5 دروس مستفادة من غرفة حرب غيتس

أمضى 4 عقود في خدمة 8 رؤساء.. وقوة لا غنى عنها في الجدل المثار حول الحروب

وزير الدفاع الاميركي روبرت غيتس يترك منصبه الأسبوع الحالي (واشنطن بوست)
TT

في عصر تنهار فيه مكانة واشنطن شيئا فشيئا بصورة متزايدة، يعتبر وزير الدفاع روبرت غيتس هو رجل واشنطن الأساسي.

ويتجلى هذا في مظهره؛ فهو يفضل ارتداء البدل الداكنة والقمصان البيضاء وتصفيف شعره الأبيض بعناية.

أما عن خلفيته، فقد أمضى 4 عقود في خدمة 8 رؤساء. وفيما يتعلق بأسلوب عمله، فهو حذر ومتحفظ ويوجهه مبدأ الوصول إلى إجماع الآراء.

وخلال عمله لمدة 4 سنوات في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بات غيتس قوة لا غنى عنها في الجدل المثار حول الحروب التي لا تحظى بتأييد الشعب الأميركي. ويعتبر بمثابة مدير ثاقب الفكر، يجسد مثالا حيا لبيروقراطية البنتاغون، واكتسب سمعة بوصفه أكثر وزراء الدفاع كفاءة خلال عقود.

«إنه مدير بيروقراطي يتمتع بأقصى درجة من الكفاءة، وأعني هذا من ناحية إيجابية».. هذا ما ذكره إليوت كوهين، مسؤول رفيع المستوى في إدارة جورج دبليو بوش وأستاذ بكلية الدراسات الدولية المتطورة بجامعة جونز هوبكينز. وأضاف: «إنه رجل مستقيم وحصيف ومنضبط، وحكيم في وقت نحن فيه في حاجة ماسة إلى حكماء».

وفي الوقت الذي يستعد فيه غيتس لترك منصبه هذا الأسبوع، يتمحور النقد الموجه إليه حول كونه مجرد أداة لتنفيذ سياسات رؤسائه أكثر من كونه صاحب رؤية جريئة يسعى إلى إدخال تغييرات على الجيش الأميركي. وقد واجه غيتس هذا النقد في لقاء أُجري معه مؤخرا بقوله: «لم يكن هناك وقت في حقيقة الأمر لتبني رؤية جريئة في خضم حربين».

وربما لن يتمثل الميراث الذي تركه كوزير دفاع في أفكار عظيمة، بل في إدارته البراغماتية لحربين، وفي الوسيلة التي تمكن من خلالها هذا المصدر المطلع على بواطن الأمور في واشنطن لأجل طويل من الاستحواذ على مقاليد السلطة.

فيما يلي بعض الدروس المستفادة منه..

* الدرس الأول: شراء الوقت

* بعد فترة قصيرة من توليه منصب وزير الدفاع عام 2006، أخبر غيتس الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق حينها، بالطريقة التي يرغب في اتباعها في العمل. خاطبه غيتس قائلا: «لديك مساحتك في المعركة ولديَّ مساحتي».

لقد ركز بترايوس في معركته على المتمردين وفرق الموت التي تجوب شوارع بغداد. أما أسلوب غيتس في المعركة فكان يهدف لشراء المزيد من الوقت في واشنطن من أجل أن تؤتي استراتيجية بترايوس الحربية بثمارها. وكان سلاحه الرئيسي هو تقرير وزارة الدفاع. ففي يناير (كانون الثاني) 2007، مع توجه فرق بلغ عددها 30 ألف فرقة صوب العراق، أعد غيتس تقريرا في سبتمبر (أيلول) لتقييم ما إذا كان قد تحقق أي تقدم ملموس بفضل الاستراتيجية الحربية الجديدة والاستعانة بالمزيد من القوات أم لا. واتبع الأسلوب نفسه بعد 3 سنوات في أفغانستان عندما أرسل الرئيس أوباما 33 ألف فرقة إلى أفغانستان.

وساعدت التقارير إدارتي بوش وأوباما في تحديد مدى التقدم الذي يحققه الجيش الأميركي، كما أسهمت في بث الطمأنينة في نفوس أعضاء الكونغرس. قال غيتس: «إنها تعطي الناس شعورا بأننا قد وضعنا أيدينا فعليا على عجلة القيادة ولا نقوم بالإبحار فحسب». كما كان للتقارير هدف آخر مهم، هو كبح جماح المنتقدين المنادين بالانسحاب الفوري للقوات العسكرية. باختصار، اشترت لقوات غيتس قسطا من الوقت الثمين. قال غيتس: «استخدمت التقارير بشكل مقصود لهذا الغرض».

* الدرس الثاني: دعهم يروك تبكي

* اكتسب غيتس شهرة بالصرامة؛ إذ قام بإقالة أو استبدال 7، على الأقل، من كبار المسؤولين أثناء فترة تقلده منصبه. لكنه لم يخش أيضا من إظهار سلوك أكثر رقة.

وفي خضم التوسع الأكثر دموية للقوات الأميركية في العراق، ألقى غيتس كلمة أمام اتحاد سلاح البحرية الأميركي. وفيها حكى غيتس قصة كابتن البحرية دوغلاس زامبيك، الذي قاد رجاله خلال قتال حامي الوطيس في معركة عام 2004 في الفلوجة. وبعد انتهائها، عاد زامبيك ليشغل منصبا في البنتاغون، لكنه لم يكن راضيا عنه. وتطوع للعودة مجددا إلى العراق في بداية عام 2007.

وفي السنوات التالية، كانت مشاعره الحماسية مدعومة بأفعال ملموسة؛ حيث أسرع بتوجيه سيارات جديدة مضادة للألغام إلى ساحة القتال، وأضاف طائرات هليكوبتر وتسهيلات طبية لضمان وصول الفرق المصابة في المناطق النائية من أفغانستان إلى مستشفى ميداني في غضون أقل من ساعة من وقوع الإصابة. وقد أنقذت خطواته الملموسة، التي يصفها غيتس باعتبارها أكثر إرث يفتخر به، حياة آلاف الأميركيين.

لقد وجدت القوات التي كانت تخاطر بحياتها في أفغانستان والعراق، في الوقت نفسه، عزاءها في إظهار غيتس مشاعره العميقة تجاهها. يتحدث جيم توماس، مسؤول بالبنتاغون تحت إدارة جورج دبليو بوش ومدير الدراسات بمركز التقييمات الاستراتيجية وتقييمات الميزانية في واشنطن: «لقد أسر قلوب الكثيرين من الجنود من المستوى المتوسط. إنه شخص وثقوا فيه وآمنوا به».

* الدرس الثالث: احتفظ ببعض الأفكار لنفسك

* عندما تم سؤاله أثناء جلسة استماع في 2006 عما إذا كانت الولايات المتحدة تحقق انتصارا في العراق، أجاب بكلمتين: «لا يا سيدي».

وقد أدت إجابته البسيطة المباشرة إلى تمتعه بسمعة بوصفه مباشرا في حديثه.

وتحدث غيتس بفصاحة عن حدود القوة الأميركية التي تكفل لها إعادة تشكيل العالم من جديد والضغط الذي كانت تفرضه الحروب على الجيش الأميركي «المنهك».

غير أن غيتس اعتقد أيضا أن الأساليب التي اعتمدت على استخدام قوات ضخمة في العراق قد ساعدت في تحويل تلك الحرب عن وجهتها، ورأى أن خسارة الحرب في أفغانستان ستكون «كارثية».

في نهاية الأمر، قرر الرئيس أوباما إرسال 33 ألف جندي إلى أفغانستان وإعادتها مجددا إلى الوطن في يوليو (تموز) 2011. وعرفت هذه التسوية باسم «خيار غيتس». وفي الأسبوع الماضي، مع استعداد غيتس لترك البنتاغون، وعد أوباما بأن آخر تلك القوات ستعود إلى الوطن في سبتمبر 2012.

* الدرس الرابع: تقبل حدود قوتك

* في أول خطاباته البارزة إلى الجيش، تحدث غيتس باستفاضة عن أهمية تدريب القوات الأجنبية في دول مثل أفغانستان.

ودائما ما كان يتعامل الجيش، الذي يفضل التركيز على القتال، مع المهمة الاستشارية بوصفها لا تتحرك أي خطوة للأمام، وخشي غيتس من أن يتم تجاهل تلك المهمة بمجرد انتهاء الحروب الجارية.

«تظل الطريقة التي يجب أن ينظم بها الجيش ويعد لهذا الدور الاستشاري موضع تساؤل مثار وستتطلب تفكيرا إبداعيا تقدميا».. هكذا تحدث غيتس.

وبعد مرور 4 سنوات، أثار غيتس التساؤل نفسه على وجه التحديد في كلمة ألقاها بالأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت.

لقد كان بوسع غيتس أن يأمر الجيش بحل المشكلة عن طريق تشكيل مجال مهني استشاري خاص مثلما نصحه بعض محللي سياسة الدفاع. إلا أنه قرر أن أي حل سيفرضه على الجيش لن يستمر العمل به بعد انتهاء فترة توليه منصبه.

واستمر غيتس في طرح هذا التساؤل في خطابات كثيرة ألقاها. وشكل الجيش فرق استشارة ودعم للعمل مع القوات العسكرية العراقية والأفغانية. لكن غيتس أشار إلى أن القوات المسلحة ما زالت بحاجة إلى القيام بالمزيد من العمل لضمان أن تجربة التعاون مع الجيش العراقي والأفغاني لن يتم إغفالها.

* الدرس الخامس: لا تنس الخريجين الجدد

* قبل أن يرأس وزارة الدفاع الأميركية، كان غيتس مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ورئيسا لجامعة تكساس (إيه أند إم). وقال في مقابلة أجريت معه مؤخرا: «أحد العوامل المشتركة بين (سي آي إيه) وتكساس (إيه أند أم) ووزارة الدفاع هو الخريجين الجدد. وجميعهم يشعرون بأن لهم حق الإدلاء بآرائهم بشأن الطريقة التي يجب أن تسير بها الأمور».

وفي مايو (أيار)، ساور غيتس القلق من أن الجيش لا يفكر بالقدر الكافي بشأن التهديد الذي تمثله الصين، التي كانت تقوم بجهود مكثفة من أجل ابتكار صواريخ يمكنها أن تغرق حاملات الطائرات.

وعلى الرغم من أنه قد ناقش هذا الأمر مع كبار الأميرالات بالبحرية الأميركية، فإن المناقشات لم تكن كافية لتوليد أفكار جديدة مثمرة. من ثم، أثار غيتس الموضوع في كلمة حماسية أمام رابطة البحرية الأميركية، إحدى مجموعات التأييد التي يديرها أميرالات متقاعدون.

«هل نحن بحاجة بالفعل إلى 11 مجموعة حاملة طائرات هجومية لمدة 30 عاما أخرى في الوقت الذي لا تمتلك فيه أي دولة أخرى أكثر من مجموعة واحدة؟».. هكذا تساءل. وكان يطلق النيران بالفعل على سفينة تابعة للبحرية أمام مجموعة من الخريجين الجدد المتحمسين.

وبعد أيام قليلة من خطابه، خلص غيتس إلى أنه لا يعبأ بتقليل أسطول حاملات الطائرات الخاص بالبحرية. «لست مجنونا».. هكذا تحدث إلى المراسلين. وكان الهدف هو إشعال جذوة النقاش حول المستقبل، على حد قوله.

خلال أيامه الأخيرة في البنتاغون، كان غيتس قد حذر من أن أزمة الميزانية التي تلوح في الأفق ستؤدي بالجيش الأميركي إلى سحب قواته من بقية أجزاء العالم. وتساءل: «ما تبعات الانسحاب الأميركي؟ ماذا يعني هذا بالنسبة لمصالحنا القومية؟ أرى أن الناس لم يناقشوا هذا الأمر».

ومع توقع انخفاض ميزانية البنتاغون بنحو 400 مليار دولار خلال الـ12 عاما المقبلة، ستترك الكثير من أصعب القرارات المتعلقة بمستقبل الجيش إلى ليون بانيتا، خليفة غيتس.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»