السحاب لمشاهدة موجة من الأضواء الوامضة. ولكن حان الوقت الآن لاستقلال الحافلة والسفر إلى قرية نائية لجمع معلومات عن الفترة ما قبل ظهور الإضاءة بالنيون في كوريا، وهو العهد الذي كانت فيه كوريا دولة واحدة فقط تحكمها سلالة إمبراطورية.

كنا مرتبطين بموعد في جيونجو، وهي مدينة تفصلها ثلاث ساعات بالحافلة عن جنوب سيول. وكان الموعد مع أمير ينحدر من سلالة جوسيون، آخر سلالة ملكية وأطولها حكما في شبه الجزيرة الكورية.

كنت قد سمعت عن يي سيوك، الأمير الضائع الذي شق طريقه في عالم ما بعد الإمبراطورية، في حفل عشاء أثناء فترة إقامتي في كوريا الجنوبية التي امتدت لستة أشهر. وحينما جاء زوجي في زيارة، كنا نتوق لمشاهدة جزء من كوريا لم يكن حديثا أو يضم مباني مبنية بالأسمنت الداكن. لذلك، ذهبنا لمقابلة الأمير والتعرف على الشكل الذي بدت عليه كوريا قبل أن تصبح واحدة من القوى المؤثرة في العالم حاليا.

وفي دولة ثرية، كانت رحلة الحافلة إلى جيونجو، معقل حكام جوسيون، سهلة ومريحة: بضع ساعات على طرق سريعة ممهدة جيدا، بها استراحة لاحتساء القهوة وتناول الفطائر الشبيهة بشكل الجوز. مررنا بجبال خضراء ومزارع ممتدة لأميال قبل أن الوصول إلى جيونجو، حيث أقلتنا سيارة أجرة إلى وجهتنا النهائية: قرية مرممة بها منازل مطلية بالجير الأبيض ولها أسقف داكنة اللون من بلاط السيراميك. توجد متاحف ذات طراز مماثل مليئة بمساكن تقليدية، تعرف باسم الهانوك، حول أرجاء المدينة. غير أن مدينة جيونجو تملك أحد أكبر المتاحف وأفضلها من حيث الصيانة.

شققنا طريقنا إلى غرفة يي سيوك، التي تعتبر جزءا من دار ضيافة على أطراف القرية. تأخر الأمير، حيث كان في زيارة لصديقته في قرية أخرى، لذلك قمنا بالحجز في غرفة بدار الضيافة. كنا غاضبين من الإقامة بها في تلك الليلة الشتوية الباردة (كانت النوافذ والأبواب مغطاة بورق الحائط الخفيف)، لكن مدير دار الضيافة وعدنا بأننا سننام كالملوك، حيث توجد ألحفة حريرية مبطنة، كما تمت تدفئة أرضية الغرفة.

وصل الأمير بعد الغروب في عربة فضية ودعانا إلى غرفة المعيشة، حيث جلسنا القرفصاء حول إبريق شاي لامع. كان الأمير، الذي ما زال يبدو وسيما في سن السبعين، يرتدي سترة حريرية مبطنة فاتحة اللون، وهي نمط حديث من الملابس الكورية قديمة الطراز. وكانت صور لجده الإمبراطور كوجونغ وعمه الإمبراطور سانجونغ (آخر الأباطرة) معلقة على الحائط من فوقنا.

«كل ليلة أحلم بأيام القصر»، هكذا استهل يي سيوك حديثه بلغة إنجليزية بدت غير سليمة أحيانا. أدركنا أن هذا ما سنسمعه، قصة ابن محظوظ ولد بعد فوات الأوان. كان أبرز عنصرين في قصة حياة يي سيوك هما مروره بموقف عصيب وخروجه منه: فبعد عقود من الكفاح، بما فيه الهجرة غير القانونية إلى الولايات المتحدة، عاد إلى كوريا ليصبح بلا مأوى. وفي عام 2004، عثر عليه صحافي كوري، نائما في حمام عمومي ليلا في سيول وكتب عن معاناته. ومنحته مدينة جيونجو، التي تسعى لترويج السياحة باعتبارها مسقط رأس مؤسس سلالة جوسيون، منزلا ووظيفة جديدة كمتحدث عن هذه الحقبة البائدة من تاريخ كوريا.

وفي الوقت الحاضر، يقوم برحلات في جيونجو ويتحدث عن التاريخ الملكي في الجامعات بمختلف أنحاء المدينة. وتمت دعوته للتلويح للجماهير في المهرجانات ومراسم افتتاح الأحداث المهمة ولتوجيه الركلة الأولى في مباريات كرة القدم.

أمضى يي سيوك، الذي ولد في 1941، بعد وقت طويل من فقدان أسرته السلطة والتي كان قد تم إجلاؤها قبل ذلك من قصورها الملكية، سنوات حياته الأولى في قصر سادونغ في سيول. وكانت أمه واحدة من الزوجات العشر للأمير إيوها وكان للأمير يي أكثر من 20 أخا. يتذكر سيوك ذهابه إلى المدرسة في حماية وصيفات والتزامه باتباع نظام سلوك صارم. فمثلا، لم يكن الجري سلوكا محترما؛ كما لم يكن مسموحا له إصدار جلبة عند تناول الطعام.

تولت سلالة جوسيون مقاليد السلطة في عام 1392، حينما أطاح القائد العسكري يي سونغ غاي بالملك كوريو، منهيا أكثر من أربعة عقود من حكم سلالة أضعفتها احتلالات المغول. وحول العاصمة إلى سيول بدلا من كايسونغ التي تبعد نحو 50 ميلا جهة الشمال. أشرف يي والملوك الستة والعشرون الذين تلوه على عملية صياغة أبجدية كورية مميزة، فترة ازدهار الثقافة الكونفوشيوسية، وسياسة تقوم على معارضة التدخل في الشؤون الخارجية والتي جعلت كوريا تعرف باسم «المملكة المنعزلة».

انتهت فترة حكم سلالة يي في عام 1919، عندما استعمرت اليابان كوريا. وبعد الحرب العالمية الثانية وجلاء الاحتلال الياباني وانقسام الدولة، سعت كوريا الشمالية إلى نوع مختلف من السلالات الأسرية الحاكمة. لكن في جمهورية كوريا، يتم في وقتنا الحاضر انتخاب القادة، ولم تعد الحياة اليومية مرتبطة بدرجة كبيرة بالأصول الملكية في الدولة.

في الوقت الذي أنهى فيه يي دراسته الجامعية، كان لدى أسرته عدد محدود متبق من الأصول. وعثر على وظيفة مغن في الفنادق والقواعد العسكرية. وعلى الرغم من أن مجال عمله أثار إحباط بعض أقاربه، فإنه اشتهر بلقب «الأمير المغني». وأصبحت أغنية «عش اليمام» الشعبية التي قام بتأليفها الأغنية المفضلة في حفلات الزفاف. وفي غرفة المعيشة، بدأ بغناء مقطع آخر راق له من المسرحية الغنائية «قصة الحي الغربي»: «الليلة، الليلة، لا يوجد سواك الليلة»، هكذا دندن بصوت رقيق خفيض.

سافر يي إلى فيتنام إبان الحرب، للترويح عن القوات الأميركية وأصيب بطلقة رصاص في كتفه جراء قصف جبهة التحرير الوطنية. وغادر كوريا مرة أخرى في عام 1979، حينما تم إجلاء الأسرة المالكة رسميا من القصور أثناء انقلاب عسكري تبع اغتيال الرئيس بارك تشونغ هي.

وذهب إلى الولايات المتحدة بتأشيرة سائح ومكث بها وعمل بتنظيف الأحواض وكحارس أمن في لوس أنجليس. وبعد زواجه من امرأة تحمل الجنسيتين الكورية والأميركية في لاس فيغاس، تقدم بطلب للحصول على بطاقة إقامة دائمة «غرين كارد» في الولايات المتحدة.

وعندما توفيت عمته في عام 1989، عاد إلى كوريا لحضور جنازتها، ولكن حينها لم يعد بإمكانه القول إنه عاد لأرض الوطن. فوقتها، كان قصر تشانغديوك في سيول، آخر مكان أقامت فيه الأسرة المالكة، قد تحول إلى مزار سياحي. وذكر أنه في بعض الليالي، كان يقفز من السور وينام على الأرض في أحد المباني. وأخبرنا أيضا أنه حاول الانتحار تسع مرات. وعقب نشر قصته في الصحف، عثر عليه مسؤولون في جيونجو وساعدوه في بدء مرحلة جديدة من حياته. والآن، يعيش يي هنا بشكل غير دائم، ولديه أيضا شقة في سيول، كما يسافر عبر مختلف أنحاء المدينة للحديث عن ماضي أسرته. «لدينا تاريخ رائع يجب ألا ننساه»، هكذا تحدث مجسدا ثقة رجل تمكن أخيرا من العثور على وظيفة دائمة.

وبعد زيارتنا للأمير، ذهبنا لتناول العشاء وجربنا طبق الماكولي المعروف هناك، وهو عبارة عن أرز يقدم في قدر ذهبي مع أطباق جانبية من الخضراوات المخللة ويخني الكيمشي لتشكيل وجبة. وفي الفندق، كانت الغرفة بأكملها مغطاة بأرضية مدفئة ونمنا مستدفئين - كما وعدنا - في سرير خفيض على الأرض.

وحينما استيقظنا، كانت الثلوج تتساقط على الأسطح، وتجولنا عبر أنحاء قرية جيونجو، التي تعد بمثابة معلم يجسد الفن المعماري التقليدي والغذاء الكوري القديم وكذلك نمط حياة الأسرة المالكة. طفنا بالطرق الضيقة مارين بمبان خشبية صغيرة منحوت عليها بشكل رائع حروف هانجا، وهي حروف صينية سبقت تشكيل الأبجدية الكورية.

زرنا معارض فنية ومقاهٍ وحانات وذقنا طبق البيبيمباب، وهو طبق كوري مفضل مكون من مزيج من الأرز والخضراوات واللحم البقري. وقبل مغادرتنا مساء اليوم التالي، زرنا صالة عرض تضم صورا لملوك جوسيون ذوي اللحى الطويلة الرفيعة والذين يرتدون أغطية رأس منمقة. وتسلقنا تلا أعلى القرية، متبعين طريقا ذكر الأمير أنه يحب السير فيه صباحا لزيارة مقابر أجداده حيث احتفى يي سيونغ غاي ذات يوم بانتصاره العسكري على اليابانيين، قبل أن يتولى حكم بلاده.

وعودة إلى سيول، استمررنا في تعقب الجذور الملكية للأمير. زرنا قصر غايونغبوك، قصر «السعادة المشرقة». وكان هذا أول قصر ملكي يقام في العاصمة الجديدة، ولا يزال يطل على بعض أفضل العقارات في المدينة، بين البيت الأزرق ومجلس المدينة. وفي متحف التراث الشعبي الوطني التقينا مرشدا سياحيا متلهفا يتحدث الإنجليزية والذي اصطحبنا في رحلة عبر ألفي عام من تاريخ الأسرة المالكة.

وتبقى أربعة قصور أخرى في قلب المدينة القديمة. ويعتبر قصر تشانغديوك أفضلها حالا. يذكر أنه تم تجديد ثلث المباني القديمة، وتمتلأ الحديقة المجاورة لأرض القصر بالأزهار كل ربيع. زرنا ضريح جونغميو، حيث تم الاحتفاظ بطاولات تخلد ذكرى ملوك وملكات سابقين وسرنا حول حي إنسادونغ المجاور حيث نشأ يي سيوك، والذي يعج الآن بالمقاهي ومحلات المصنوعات الخزفية.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»