ازدهار البناء في غزة يخفي خلفه شقاء باقيا

القطاع يشهد افتتاح فندقين فاخرين ويعج بالسيارات الجديدة

TT

يشهد الشهر الحالي افتتاح فندقين فاخرين في قطاع غزة، في الوقت الذي تعج فيه الطرق بآلاف السيارات الجديدة. ومن المقرر افتتاح مركز تسوق ثان بالقطاع الشهر المقبل، وقد تم استيراد السلالم الكهربية الخاصة به من إسرائيل. وبالمثل، من المقرر الانتهاء من بناء مئات المنازل وأكثر من 20 مدرسة جديدة في الفترة المقبلة. وتنتج مزرعة تتولى جماعة حماس إدارتها، على أرض كانت من قبل مستوطنات إسرائيلية، كميات كافية من الفواكه، مما أدى إلى تراجع الواردات الإسرائيلية.

ومع استعداد نشطاء مناصرين للفلسطينيين لإرسال أسطول يرمي للإبقاء على الاهتمام الدولي بغزة والضغط على إسرائيل، يشهد هذا الجيب الساحلي الفلسطيني أول فترة نمو اقتصادي حقيقي منذ الحصار الذي يتعرض له بداية منذ عام 2007.

عن ذلك، قال جمال الخضري، رئيس مجلس أمناء الجامعة الإسلامية بغزة، الذي تولى قيادة «اللجنة الشعبية ضد الحصار» بغزة: «الأوضاع الآن أفضل مما كانت عليه منذ عام مضى. وانتهى الآن الحصار على السلع بنسبة تتراوح بين 60% و70%.» من جهته، قال علاء الرفاتي، وزير الشؤون الاقتصادية في «حماس»، إن «قرابة 1000 مصنع تعمل الآن هنا، ولا تتجاوز معدلات البطالة الآن 25% في أعقاب حدوث انخفاض حاد في أعداد العاطلين خلال الربع الأول من العام». وأضاف: «أمس فقط، أطلق مجلس بلدية غزة 12 مشروعا لتمهيد طرق وحفر آبار وزراعة حدائق.» إذن، هل تلك هي مجمل الأنباء الواردة من غزة في منتصف عام 2011؟ نعم، لكن تبقى أنباء أخرى: آلاف المنازل دمرت في الغزو الإسرائيلي الصاروخي منذ عامين ونصف العام ولم تتم إعادة بنائها حتى الآن، وألغت المستشفيات الجراحات الاختيارية لنقص الإمدادات الطبية. ولا تزال إمدادات الكهرباء متقطعة بصورة بالغة، وأخفقت المحاولة المصرية لإعادة فتح المعبر بين الجانبين، بعد حملة دعائية كبيرة، وبالتالي لا يزال الناس محاصرين هنا. وفي غضون 4 سنوات، ارتفعت أعداد الأفراد الذين يعيشون على أقل من 1.60 دولار يوميا بمقدار ثلاثة أضعاف، بينما يعتمد ثلاثة أرباع السكان على المساعدات الغذائية.

الملاحظ أن المناطق صاحبة التاريخ المثير للجدل مثل غزة تتوافر في العادة أمامها العديد من المناسبات لإحيائها، فقد مرت 4 سنوات منذ أن قررت حماس السيطرة على القطاع، مما دفع إسرائيل ومصر لفرض حصار على الأفراد ومعظم السلع. ومر عام منذ أن تحدى أسطول تركي الحصار وقتلت قوات الكوماندوز الإسرائيلية 9 نشطاء على متن سفن الأسطول، مما أثار موجة غضب عالمية وأدى لتخفيف وطأة الحصار. ومرت 5 سنوات منذ اختطاف ستاف سيرجنت جلعاد شاليط وأسره من دون السماح لممثلين عن منظمة الصليب الأحمر بزيارته. ولدى تقييم أوضاع 1.6 مليون فرد يعيشون في غزة، عادة ما تثار قضية أين ينبغي رسم الخط الأساسي في القضية الذي غالبا يحفز المناقشة. وتبقى الحقيقة أن غزة لم تكن يوما بين أكثر مناطق العالم فقرا، ويتمتع جميع سكانها تقريبا بالقدرة على القراءة والكتابة وتتسم بمعدلات وفيات أطفال منخفضة نسبيا، ولا تزال الظروف الصحية بها أفضل عما هي عليه في كثير من أرجاء العالم النامي.

من جهته، قال محمود ماهر، مسؤول بمنظمة الصحة العالمية هنا: «لدينا لقاحات تكفي 100% من السكان، وليس هناك وجود لأي من شلل الأطفال والحصبة والدفتريا والإيدز. ولم نعاين قط اندلاعا لوباء الكوليرا.» على الجانب الآخر، تستغل الحكومة الإسرائيلية وأنصارها مثل هذه البيانات في رسم صورة إيجابية للأوضاع في غزة وللتدليل على أن السياسة الإسرائيلية تحمل طابعا إنسانيا ولائقا، وبالتالي ليست هناك حاجة لإرسال أساطيل لمساعدة القطاع.

في المقابل، يرى منتقدو إسرائيل أن حقيقة أن المشكلات القائمة في غزة لا تقارن بتلك التي تعانيها منطقة الصحراء الكبرى، لا تجعل الأزمة السياسية وأزمة حقوق الإنسان القائمة هنا أمرا منطقيا يمكن علاجه. ويشيرون إلى أن إسرائيل لا تزال تتحكم في الوصول للبحر والجو ومعظم الطرق البرية، وتتسبب سياساتها الأمنية في وأد فرص التنمية أمام مجموعة سكانية متعلمة وقادرة على تقديم مستويات إنجاز مرتفعة، لكنها محاصرة من دون أمل يلوح في الأفق. وعليه، فإنهم يرون ضرورة الاستمرار في الضغوط حتى رفع الحصار كلية، ويرون أن الحديث عن حدوث تحسن في أوضاع القطاع يأتي بنتائج سلبية.

وتنبع التغييرات الأخيرة داخل غزة من مزيج من تحولات في السياسة الإسرائيلية وفوضى تعتمل بها مصر. ورغم أن شرطة الحدود المصرية الجديدة لم تخلق اختلافا كبيرا عن سابقتها، فإن الثورة المصرية وما نتج عنها من انحسار لأعمال فرض النظام داخل سيناء تركت تأثيرا عميقا.

خلال العام الماضي، سمحت إسرائيل بمرور كل شيء تقريبا إلى داخل غزة ما عدا الإسمنت والحديد الصلب ومواد البناء الأخرى؛ بسبب المخاوف الإسرائيلية من إمكانية استخدام حماس لها في بناء مناطق حصينة وقنابل. ويجري حاليا تنفيذ عدد من المشروعات الدولية، لكن هناك حاجة ملحة لمشروعات بمجالات الإسكان وتمهيد الطرق وبناء المدارس والمصانع ومشروعات الأشغال العمومية، التي تجري جميعها تحت إشراف حماس أو القطاع الخاص. وتحظر إسرائيل من جانبها دخول جميع السلع اللازمة لمضي هذه المشروعات قدما.

وعليه، جرى خلال الشهور الأخيرة استغلال الأنفاق الموجودة أسفل الحدود الجنوبية التي كانت تستخدم في إدخال سلع استهلاكية للقطاع، بصورة تكاد تكون حصرية في تهريب مواد البناء.

ويجري تهريب أجولة من الإسمنت وأكوام من الحصى، تركية المنشأ وجرى شراؤها بصورة قانونية من مصر، عبر مئات الأنفاق ليل نهار، وبلغ إجمالي حجم المواد المهربة نحو 3.000 طن يوميا. ومنذ الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، لم تعد السلطات الأمنية المصرية تتصدى للمهربين. والآن، يشهد القطاع تمهيد طرق وبناء مبان.

من جانبه، قال محمود محمد، عامل بناء كان فريق العمل المعاون له المؤلف من 10 رجال يقوم بنقل قضبان حديد صلب عبر الأنفاق لتوجيهها إلى مطعم جديد تحت الإنشاء: «من قبل كان مبارك يسحقنا. العام الماضي، كنا نجلس بمنازلنا من دون عمل. والآن أصبح لدى المقاول الذي أعمل لحسابه ثلاثة مشروعات كبرى جارية.» بالجوار، كان عامر سيلمي يتولى الإشراف على بناء قاعة أفراح مؤلفة من ثلاثة طوابق بتكلفة مليوني دولار. وجاءت معظم المواد المستخدمة في البناء عبر الأنفاق.

أما كريم غرباوي فيعمل مهندسا معماريا ومصمم بناء يشرف الآن على 10 مشروعات جاري العمل بها، وجميعها مبان سكنية يتراوح عدد طوابقها بين ثمانية وتسعة طوابق. وأشار غرباوي إلى أن غزة بها قرابة 130 شركة بمجال التصميم والهندسة المعمارية. ومنذ عامين، لم يكن أي منها يعمل. واليوم جميعها تعمل.

من بين النتائج الأخرى للتغييرات الإقليمية وجود عدد كبير من السيارات الجديدة داخل القطاع. كانت إسرائيل قد سمحت بمرور 20 سيارة أسبوعيا، لكن هذا لا يفي باحتياجات القطاع. ووصلت للقطاع مئات السيارات الجديدة من شاحنات وطراز «بي إم دبليو» وغيرها قادمة من ليبيا وتمر عبر مصر ثم تصل عبر أنفاق غير خاضعة لمراقبة. ومن المعتقد أن العشرات من سيارة «كيا سبورتاج»، التي تنتشر بوضوح في الشوارع، جاءت عن طريق توكيل السيارات نفسه في بنغازي بليبيا الذي تعرض للسلب بعد اندلاع الثورة هناك.

وتبدو الآن سيطرة حماس على القطاع أقوى من أي وقت مضى، ويعني تخفيف صرامة الدوريات على الأنفاق داخل مصر إمكانية نقل أسلحة أيضا. إلا أن استطلاعات الرأي تكشف أن المنافس الأكثر علمانية لحماس، فتح، تحظى بشعبية أكبر، وهو مما قد يفسر سر بطء المحاولة الأخيرة لتحقيق الوحدة السياسية مع فتح، وهو أن قادة حماس هنا من المحتمل أن يفقدوا وظائفهم. وتعد أزمة إمدادات المستشفيات نتيجة مباشرة للتوترات القائمة بين حماس وفتح في الضفة الغربية، التي حالت دون شحن الإمدادات للقطاع.

ولم تترك جهود مجموعات إسلامية صغيرة لتحدي سلطة حماس تأثيرا يذكر. ومر عام منذ محاولة الحكومة الفاشلة فرض قيود دينية أكثر صرامة عبر منع النساء من تدخين النرجيلة في الأماكن العامة. مساء أحد الأيام القريبة، كانت نساء لا يرتدين غطاء للشعر يجلسن في مطعم «كارينو» الجديد؛ حيث توجد طاولات بلياردو وشاشات تلفزيونية ضخمة، يدخن بحرية.

لكن مثل هؤلاء الأفراد وتلك الأماكن يشكلون طبقة صغيرة للغاية من سكان غزة، والتركيز عليهم يشوه الصورة العامة الأكثر ظلاما.

سماح صالح، 21 عاما، طالبة بكلية الطب وتعيش بمخيم جباليا. يعكف والدها، الذي يعمل في إصلاح الأجهزة الكهربائية، على بناء طابق ثان لمنزلهم نظرا لتوافر مواد البناء المهربة عبر الأنفاق. وبذلك ستحصل سماح على غرفة خاصة بها لأول مرة في حياتها، لكنها تنظر لحسن حظها داخل الصورة العامة للقطاع. وقالت: «بالنسبة للغالبية العظمى في غزة، لا يبدو هناك تحسن في الأوضاع. ولا يزال معظم أبناء غزة منسيين.»

* خدمة «نيويورك تايمز»