عودة ظاهرة الاحتجاج بالجوع في الهند

طريقة غاندي ضد الاستعمار باتت تشكل تحديا للحكومات المتعاقبة

صورة أرشيفية للناشطة تشانو شارميلا، خلال نقلها إلى محكمة في نيودلهي وهي مضربة عن الطعام (أ.ف.ب)
TT

بات الاحتجاج عبر الإضراب عن الطعام، وهو الأسلوب الذي استخدمه أبو الأمة الهندية المهاتما غاندي ضد البريطانيين من أجل نيل الحرية، بارزا بشكل واضح في الهند. ففي الوقت الحالي، يضرب كثير من الهنود عن الطعام بمختلف أنحاء البلاد احتجاجا على كل أنواع الظلم، بدءا بتعسف السلطات العسكرية وانتهاء بوضع خطط لبناء مواسير مياه.

وظهرت في الآونة الأخيرة شخصيتان هنديتان، تجسدان غضب الناس من الفساد. أحدهما هو مدرب اليوغا الشهير بابا رامديف، والثاني هو آنا هازار، وكلاهما اختار الإضراب عن الطعام كوسيلة للتعبير عن احتجاجه. وفي أبريل (نيسان)، أطلق الناشط المحنك آنا هازار (73 عاما) أحد أشد المعجبين بشخصية غاندي، حملة إضراب عن الطعام حتى الموت للمطالبة بمزيد من المشاركة المدنية في صياغة تشريع مناهض للفساد. وبعد ثلاثة أيام من انضمام الملايين بمختلف أنحاء الهند إلى احتجاجات الإضراب عن الطعام، وافقت الحكومة على مناقشة وضع تشريع لمكافحة الفساد وأوقف هازار إضرابه عن الطعام بعد 98 ساعة. ويأتي مصدر الدعم الأساسي لهازار من الطبقة الوسطى المدنية، التي يستفزها الفساد ويؤيد جميع أفرادها اتخاذ إجراءات تهدف لمكافحته.

وقد صرح هازار بأنه سيعاود الإضراب عن الطعام من جديد بدءا من 16 أغسطس (آب)، ولن يكون أمرا قابلا للتفاوض هذه المرة. وقال: «الصراع الثاني من أجل نيل الحرية يوشك على البدء». ويأتي التهديد في أعقاب عدم التزام الحكومة بصياغة تشريع فعلي مناهض للفساد.

من ثم، ففي بداية شهر يونيو (حزيران) الماضي، بدأ أحد أشهر مدربي اليوغا في الهند، بابا رامديف، إضرابا مماثلا عن الطعام لتسليط الضوء على قضية أموال أودعها سياسيون ورجال صناعة ومسؤولون حكوميون هنود آخرون في بنوك أجنبية بشكل غير مشروع. وفي هذه المرة، اتخذت الحكومة موقفا أكثر صرامة، حيث قمعت الاحتجاجات من قبل رامديف وأنصاره بالاستعانة برجال الشرطة في منتصف الليل، الأمر الذي أثار انتقادات شعبية واسعة.

وتزامنا مع هذا، توفي ناشط اجتماعي آخر، هو سوامي نيغاماناندا، في مدينة دهرادون شمال الهند بعد إضراب عن الطعام لمدة أربعة أشهر متواصلة احتجاجا على الفساد وارتفاع معدل التلوث في نهر غانغيز. وعلى الرغم من أن شعوبا بمختلف أنحاء العالم بدأت احتجاجات مماثلة في الإضراب عن الطعام للتعبير عن عدم رضاهم عن الأنظمة السياسية القائمة، فإن أصل هذا النوع من الاحتجاجات يكمن في احتجاجات مماثلة وقعت في الهند وأيرلندا في بداية القرن العشرين. وتشير أدلة تاريخية، إلى جانب نصوص أسطورية إلى استخدام الإضراب عن الطعام كوسيلة للاحتجاج في الهند وفي أيرلندا قديما ما قبل المسيحية. ولذلك، فإن بعضا من أطول احتجاجات الإضراب عن الطعام وأبرزها تأثيرا من الناحية السياسية تمت من قبل أفراد من البلدين المذكورين. وقام بأول هذه الاحتجاجات تيرينس جوزيف ماك سويني، الكاتب المسرحي الأيرلندي والمؤلف والسياسي الذي ألقت السلطات البريطانية القبض عليه بتهم التحريض على الشغب. واحتجاجا على اعتقاله ومحاكمته أمام محكمة عسكرية، بدأ إضرابا عن الطعام استمر لمدة 74 يوما وأودى بحياته. وامتدحه المهاتما غاندي بوصفه واحدا ممن تأثروا به ولم يستخدم هذه الوسيلة ضد البريطانيين فحسب، وإنما أيضا ضد الهنود أثناء الاحتجاجات الشعبية. وفي الهند المستقلة، أصبح إضراب بوتي سريرامولو الذي استمر لمدة 82 يوما بمثابة وسيلة فعالة في إعادة تنظيم الدول.

وعلى الرغم من ذلك، فإن أبرز المشاركات في احتجاجات الإضراب عن الطعام في الهند في العصر الحديث هي امرأة واحدة على وجه التحديد، هي تشانو شارميلا (39 عاما)، التي لم تتناول الطعام منذ عام 2000 احتجاجا على السلطات العسكرية في مدينة مانيبور، مسقط رأسها، شمال شرقي الهند. وقد عرفت شارميلا بأنها الفتاة التي أضربت عن الطعام لأطول مدة في العالم والتي ظلت على قيد الحياة من خلال الأنابيب، التي قامت السلطات بتركيبها رغما عنها في أنفها لتمدها بالغلوكوز والماء.

وفي التاريخ الهندي الحديث، كانت هناك حالة إضراب أخرى عن الطعام والتي كانت لها تبعات سياسية واسعة المدى، وهي إضراب أحد السياسيين من جنوب الهند. ويتعلق الأمر بشاندراسيخار راو الذي استمر في الإضراب عن الطعام لمدة 11 يوما في عام 2009 وأنهى الإضراب بعد أن أذعنت الحكومة لطلبه بفصل ولاية تيلانغانا، وهي الولاية التاسعة والعشرون أحدث الولايات في الهند، عن ولاية أندرا براديش. وفي الوقت الذي يعتبر فيه أسلوب الإضراب عن الطعام، سواء تقربا إلى الله أو احتجاجا على أوضاع سيئة، قديم الأزل في الهند، جذبت إضرابات المهاتما غاندي المعروفة - التي قام بها نحو 30 مرة في حياته، بما فيها ثلاث مرات تعهد فيها بالاستمرار في الإضراب حتى الموت - انتباه العالم بأسره.

وأدى هذا إلى التأثير الهائل لغاندي على الجماهير، إلى حد أن مجلة «تايم» أشارت في سنة 1939 إلى أن «ألم الجوع الذي تحمله غاندي أعظم بكثير من السيف. إن الجنود البريطانيين لم يحصلوا ولو على جزء من الامتيازات من بريطانيا مثلما حصل غاندي منها نتيجة استمراره في الإضراب عن الطعام». وقد أبقى أسلوب الإضراب عن الطعام الذي انتهجه غاندي، البريطانيين في حالة من القلق الدائم. ففي إحدى المرات، قيل إن مجلس الوزراء البريطاني عقد اجتماعا طارئا في 10 داوننغ ستريت في منتصف الليل لبحث إمكانية استرضاء غاندي! ومنذ ذلك الحين، احتلت صورة الناسك المتواضع الذي يتحدى السلطة بإنكار نفسه مكانة خاصة في المشهد السياسي الهندي. وفي 1918، بدأ المهاتما غاندي إضرابا عن الطعام تضامنا مع عمال المصانع المحتجين، وصدر بيان توضيحي جاء فيه: «إذا أصبحت هذه ممارسة شائعة للحصول على الحقوق، فسيصبح من المستحيل إدارة أي مجتمع».

وهدأت الهند الحديثة من مظاهر الاهتياج السياسي الملموسة حتى 1989، عندما أوصت إحدى اللجان الحكومية بتخصيص أماكن في مجال التعليم والوظائف للمتقدمين لشغلها من المنتمين لطبقات دنيا. ونتيجة لغضب أفراد من الطبقات العليا في المجتمع الهندي مما نظروا إليه باعتباره تحيزا ضدهم، بدأوا احتجاجات من خلال طريقة غريبة للتعبير عن عدم رضاهم ممثلة في إشعال النار في أجسادهم. إلا أن منتقدي من يتبعون أسلوب الإضراب عن الطعام في العصر الحديث يرون أن كثيرا من أفراد الجيل الجديد قد ابتعدوا عن أفكار غاندي المثالية السلمية التي تنبذ العنف، إلى حد أن احتجاجاتهم تبدو عنيفة إلى أقصى حد ويحاولون ابتزاز الحكومات.

ومدفوعا بعدم تأثره بأحدث صور للاحتجاجات الممثلة في الإضراب عن الطعام، ذكر توشار غاندي، الحفيد الأكبر للمهاتما غاندي، إن هازار ورامديف تعوزهما القدرة على محاكاة غاندي بشكل بارع. وقال: «إنها ليست إضرابات عن الطعام قائمة على منهجية غاندي، وإنما ممارسات هدفها إلقاء الاتهامات واللوم على آخرين. إن مجموعات المحتجين الحالية لا تعتمد على معايير المهاتما غاندي. فلا يمكن أن يطلق أي من متبعي منهجية غاندي على معارضيه خونة وكاذبين».