بعد ثورة مصر: 80 مليون سياسي يتمتعون بـ90% من حرية التعبير

حالة حراك جديدة في وسائل الإعلام وبين النشطاء في شوارع القاهرة

TT

إنها فكرة ولدت من يأس. كان إبراهيم عيسى، الصحافي المعارض البارز، غاضبا بشدة من الطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الحكومية في مصر أحداث ثورة 25 يناير. لذلك، قرر إطلاق محطة تلفزيونية خاصة به.

وبالطبع سيتعذر القيام بذلك من دون الحصول على موافقة من الأمن الداخلي في مصر. غير أن المسؤولين هنا اندهشوا من المظاهرات التي اندلعت في ميدان التحرير. من ثم، فمن خلال مبلغ 300 دولار والاستعانة ببعض المتطوعين وتردد بث فضائي منحه له أحد أصدقائه، تمكن عيسى من بث قناته.

وبعد أربعة أشهر، وصل عدد مشاهدي قناة «التحرير» التي أنشأها إلى ملايين. ويجسد عيسى، الذي احتجز وتعرض لمضايقات في ظل حكم حسني مبارك، رمزا لزيادة حرية التعبير في الدولة التي هيمن على مقاليد الحكم فيها حزب واحد فقط قبل الثورة.

«تبدو فكرة منع الناس من الحديث والتعبير عن آرائهم بحرية قد ولت إلى غير رجعة»، هكذا تحدث الصحافي (46 عاما) وهو يجلس في مكتبه بمنفذ إعلامي آخر قام بإنشائه، وهو الصحيفة التي تحمل اسم «التحرير».

ومنذ اندلاع الثورة، يتزايد عدد القنوات التلفزيونية والصحف الجديدة. وباتت المجموعات التي كانت مهمشة من قبل وسائل الإعلام (الساسة المعارضون والإسلاميون ونشطاء حقوق الإنسان) في نشر مقالات رأي في الصحف والظهور في البرامج الحوارية.

ولحرية الإعلام الجديدة حدود. فقد فرض المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتولى شؤون البلاد الآن، حظرا صارما على انتقاده في وسائل الإعلام؛ فقد قام بحبس مدون واستجواب صحافيين وجهوا له انتقادات في الصحف أو في وسائل الإعلام المسموعة أو المرئية. غير أن هناك حالة حراك جديدة في وسائل الإعلام وبين النشطاء، التي تشكل اختبارا مهما لسلطة الرقابة.

قالت لينا عطا الله، مدير تحرير النسخة الصادرة بالإنجليزية من صحيفة «المصري اليوم»، إحدى الصحف المستقلة البارزة: «هناك شعور من جانب الإعلام بأن هذه نقطة اللاعودة»، وأضافت: «علينا أيضا العمل كمجموعة هدفها الدفاع عن المصالح العامة وإتاحة أقصى قدر ممكن من الحرية».

في السنوات الأخيرة، تولى عيسى رئاسة تحرير الكثير من الإصدارات التي كانت الحكومة قد حظرت نشرها. وكان جزءا من موجة جديدة من الإعلام المستقل، التي قدمت بديلا حيا، وأحيانا حسيا، للصحف والقنوات التلفزيونية الحكومية المتملقة للنظام.

ومع ذلك، فإنه قبل الثورة، كان الصحافيون المستقلون عادة ما يتعرضون لمضايقات، وكانوا مهددين دائما بخطر الاعتقال إذا ما تجاوزوا الحدود في كتاباتهم.

وفي 2008، حُكم على عيسى بالحبس لمدة شهرين بسبب كتابته مقالا عن الحالة الصحية للرئيس السابق، وبعدها تم العفو عنه. وفي العام الماضي، أقيل من رئاسة تحرير صحيفة «الدستور» الأسبوعية، التي أسسها في 1995 بتهمة «تهديد الوحدة الوطنية».

وفي أعقاب الثورة، تغاضت الحكومة عن ضرورة أن تحصل المحطات التلفزيونية على ترخيص من الأجهزة الأمنية. وقد انطلقت 20 قناة تلفزيونية جديدة على الأقل أو لا يزال يجري الإعداد لإطلاقها، ومن بينها «التحرير» و«25»، التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى يوم 25 يناير (كانون الثاني) الذي بدأت فيه الثورة. وهناك محطات أخرى كثيرة تديرها جماعات دينية، من بينها جماعة الإخوان المسلمين المحظورة منذ وقت طويل وجماعة السلفيين.

وتعكس الزيادة الهائلة في عدد القنوات التلفزيونية زيادة جمهور الأخبار في هذه الدولة التي يبلغ تعداد سكانها 80 مليون نسمة، والتي تواجه مستقبلا سياسيا غير مؤكد بعد 30 سنة استأثر فيها شخص واحد بالحكم.

«لقد انتقلنا من فترة ربما كان فيها شخص واحد فقط من كل 1000 شخص مهتما بالسياسة، إلى فترة أصبح فيها 80 مليون سياسي»، هذا ما قاله حسام بهجت مؤسس ومدير جماعة حقوق الإنسان البارزة التي تحمل اسم «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية».

وقد ظلت وسائل الإعلام الحكومية حذرة نسبيا، مع أن الحكومة المؤقتة في مصر قد أطاحت برؤوس المحطات الإذاعية والتلفزيونية والكثير من المحررين الآخرين ذوي الصلة بالنظام السابق، غير أنها تواجه تحديات جديدة.

فمؤخرا، هدد أنصار محمد البرادعي، أحد السياسيين المعارضين البارزين والحائز على جائزة نوبل، بالتظاهر، بعد علمهم أنه تم منعه من الظهور بأحد البرامج بالتلفزيون المصري الحكومي، وسرعان ما تراجعت المحطة التلفزيونية عن رأيها.

قال بهجت: «هناك تغيير جذري ممثل في أن هناك حرية تعبير بنسبة 90 في المائة. أما نسبة الـ10 في المائة فتتمثل في الجانب المحظور المساس به بشكل واضح، وهو الجيش».

بيد أن المجلس العسكري لا يفوت أي انتقاد من دون الدخول في نزاع. فلا يزال من الأمور غير المسموح بها قانونا «انتقاد» القوات المسلحة، التي سبق أن تم الاحتفاء بها لدعمها الثورة. ولكن مع إدارة الجيش شؤون البلاد، على الأقل حتى إجراء الانتخابات المزمع عقدها في الخريف، بات قادته يجدون أنفسهم موضع انتقادات عنيفة.

وفي مارس (آذار)، أرسل المجلس الأعلى للقوات المسلحة خطابا إلى وسائل الإعلام يأمرها فيه بعدم نشر أخبار عن الجيش من دون تمريرها عليه لمراجعتها أولا. وبعد أسابيع، أصدرت محكمة عسكرية حكمها على المدون مايكل نبيل سند بالسجن ثلاث سنوات بتهمة نشر ادعاءات بتعذيب الجيش للمتظاهرين المشاركين في انتفاضة مارس (آذار).

وقد تجلت الخلافات المتزايدة بين الجيش والصحافيين، الشهر الماضي، بعد أن تم استدعاء المدون الشهير حسام الحملاوي ومذيعين تلفزيونيين للمثول أمام المحكمة العسكرية بتهمة الظهور في برنامج تلفزيوني واتهام عضو في المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتحريض على انتهاكات ضد المتظاهرين، على حد زعمهم.

ويخشى كثيرون من أن يتم الزج بالثلاثة في السجن. ولكن القضية حظيت بتغطية إعلامية ضخمة وأدت إلى إطلاق حملة على الإنترنت من جانب أنصار الحملاوي. وفي النهاية، تم إخطار الصحافيين بأن الاستدعاء لمجرد «الدردشة»، حسبما نشر الحملاوي لاحقا في مدونته.

وقال الحملاوي في مقابلة أجريت معه: «كان هناك ضغط. وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي أثار غضبي».

في حقيقة الأمر، يبدو المجلس العسكري نفسه كما لو كان يصارع من أجل تحديد ما هو مقبول، حيث إنه يقوم بدور لم يعتد القيام به.

وقال قائد عسكري لم يذكر اسمه من خلال مداخلة هاتفية له بأحد البرامج الحوارية التلفزيونية: «يجب أن ينصب النقد فقط على الدور السياسي للمجلس العسكري، ولكن لا يكون موجها إلى أشخاص أو رموز أو قادة بارزين.. هذا جيشكم ويجب أن تظهروا الاحترام له».

وفي 18 يونيو (حزيران)، استدعى مدعون عسكريون صحافيين آخرين، هما رشا عزب، المحررة بصحيفة «الفجر» الأسبوعية المستقلة، ورئيس تحرير الجريدة عادل حمودة، بسبب مقال نشر يتهما فيه القوات المسلحة بوقائع تعذيب وإجراء «اختبارات عذرية» للمتظاهرات أثناء احتجازهن في مارس.

وقالت إيليا زروان، محللة بمجموعة الأزمات الدولية: «إن الصحافيين يحاولون تحديد الخطوط الحمراء الجديدة ووضع تعريف محدد لها. هناك نوع من الشد والجذب الآن».

** خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»