كليبرن.. العازف الذي أذاب الجليد بين الروس والأميركيين

موسيقي من تكساس كرمه خروشوف قبل نصف قرن.. ولا يزال موضع ترحيب حار في موسكو

فان كليبرن
TT

وقعت جلبة في ميدان ماياكوفسكي عندما تجمع حشد من الروس حول رجل أشيب قادم من تكساس، وانسابت مشاعر الحب الفياضة المميزة للروس التي تدفعهم لإلقاء الورود والزهور على من يعشقون. كانت تلك تحديدا هي مشاعر الروس تجاه فان كليبرن، عازف البيانو الأميركي الذي فاز عام 1958، في خضم الحرب الباردة، في أرفع مسابقة موسيقية داخل الاتحاد السوفياتي. وبعد 53 عاما، لا تزال لهذا الحدث أصداء قوية هنا لدرجة أنه عندما تطأ قدما كليبرن أرض قاعة موسيقية، يبدو كما لو أن الحياة دبت فيها وبدأت في التحرك خلفه كما لو كانت كائنا حيا.

والملاحظ أن «مسابقة تشايكوفسكي الدولية» لا تزال تثير مشاعر كبيرة لدى الروس حتى يومنا هذا. ومع متابعتهم حفل توزيع الجوائز مساء الخميس، تهامس بعض الحضور، حول انسحاب قائد الفرقة الموسيقية (الروسي) في خزي بعدما وصف عازف الفيولونسيل (أرميني) بأنه متحجر الرأي. واحتشدت مجموعة من السيدات في السبعينات من العمر في الردهة يتحدثن بغضب شديد حول سقوط عازف بيانو مفضل لديهن خلال الجولة الثانية، وأخيرا وقع اختيارهن على إحداهن كي تتحدث إلى أحد أعضاء هيئة التحكيم كان في طريقه نحو المطعم.

لكن يبقى الأسطورة كليبرن - الذي عاد في الـ76 من عمره ليعمل كعضو شرفي في هيئة التحكيم - محتفظا بثقل ومكانة كبيرة. وبينما تناقش أصدقاؤها، حول ما إذا كان من الملائم تقديم كميات ضخمة من الورود لكليبرن، استجمعت ناتاليا سبوتينا شجاعتها واقتربت منه، وما كان من كليبرن إلا أن احتضنها لتجهش حينها بالبكاء. وصرخت إحدى صديقاتها: «ناتاليا.. حاولي السيطرة على نفسك!».

وظل جسد ناتاليا يرتجف بعد انتهاء الموقف لبضع لحظات بينما كانت تتحرك بعيدا عن الحشد. وعلقت على الموقف بقولها: «إنه يعشق العالم بأسره. إن بداخله حبا يكفي العالم بأسره. إنه يملك قلبا رائعا».

ويحمل هذا الموقف أصداء للحظة تاريخية مضت. ففي عام 1958، كان خروشوف يدرس فكرة «التعايش السلمي» مع الولايات المتحدة. ودخل عليه كليبرن وكان في الـ23 من عمره قادما من كيلغور في تكساس، وتميز بأصابع شبيهة بأطراف العنكبوت وكانت تبلغ درجة من الالتهاب والتورم تجبره على لفها بشاش ومراهم.

كان هارفي لافان كليبرن نجل مسؤول تنفيذي بصناعة النفط، وقد تلقى التدريب على يد والدته بمدرسة جوليارد. وكان عاشقا لروسيا، واعتاد الاستجابة للثناء والإشادة بتواضع ساخر.

وقد أذاع الراديو السوفياتي فقراته، وانتشرت أنباؤه كالنار في الهشيم. وفي الجولة الأخيرة، قدم مقطوعة لسيرغي رخمانينوف، مما أثار إعجابا بالغا. ورغم وجود قواعد تحظر الانحناء مرتين أمام الجمهور، أمسك رئيس هيئة التحكيم وعازف البيانو إميل غيليلز بيد كليبرن وعاد به مجددا إلى خشبة المسرح ليحييه الجمهور مرة ثانية. ويقول الأسطورة إن قلقا بالغا تملك غيليلز لدرجة جعلته يتناول أمر المتسابق الأميركي مع خروشوف. ويقال إن خروشوف سأله: «هل هو الأفضل بين المتسابقين؟». وعندما اعترف غيليلز بأنه كذلك، أجابه خروشوف: «إذن.. امنحه الجائزة الأولى».

ثم أعقب ذلك طوفان من الإشادة الجماهيرية، ويتذكر كليبرن أن المواطنين السوفيات كانوا ينتظرون خارج فندقه حاملين جوارب صنعوها بأيديهم وآنية مملوءة بالمربى لتقديمها له. وكتب صحافيون آنذاك أن الروس من عشقهم لكليبرن يبدون ترحيبا بجميع من يحملون ملامح أميركية. وكان هذا مؤشرا على أن الجليد المسيطر على مشاعر السوفيات تجاه الأميركيين بدأ في الذوبان، ولم يتضح قط تماما أيهما جاء أولا؛ تدفق المشاعر العامة أم الموافقة الرسمية.

وقالت ريما ليبيديفا (70 عاما)، طبيبة قضت الجزء الأكبر من عطلة صيف ذلك العام في متابعة المسابقة: «آنذاك، لم نكن ننعم بالحرية. كان كل شيء بداخلنا مخنوقا. وقد سمح أداؤه لهذه المشاعر بالانطلاق. منذ تلك اللحظة، بدأت هذه المشاعر في التطور».

واجتاح جنون «فانيا» أو «فانوشكا»، حسب ما أطلق عليه الروس، مختلف شرائح المجتمع السوفياتي. ولا يزال عازف الكمان آرثر شتيلمان يذكر الكلمات المضطربة التي قالها بواب استمع لأداء كليبرن، حيث ذكر أنه شعر وكأن شللا من نوع خاص أصابه. وأضاف: «هذا الشاب الصغير عندما شرع في العزف وجدت نفسي أجلس وأنخرط في البكاء. ولا أدري ما الذي دهاني، ذلك أنني لم أسمع في حياتي موسيقى كتلك من قبل».

وعاد كليبرن إلى نيويورك ليحظى باستقبال الأبطال، لكن الشهرة الهائلة التي نالها أداؤه في الاتحاد السوفياتي اتضح بمرور الوقت أن من المستحيل الحفاظ عليها. وظل يعزف مقطوعات رخمانينوف وتشايكوفسكي على امتداد مشواره الفني البالغ 20 عاما وظهر تقريبا في جميع الاجتماعات رفيعة المستوى التي جرت بين الجانبين السوفياتي والأميركي.

وفي النهاية، تخلى النقاد عن نبرتهم المفعمة بالإشادة والثناء وبدأوا استخدام اسمه كمصطلح يشير إلى موهبة ذبلت مبكرا. فعلى سبيل المثال، كتبت ناقدة فنية في «سياتل تايمز» مقالا حول حفلة له عام 2003 وصفت أداءه خلالها بأنه كان «غريبا ومخيبا للآمال بشدة». وقالت: «كانت هناك ومضات من حين لآخر من كليبرن القديم، لكنها لم تكن كثيرة».

إلا أن أيا من ذلك لم يكن له أدنى أهمية في موسكو الأسبوع الماضي. فعلى الرغم من أن كليبرن لم يكن ينوي العزف على البيانو خلال زيارته، سافرت يفغينيا زاليشينا مسافة 120 ميلا للانضمام إلى مجموعة من النساء اللاتي سبق وأن التقينه عام 1958 أثناء اصطفافهن لشراء تذاكر لحضور حفلة له.

وقالت ليودميلا أدفوشينا (73 عاما): «يجب أن تدرك أن الناس كانوا يتحدثون عنه في الحافلات وفي المترو. ولم يبد بالنسبة لنا أجنبيا قط، وإنما شعرنا بأنها وحد منا».

على مدار عقود، عندما كان كليبرن يسافر إلى موسكو، كان معجبوه يلجأون إلى التخفي للتعرف على تحركاته. وقال أحدهم وهو يغمز بعينيه ضاحكا: «كانت لدي قنوات خاصة بي. كنت أعرف صحافيين». وذكر زميل أميركي كيف أنه فوجئ ذات يوم أثناء حضوره بروفة مع كليبرن في صباح أحد الأيام المطيرة عام 1989 بقرابة 100 من المعجبين يقفون حول المسرح وتمنعهم الشرطة بالكاد. إلا أن أعداد المعجبين تراجعت الآن وزادت سهولة الوصول لكليبرن.

والأسبوع الماضي، تلألأ وجهه كطفل صغير عندما رأى معجبين مألوفين له بين الحشود، وقضى وقتا طويلا للغاية في تحية الجمهور فردا فردا. واحتشد حوله الجمهور وقدم له صورا لوضع توقيعه عليها، وللحظة بدا أن فان كليبرن عاد إلى المكان الذي يناسبه تماما. وخلال مقابلة أجريت معه، قال: «ما نراه من معظم الناس هو القشرة الخارجية فقط، لكن عليك النظر إلى قلب الإنسان الروسي».

* خدمة «نيويورك تايمز»