الفقيه الدستوري إبراهيم درويش لـ«الشرق الأوسط»: مصر مرت برحلة من الخطايا الدستورية بعد ثورة «25 يناير»

قال إن نظام مبارك لا يزال يحكم.. وفساد أحزاب المعارضة أضل سبيلا

الفقيه الدستوري إبراهيم درويش («الشرق الأوسط»)
TT

وصف الفقيه الدستوري الدكتور إبراهيم درويش، الإجراءات الدستورية التي تمت منذ الإطاحة بنظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك، بـ«رحلة الخطايا الدستورية»، قائلا في حوار مع «الشرق الأوسط» إنه لا بد من وضع دستور البلاد قبل الذهاب للانتخابات البرلمانية المقرر لها شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.

وفي مكتبه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وضع إبراهيم درويش، الذي شارك في مؤتمر تأسيسي لصياغة الدستور التركي في مايو (أيار) الماضي والمناقشات التي دارت حوله، اللبنات الأولى لملامح الدستور المصري المنتظر، والذي يأمل أن يكون قصيرا ولا يتخطى العشرين مادة، ويعطي حريات بلا قيود، مقترحا أن يعطى حق الترشح بداية من سن الخامسة والعشرين، تماشيا مع روح الشباب الذين ألهموا الثورة.

وأعرب درويش عن عدم تفاؤله بالمستقبل، قائلا «ضاعت الثورة ولم تحقق أهدافها»، متهما قوى سياسية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين بما سماه بـ«القفز على منجزات الثورة». ويرى درويش أن الدور الذي تلعبه جماعة الإخوان الآن هو الدور نفسه الذي لعبه الحزب الوطني (الحاكم سابقا)، معربا عن رفضه لأي قانون يمنع أعضاء الحزب الوطني الذي صدر حكم بحله من ممارسة العمل السياسي. وقال إن «الأحزاب السياسية الموجودة حاليا مليئة أصلا بمصائب وفساد أفدح وأضل سبيلا».

وانتقد درويش أداء السلطات المصرية التي تولت إدارة شؤون البلاد عقب تخلي مبارك عن السلطة في 11 فبراير (شباط) الماضي، مشيرا إلى وجود تخبط في قرارات المجلس العسكري الذي تولى إدارة البلاد، واصفا حكومة الدكتور عصام شرف بـ«الضعيفة»، قائلا إن «99 في المائة من وزراء حكومة شرف لا يصلحون أصلا لهذه المهمة، وإن 80 في المائة منهم من الحزب الوطني المنحل.. وهذه وزارة لا تصلح إلا في عهد مبارك».. وإلى نص الحوار..

* اختصر عدد من شباب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) رؤيتهم لما آلت إليه الأحداث في مصر بعبارة «انتبه.. الثورة ترجع إلى الخلف».. هل ترى أن الثورة ترجع للخلف؟

- ثورة 25 يناير ثورة فريدة لا مثيل لها في التاريخ، لكنها ثورة رومانسية خرجت من رحم إحباط الشباب، ولم يوجهها أحد على الإطلاق، ثم جاءت كل القوى السياسية باختلاف توجهاتها وعلى رأسها «الإخوان»، وقفزت على منجزات الثورة، وخلقت لها أسبابا وتوجهات، وصنعت لها كيانات تتحدث باسمها، فضاعت الثورة ولم تحقق أهدافها حتى الآن. هذا اللغط والانحراف في التفكير والعبث بمقدرات الأمة جر على مصر مشكلات كبيرة جدا، وأفقد الثورة أهدافها بشكل كبير، ويمكن تلخيص المشهد السياسي الآن في عبارة واحدة: نعيش اليوم استمرار حكم مبارك في غياب مبارك.

* ماذا تقصد باستمرار حكم مبارك؟

- يفترض أن الثورة تسقط الدستور، لأن الدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي، وعندما يسقط النظام السياسي يسقط الدستور في الحال، والدستور هو الذي يخلق المؤسسات السياسية والتنفيذية والتشريعية وليس العكس كما يحاول البعض أن يروج الآن، ولا يمكن إطلاقا لمؤسسة تشريعية أن تصنع أو تخلق الدستور، وثورة 25 يناير أسقطت الدستور وهو أمر لا جدال فيه، لكن البلاد تمر برحلة خطايا دستورية وقانونية فجة بسبب تخبط قرارات المجلس العسكري (الذي تولى السلطة في البلاد عقب الإطاحة بنظام الرئيس المصري السابق).

* ما هي أمارات هذا التخبط؟

- في 13 فبراير أصدر المجلس العسكري إعلانا دستوريا تضمن 13 بندا لا علاقة لها بالثورة، لأنه في الإعلان عطل الدستور، وهو في تقديري لا يملك هذا الحق، لأن الدستور سقط بنجاح الثورة يوم الحادي عشر من فبراير، وقبلها حدثت مغالطات جمة وفجة بداية من تنحي مبارك، فهذا التنحي خطأ دستوري جسيم، فلا يوجد في الدستور الساقط الذي يحكم واقعة خلع الرئيس السابق ما يسمى بالتنحي أو نقل السلطات، وهي خطيئة دستورية كبيرة. هذا أولا.. ثانيا؛ أقدم المجلس على خطأ دستوري آخر عندما شكل لجنة لتعديل ثماني مواد من دستور ساقط، وهي لجنة في تقديري غير حيادية، لتتبعها سقطة جديدة وهي إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية من دون حاجة لهذا الإجراء، وتحت ضغوط رهيبة من الإخوان المسلمين، ثم الخطيئة الرابعة في 30 مارس (آذار) بإصدار المجلس العسكري الإعلان الدستوري الذي تضمن 62 مادة، الغريب أن 49 مادة منها كانت منسوخة من الدستور السابق الساقط، وبأخطائها الإملائية، وتم تضمين الإعلان الدستوري 9 مواد من المواد المعدلة التي أعدتها اللجنة، دون المادة العاشرة المستفتى عليها وهي المادة 189 مكرر التي تقضي بوضع الدستور في وجود رئيس جمهورية منتخب.

* هناك انتقادات وجهت لأداء المجلس العسكري، والبعض حمله مسؤولية التباطؤ في اتخاذ بعض الإجراءات، ما هو تقييمك لأداء المجلس؟

- كما يتبدى لي لا يملك المجلس العسكري مستشارين مهرة، وبالعودة للتاريخ نكتشف أن من أفسد ثورة 1952، وأفسد العلاقة بين مجلس قيادة الثورة ومحمد نجيب، وبين عبد الناصر والقضاة ومجلس الدولة، كان شخصا يدعى سليمان باشا حافظ، وهو من مستشاري مجلس قيادة الثورة. على الجميع البحث عن سليمان حافظ هذه الثورة، وأن يحذروه.

* هناك جدل كبير حول خارطة طريق لعبور المرحلة الانتقالية، خاصة حول من يرغبون في وضع الدستور قبل الذهاب للانتخابات البرلمانية.. ما تعليقك على هذا الجدل؟

- الطبيعي أن يأتي الدستور أولا، لأنه الذي يصنع المؤسسات كما أسلفت الذكر، وهو شيء بديهي، وواضح، والذين يقولون الآن إن وضع الدستور أولا التفاف على نتائج الاستفتاء مخطئون، لأن أول من التف على الاستفتاء هو المجلس العسكري نفسه الذي لم يضمن الإعلان الدستوري المادة 189 مكرر من المواد التي تم الاستفتاء عليها.

* تمثل معركة الدستور الجديد للبلاد جوهر الأزمة الآن، بوصفك أسهمت في المناقشات حول صياغة الدستور التركي، كيف ترسم دستور مصر القادم؟

- هناك توجهات حديثة في صياغة الدساتير، والمهم أن يكون دستورا قصيرا جدا، لا يزيد على عشرين مادة فقط، مادة عن الحقوق والحريات بلا قيود حتى لا يتم تقييدها في قوانين لاحقة، ثم ثلاث مواد عن السلطة التشريعية من مجلس نيابي واحد يتم انتخابه بالقوائم النسبية البسيطة، ولا يجوز حله مطلقا، وله وحده الحق في التشريع، ثم ثلاث مواد عن السلطة التنفيذية، ثم تأتي معايير اختيار كل ذلك عبر القوانين المنظمة وليس في متن الدستور نفسه.

* من له حق وضع الدستور في رأيك؟

- الطريقة المثالية في تقديري أن يتم اختيار لجنة لا يزيد عدد أعضائها على خمسة عشر فردا غالبيتهم من المفكرين والشعراء والأدباء، ويتم تجنيب أساتذة القانون.. ويجتمع هؤلاء لوضع تصور لمشروع الدستور، ثم يتم استدعاء أساتذة قانون لصياغة مواده، ثم يطرح على القوى السياسية لإبداء رأيها، ثم يعاد ضبطه ليطرح في استفتاء شعبي.

* هل تساورك مخاوف من قدرة من يسميهم البعض الآن بـ«فلول النظام القديم» على إعادة إنتاج أنفسهم مرة أخرى للوصول إلى السلطة؟

- فلول الحزب الوطني ليسوا فقط العنصر الفاسد في مصر، لكن يوجد من هم أكثر فسادا منهم، ويحملون أسماء شرعية، لها مؤسسات حزبية. كانت هناك تحالفات في الأعوام الثلاثين الماضية بين الحزب الوطني و«الإخوان» على سبيل المثال، والدور الذي يلعبه «الإخوان» الآن هو نفس الدور الذي لعبه الحزب الوطني من قبل، بقصد واحد وهو تقسيم كعكة مجلس الشعب.. ما كان يمارسه الحزب الوطني المنحل في الماضي، تمارسه جماعة الإخوان المسلمين الآن، وبغباء سياسي منقطع النظير، والتاريخ يخبرنا أن الجماعة نشأت أساسا على التحالفات السرية، وهم يؤيدون الانتخابات أولا، لأن ذلك سيساعدهم في السيطرة على أكبر نسبة من مقاعد مجلس الشعب، وإذا تمت أي انتخابات نزيهة فإنهم لن يحصلوا على أكثر من 20 في المائة من المقاعد. والجماعة التي قامت منذ نيف وثمانين سنة لم توفق أوضاعها ووجودها غير شرعي حتى الآن، لأنها لا تملك ترخيصا رسميا بالدعوة، حيث تم إلغاء ترخصيها أكثر من مرة.

* هناك من يطالب اليوم بمنع أعضاء الحزب الوطني المنحل من العمل السياسي لمدة خمس سنوات.. هل تؤيد هذا التوجه؟

- أنا ضد قرار المنع تماما، لأن من ارتكب جرما يقدم للمحاكمة، فإذا ثبت أنه ارتكب خطأ أو جريمة تفرض عليه عقوبة من القضاء، ويحرم تلقائيا من العمل السياسي، وبذلك تكون عقوبة المنع طبيعية وغير عدوانية، وذلك لتفادي الوقوع في أخطاء ثورة 1952 التي أصدرت قانون الغدر ومحاكمات الثورة. أهلا بهم في الحياة السياسية ما داموا لم يرتكبوا جرما، وبالمناسبة الأحزاب السياسية الموجودة حاليا مليئة أصلا بمصائب وفساد أفدح وأضل سبيلا.

* من وجهة نظرك، ما الذي دق المسمار الأخير في نعش حكم مبارك؟

- انعدام العدالة الاجتماعية وانعدام التكافل الاجتماعي، هما الضلعان اللذان هدما المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، ثم مسألة التوريث. لكن لو حللنا من قام بالثورة ستجد أن الأصل هو غياب العدالة والتكافل الاجتماعي، والنظام نفسه الذي بدأ يتمحور حول الفاسدين، وهو ما جعل مصر دولة غير مكتملة الأركان في الأساس.

* هناك قلق شعبي بشأن إجراءات محاكمة مبارك، حتى إن البعض يشكك في جديتها.. ما رأيك؟

- باختصار، إذا لم يحاكم مبارك في أسرع وقت ستندلع ثورة الغضب الثانية بحق.

* هناك مطالبات بمحاكمة مبارك بتهمة الخيانة العظمى، ما مدى قانونية هذا الإجراء؟

- أعتقد أن مبارك مسؤول عن قتل المتظاهرين إبان الثورة، وهي خيانة عظمى ويصح فيها إقامة دعوى قضائية عقوبتها الإعدام.

* التباطؤ في المحاكمات أدى في النهاية لاندلاع اشتباكات بين الثوار وعناصر الشرطة، والبعض ينادى الآن بتحويل كل القضايا المنظورة أمام القضاء العادي للقضاء العسكري لسرعة حسمها، ما الذي يعوق تنفيذ ذلك الآن برأيك؟

- هناك خطأ في سير إجراءات المحاكمات، والأفضل هو تخصيص دائرة تختص بنظر قضايا قتل المتظاهرين وتعمل عليها بسرعة ودقة، كما يجب استبعاد أي قاض تحوم حوله شبهات.. وأنا ضد فكرة المحاكمات العسكرية تماما.

* البعض يتهم حكومة الدكتور عصام شرف بالضعف، كيف تقيم أداء حكومة جاء رئيس مجلسها من ميدان التحرير؟

- تقديري أن 99 في المائة من وزراء حكومة شرف لا يصلحون أصلا لهذه المهمة، الضعف هنا معناه أنهم غير أكفاء، كما أن 80 في المائة منهم من الحزب الوطني المنحل، هذه وزارة لا تصلح إلا في عهد مبارك.

* إذن ما الحل في رأيك؟

- مصر تحتاج لوزارة إنقاذ، وفترة انتقالية لا تقل عن سنة يتم فيها توفير الأمن والطمأنينة ولقمة العيش، لكن الوقت يمر بسرعة الآن من دون إنجاز أي شيء.

* البعض ممن يعتزمون الترشح لانتخابات الرئاسة ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية، كيف تقيم هذا التوجه؟

- الشريعة الإسلامية فيها بعض القواعد المتفق عليها والتي يمكن الاستعانة بها في القوانين المدنية. أما الحديث عن الحكم الإسلامي والمرجعية الإسلامية فهذا كلام عبثي يلعب على مشاعر الناس فقط، ومنذ القرن السادس انتهى حكم رجال الدين في العالم كله وتحولنا للدولة القومية.

* هناك جدل أثير حول صلاحيات الرئيس في الدستور، والبعض يتخوف من إعادة إنتاج نظام ديكتاتوري آخر.. برأيك، أي النظامين أفضل لمستقبل البلاد، النظام الرئاسي أم البرلماني؟

- لا يمكن أن ننتقل من نموذج لنموذج آخر بشكل فوري وسريع، أنا مع بقاء النظام الرئاسي لكن مع وجود سلطة تشريعية قوية منتخبة انتخابا حرا، ورئيس جمهورية تُقلص سلطاته بشكل كبير، ويتم انتخابه ونائبه في بطاقة اقتراع واحدة.* هناك من يطالب بخفض سن الترشح في الانتخابات الرئاسية والتشريعية تماشيا مع روح الشباب، هل تؤيد هذا الطرح؟

- هناك قاعدة دستورية تقول من يملك حق الانتخاب يملك حق الترشح، فإذا كان المشرع يأتمن الناخب من سن الـ18 عاما، فلا بد أن يكون سن الترشح قريبا منه، ولا بد أن يكون سن الترشح سواء في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية هو 25 عاما، وهو سن اكتمال النضج والحيوية، وذلك هو المتبع في الخارج.

* كيف تنظر لمستقبل مصر، وهل أنت متفائل؟

- البلد ممزق ويكاد يشهر إفلاسه، والحالة جد خطرة، والأوضاع تسير من سيئ لأسوأ، ولا نعرف أين الحقيقة في كثير من الأمور، وأنا غير متفائل بالمرة.