منصات التكفير السلفية.. آخر صيحات المجتمع السياسي المصري

طالت معتصمي التحرير مرورا بـ«غزوة الصناديق».. وصولا إلى مرشحي الرئاسة المحتملين

TT

بعد طول انتظار لممارسة الحياة السياسية الديمقراطية بشكلها السليم، ارتطمت تطلعات المصريين بالكثير من الجدران التي فرضتها المرحلة الانتقالية بعد ثورة «25 يناير»، ومنها التخبط بين البرامج الحزبية القديمة أو الناشئة.. ولكن أحدث صيحات تلك العوائق كانت الاتهامات الطائشة بالكفر التي راجت مؤخرا في مختلف الأوساط المصرية.

وأصبحت اتهامات الكفر للمخالفين في الرأي في طرقها إلى التحول إلى ظاهرة، لدرجة أن وصفها الكاتب الصحافي الساخر جلال عامر بـ«منصة إطلاق صواريخ التكفير» في صحيفة «المصري اليوم»، كما علق عليها الطبيب والناشط السياسي أيمن دراج (28 عاما)، متحسرا على الواقع الذي بدأ في فرض سيطرته بقوله إن انتقاد تكفير الآخر أفقده بعضا من أصدقائه.

وأضاف دراج: «تعرضت لصدامات كثيرة مع أصدقاء لي وكلها متشابهة. اعتدت التعبير عن آرائي الليبرالية من خلال صفحتي على (فيس بوك)، ومن ضمنها انتقاد تجاوزات (الإخوان المسلمين) والسلفيين.. وتسبب ذلك في خلافات شديدة بيني وبين أصدقائي المنتمين لهذه التيارات. في البداية كنا ندخل في مناقشات وأحاول شرح وجهة نظري، لكن بعد عدة مرات اكتشفت أنهم لا يريدون الإنصات ومتشبثون بآرائهم القائمة على تكفير آراء الآخرين. في النهاية وبعد صدامات قوية حذفت بعضهم من قائمة الأصدقاء وانقطعت علاقتي بالبعض الآخر». ظاهرة التكفير، التي بدأت في الرواج بعد الثورة، لها جذور وتحولات تمتد عبر السنين.. ولعل أبرزها في النصف الأول من القرن العشرين تلك التي طالت عميد الأدب العربي طه حسين بسبب كتابه «في الأدب الجاهلي» الصادر عام 1926، ووصل الأمر للنيابة التي برأته من الاتهام. واللافت أن كاتبا مثل إسماعيل أدهم أصدر عام 1937 كتابا بعنوان «لماذا أنا ملحد»، ليرد عليه أحمد زكي أبو شادي برسالة بعنوان «لماذا أنا مؤمن»، من دون أن يتعرض الأول للتكفير أو إهدار دمه. إلا أنه مع صعود الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة في النصف الثاني من السبعينات، اتخذت فتاوى التكفير منحى أكثر عنفا وخطورة مع تحرك عناصر متطرفة لتنفيذ عقوبة القتل في المتهم، وكان أبرز الضحايا الشيخ الذهبي، وزير الأوقاف، الذي قتل على يد جماعة «التكفير والهجرة» عام 1977، والرئيس أنور السادات، على يد جماعة «الجهاد» عام 1981.

كما امتدت لتسقط في طريقها المفكر فرج فودة عام 1992، ومحاولة اغتيال الأديب العالمي نجيب محفوظ عام 1994، وشملت تعرض المفكر نصر حامد أبو زيد لاغتيال معنوي بسبب اتهامات بالتكفير وصلت المحاكم التي قضت بالتفريق بينه وبين زوجته في منتصف التسعينات، مما اضطره للفرار من مصر إلى هولندا. ولكن مع أيام الثورة الأولى، خرجت فتاوى من أفراد محسوبين على التيار السلفي تصف المعتصمين بميدان التحرير بـ«الشواذ»، وتطالب بالتفريق بينهم وبين زوجاتهم بدعوى أنهم خرجوا من ملة الإسلام.

ثم جاءت الموجة الأولى الكبرى من اتهامات التكفير الجماعي بعد الثورة مع إجراء الاستفتاء على تعديلات دستورية في مارس (آذار)، حيث تم إقحام الخطاب الديني بادعاء أن التصويت بـ«لا» يعني إلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع، رغم أنها لم تكن من بين المواد المطروحة في الاستفتاء، في حين أن الموافقة تعني قول «نعم للإسلام»، وهو المفهوم الذي أكده بعدها الشيخ السلفي البارز محمد حسين يعقوب الذي وصف الاستفتاء بأنه «غزوة الصناديق»، قائلا إن النتيجة التي جاءت لصالح التعديلات الدستورية تعني أن «الشعب قال نعم للدين».

وأثارت تلك التصريحات موجة عاتية من الانتقادات، واستفزت كثيرا من الكتاب البارزين، مثل الكاتب والشاعر فاروق جويدة الذي تناول الظاهرة الجديدة تحت عنوان «لسنا كفار قريش.. ولستم أصحاب النبي»، لينقسم بعدها شكل الدولة المصرية ما بين التيارات الليبرالية والعلمانية واليسارية من جانب، والإسلامية من جانب آخر.

وامتدت شرارات النيران إلى الحياة الاجتماعية، لتتحول وسائل المواصلات وصفحات «فيس بوك» لساحات نقاشات محتدم بين المعسكرين الليبرالي والإسلامي، وهي نقاشات أحيانا ما تكتسب حدة بالغة وتنتهي بخصومة وقطيعة. وبينما يعتقد بعض المحللين أن ذلك ربما يكون نتاجا طبيعيا لنيل الحرية بعد عقود من الكبت وغياب حرية التعبير، يرى آخرون أن هذا الاستقطاب وخطاب التكفير يشكلان خطرا داهما على البلاد بينما هي في أمس الحاجة لوحدة الصف للمرور بسلام من الفترة الانتقالية الراهنة.

الطالب الجامعي إيهاب أحمد (20 عاما) يرصد تلك المخاوف في تجربته الشخصية، قائلا «أثناء اعتصامات الثورة بميدان التحرير، تعرفت على شاب سلفي، وتعمقت صداقتنا بمرور الأيام.. ولكن بعد أن هدأت الأوضاع، وأثناء مناقشتنا السياسية، قال إن الليبرالية والعلمانية كفر، وحاولت إقناعه بأن ذلك غير صحيح وفشلت. ورغم أن التواصل بيننا لم ينقطع تماما، فإنه أصبح فاترا بوضوح».