طارق متري: موقف حكومة ميقاتي من قرار الاتهام ملتبس

وزير الإعلام اللبناني السابق في حوار مع «الشرق الأوسط»: هناك علاقة بين زمن الحكومة والزمن السوري

TT

قال طارق متري، وزير الإعلام اللبناني السابق، إن الحكومة اللبنانية الجديدة في بيانها الوزاري بخصوص القرار الاتهامي المتعلق باغتيال الرئيس رفيق الحريري صاغت موقفا بلغة على قدر كبير من الغموض، وهو ليس غموضا خلاقا على الإطلاق. وإنه في أحسن الأحوال يوحي بأن موقف الحكومة ملتبس.

وقال متري، في حوار مع «الشرق الأوسط» أجري معه خلال وجوده في مدينة أصيلة المغربية للمشاركة في منتداها الثقافي الثالث والثلاثين، إن حكومة نجيب ميقاتي لا تريد أن تظهر أمام اللبنانيين، ومن ثم أمام المجتمع الدولي، أنها رافضة للعملية القضائية المتعلقة بالمحكمة الخاصة لكنها في الوقت نفسه تراعي حزب الله، وهو طرف أشد تأثيرا في الحكومة أو الأكبر تأثيرا فيها، والذي يرفض المحكمة برمتها، ويقذفها بأبشع النعوت، ويحسبها مجرد أداة في مؤامرة كونية ضده.

وأوضح متري أن الالتباس هو محاولة للتوفيق بين موقفين متعارضين يصعب التوفيق بينهما. مشيرا إلى أنه مما زاد من صعوبة التوفيق، الموقف الذي أعلنه السيد حسن نصر الله منذ أيام، والذي كان جازما في أمر رفضه للتعاون مع المحكمة، بل أكثر من ذلك كان يتحدث وكأن القضية لا تعني الحكومة اللبنانية، لكنها في حقيقة الأمر تعنيها. وبالتالي فإن رئيس الحكومة مطالب باتخاذ موقف صريح للخروج من غموض النص والتباس الموقف.

وتحدث متري عن قضايا الساعة في لبنان وفي ما يلي نص الحوار.

* بعد صدور قرار الاتهام في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كيف تنظر إليه وكيف ينبغي التعامل معه؟

- لم يصدر بعد قرار الاتهام حتى نطلع عليه لكن صدرت بعض مذكرات التوقيف، وبات صدور القرار الاتهامي وشيكا خلال أقل من شهر. لقد عاش لبنان أكثر من عام في ظل تهديد من تأثيرات القرار الاتهامي على العلاقات بين اللبنانيين. كان بعضنا يستخدم مصطلح الفتنة، وكان البعض الآخر يقول إن الفتنة ليست قدرا محتوما ينزل علينا من فوق، الفتنة هي ما تصنعه أيادينا. فإذا كان هناك من يريد أن يحاذر الفتنة فهو قادر على ذلك، ونرجو ألا يتسبب القرار الاتهامي، الذي يشكل خطوة في عملية قضائية، في اضطرابات بين اللبنانيين ذات أسباب سياسية أو طائفية. الذي حصل الآن يثير أكثر من سؤال، فالحكومة اللبنانية في بيانها الوزاري صاغت موقفا بلغة على قدر كبير من الغموض، وهو ليس غموضا خلاقا على الإطلاق. غموض في أحسن الأحوال يوحي بأن موقف الحكومة ملتبس. فهي من جهة لا تريد أن تظهر أمام اللبنانيين، ومن ثم أمام المجتمع الدولي، أنها رافضة للعملية القضائية المتعلقة بالمحكمة الخاصة لكنها في الوقت نفسه تراعي حزب الله، وهو طرف أشد تأثيرا في الحكومة أو الأكبر تأثيرا فيها، والذي يرفض المحكمة برمتها، ويقذفها بأبشع النعوت، ويحسبها مجرد أداة في مؤامرة كونية ضده.

إذن، الالتباس هو محاولة للتوفيق بين موقفين متعارضين يصعب التوفيق بينهما. ومما زاد من صعوبة التوفيق الموقف الذي أعلنه السيد حسن نصر الله منذ أيام، والذي كان جازما في امر رفضه للتعاون مع المحكمة، بل أكثر من ذلك كان يتحدث وكأن القضية لا تعني الحكومة اللبنانية، لكنها في حقيقة الامر تعنيها. وبالتالي فإن رئيس الحكومة مطالب باتخاذ موقف صريح للخروج من غموض النص والتباس الموقف.

* ما هي توقعاتك بشأن الحكومة الجديدة، هل تتوقع لها عمرا طويلا، وهل تعتقد أنها صنيعة حزب الله وسوريا؟

- هي حكومة ستواجه معارضة قوية ظهرت ملامحها الطبع داخل المجلس النيابي لكنها أيضا إعلامية وربما شعبية. لكن مؤدى هذه المعارضة مرتبط بكيفية تعامل الحكومة نفسها. فالحكومات في بداية عهدها تكون مشغولة بصياغة برنامج لها، والحديث إلى اللبنانيين عما تتوخى إنجازه، لكن الحكومة الجديدة طبعا، لا أريد هنا التعميم. فهناك فرق بين وزير وآخر، كانت منذ اليوم الأول مشغولة بمعارضة المعارضة، واستهجان قيام المعارضة بدورها المعارض وهو أمر غريب بعض الشيء.

حكومة ميقاتي هي أولا حكومة متجانسة. وليس سرا أن حزب الله هو الطرف الأشد تأثيرا فيها، وليس سرا أن هناك علاقة بين تعثر الحكومة مرة، والاستعجال في تشكيلها مرة أخرى. هناك علاقة بين زمن الحكومة والزمن السوري. وهذا أمر لا أعتقد أنه يخفى على احد. لكن بسبب ذلك ونفوذ حزب الله فيها وبسبب علاقة زمن تأليفها بالزمن السوري، هذه حكومة فيها قدر من الانسجام ولو أن فيها بعض الوزراء لا أعرف نسبتهم بدقة، الذين يفترض أنهم سيتميزون عن سواهم. فالحكومة التي هي على درجة من الانسجام هي الأولى من نوعها منذ سنوات طويلة. ففي لبنان كانت هناك حكومات وحدة وطنية، ومن المستغرب، رغم أن اللبنانيين تعودوا على أن لا يستغربوا شيئا، أن الذين كانوا وراء قيام هذه الحكومات هم أنفسهم كانوا يقولون في السنوات التي خلت إن لبنان لا يحكم إلا بصيغة حكومة الوحدة الوطنية، وإن الديمقراطية التوافقية هي التي تنظم قواعد الحكم في لبنان، وأسهبوا في شرح، وهو ما لا أفهمه دائما ولا أوافق عليه، مميزات الديمقراطية التوافقية لكنهم حين استطاعوا تغيير الأكثرية، وبات ممكنا أن تكون لهم حكومة أكثرية تتيح لهم الإمساك بالسلطة انتهزوا هذه الفرصة، وضربوا صفحا عن كل ما قيل بشأن الديمقراطية والتوافقية، وصيغة حكومة الوحدة الوطنية كصيغة واقعية وحيدة لإدارة الحكم في لبنان.

* خصوم الحكومة يقولون إنها ستكون حكومة في مواجهة مع المجتمع الدولي، هل تشاطر هذا الرأي، ولماذا؟

- لا يخفى على أحد أن الكثير مما قيل في الأشهر الماضية كان يدور حول ضرورة أن يفي لبنان بتعهداته أمام المجتمع الدولي، والحديث عن التعهدات أمام المجتمع الدولي هو حديث عن قرارات مجلس الأمن بما فيها القرار المتعلق بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وكان رئيس الحكومة المكلف ومن ثم رئيس الحكومة يحاول أن يطمئن اللبنانيين أولا، وأشقاء لبنان العرب، والمجتمع الدولي، بأن تغير الحكومة في لبنان ليس بالضرورة تنصلا من التزاماته الدولية، ولا شكلا من أشكال المواجهة مع المجتمع الدولي. لكن إعلان النية هذا سوف يوضع على محك الأفعال، وأحسب أن مطالبة المعارضة أخيرا لرئيس الحكومة بأن يأخذ موقفا واضحا بشأن قرار 70 - 57 هو نوع من وضع النوايا التي جهر بها وحكومته على المحك.

* أنت خرجت للتو من الحكومة، وكانت الانتفاضة السورية قد بدأت. فكيف تعاملتم مع هذا الحدث كحكومة تصريف أعمال؟

- لبنان بلد تشده إلى سوريا علاقة وثيقة وتضرب عميقا في تاريخ بلدينا. والعلاقات هي مزدوجة من شعب إلى شعب. فالشعبان السوري واللبناني توجد بينهما علاقة تزاوج وقربى ومصالح مشتركة وتبادل. والدولتان أيضا بينهما اتفاقات.

إن الذي جرى في الأشهر الماضية، هو أن هناك بطبيعة الحال فئة من اللبنانيين، لأسباب تتعلق بفهمهم للممانعة وبقراءتهم وفهمهم للسياسة في بلدنا والعالم العربي والعالم، يفهمون الأمور بشكل ثنائي يرى كل مستويات الحياة السياسية من زاوية التعارض بين الممانعة، بما فيها المقاومة وما يسمى المشروع الأميركي، ويستخدمون عبارة الشرق الأوسط الجديد وغيرها، والتي لا تنم عن إدراك دقيق للسياسة الأميركية المتغيرة، ولا لغياب ما يسمى المشروع الأميركي للمنطقة لا سيما في زمن الربيع العربي. وإذا أمكن قول كلمة عن السياسة الأميركية فهي سياسة مترددة ومزدوجة وملتبسة ومتغيرة، ولا اعتقد أن أميركا حسمت أمرها بالنسبة للموقف من سوريا إنما العكس. ربما يبدو لنا أن واشنطن تفضل إعطاء الفرصة لنظام الرئيس الأسد عوض العمل على تغييره. لكن في لبنان هناك من يرى الواقع في سوريا وغير سوريا من منظار هذه الثنائية أي ممانعة في مواجهة المشروع الأميركي، وهو في هذه المواجهة يقف مع سوريا بقطع النظر عما يجري في داخلها من ممارسات السلطات. وبقطع النظر عن حجم التحركات الشعبية ومعناها، وبقطع النظر عن كل ذلك تقابلهم فئة اقرب من اللبنانيين يدركون أن هناك طوقا حول الديمقراطية والحرية في المجتمع السوري، وأن هذه التحركات الاحتجاجية القوية التي تقمع بالعنف هي تعبير عن هذا الطوق. لكن هناك اتفاق مضمر ومعلن بين اللبنانيين هو أن لبنان بلد لا يتدخل في الشؤون الداخلية السورية، فهو أول من يترتب عليه الإحجام عن التدخل في شؤون سواه، لأن لبنان عانى من تدخل الآخرين في شؤونه، كما أنه بلد صغير وليس مؤثرا إذا ما تدخل في كل الأحوال. لكن عدم التدخل في الشؤون السورية، وترك السوريين يقررون مصائرهم بأنفسهم لا يمنع عددا من اللبنانيين أن يعبروا عن تضامنهم الإنساني مع أشقائهم في سوريا.

والذي كان يثير الاستغراب أنه باسم عدم التدخل في الشؤون السورية وباسم احترام الاتفاقات بين الدولتين اللبنانية والسورية، وباسم التأكيد على أن أمن لبنان من أمن سوريا، وكل هذا صحيح، كان هناك جنوح عند البعض نحو منع كل أشكال التعبير عن التضامن الإنساني مع أشقائنا في سوريا. واعتقد أن هذا غير مقبول. من حق اللبنانيين أن يعبروا عن تضامنهم الإنساني، هذه مسؤولية أخلاقية فوق السياسة. وأنا هنا اتحدث كشخص ومواطن عادي. المسؤولية الشخصية تتعالى أيضا على الاتفاقات التي تحكم علاقات الدولة اللبنانية بالدولة السورية.

* هل أنت راضٍ على رد الفعل السياسي اللبناني على الحدث السوري؟

- الطاغي في ردود الفعل اللبنانية هو تأييد فئة من اللبنانيين للنظام السوري في كل الحالات وحتى النهاية، وأحيانا ترى في التلفزيونات السورية معلقين لبنانيين مؤيدين للنظام أكثر مما تسمع من الإعلاميين والسياسيين السوريين أنفسهم. هناك فئة مؤيدة للنظام السوري وتتبنى الرواية التي ترى أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة خارجية، ومحاولة لضرب سياسة الممانعة، تلك النظرة التي ترى العالم بصورة تلك المواجهة الكونية. وفي المقابل ليس هناك فريق سياسي منظم ينادي صراحة بتأييد الانتفاضات الشعبية ولو أن الكثير من اللبنانيين يتعاطفون مع هذه الانتفاضة، وأنا سميته تعاطفا إنسانيا وأخلاقيا أكثر مما هو سياسي، لا سيما أن القيادة السياسية للانتفاضات الشعبية ما زالت قيد التكون، ومشروعها السياسي ما زال في ملامحه الأولى.

* هل تعتقد أن الحدث السوري سيكون له تداعيات على الوضع اللبناني؟

- لا أريد المجازفة. لا أعرف متى يتغير الوضع في سوريا، هل سيصلح النظام نفسه على نحو يرضي ويتجاوب مع توق السوريين إلى الديمقراطية أم لا؟ هذا سؤال لا أعتقد أن أحدا يمتلك الإجابة عنه. أعتقد أن الأمر الثاني هو أن التغيير في سوريا شأن داخلي، وأنه ما من أحد لا في المعارضة بالطبع، ولا من بين السوريين عموما يقبل بتدخل خارجي أيا كانت الجهة التي قد تقوم به. لذا من الصعب المجازفة بالحديث عما يحدث، ومن الصعب الحديث عن تأثيرات ذلك على لبنان.

* ألا تخشى نقل الأزمة السورية إلى لبنان؟

- لا يستطيع أحد أن يستبعد إذا ما سارت وتطورت الأوضاع في سوريا نحو المزيد من المواجهات، وازداد العنف أي عنف السلطة وربما عنف الاعتراض على السلطة، أن يصير العنف الداخلي السوري على لبنان، لا أرجح ذلك، ولكن لا يستطيع احد منا أن يستبعده استبعادا كاملا. طبعا التأثيرات السياسية أكيد كبيرة. فالانقسام اللبناني الحاد هو أيضا انقسام حول الموقف من سوريا. فالصراع اليوم في لبنان هو صراع بين 14 آذار و8 آذار. وللتسميتين رمزية لها علاقة بسوريا. 14 آذار هو يوم التحرك الشعبي اللبناني المطالب بالاستقلال وانسحاب سوريا من لبنان، و8 آذار هو يوم شكر سوريا. فالانقسام اللبناني هو أيضا حول سوريا لذلك فإن التغيير، أيا كان، له تأثير سياسي كبير على لبنان.

* هناك من يتوقع حصول حرب مع إسرائيل. هل هذا الاحتمال وارد؟

- احتمال الحرب مع إسرائيل من حيث المبدأ وارد دائما بسبب إسرائيل ونواياها العدوانية حيال لبنان وسوريا، وبسبب ممارساتها المتمادية بحق الشعب الفلسطيني. فإسرائيل عمليا، هي مجتمع في حالة حرب معنا كلنا، ولكن هذا في المبدأ. أما في الواقع ليس هناك اليوم ما يشير لا إلى احتمال اعتداء إسرائيلي ولا إلى احتمال استفزاز إسرائيل أو إعطائها ذريعة للقيام بحرب ضد لبنان رغم المظاهرات التي جرت في يوم ذكرى النكبة لا سيما في الجولان السوري، والتي كانت مرتبطة ليس بالأوضاع السورية الداخلية وليس بتحرير فلسطين لكن ظلت الأمور إلى حد مات مضبوطة. وعموما، في ظاهر الأمور ليس هناك ما يوحي باحتمال انفجار كبير.

* السيد حسن نصر الله قال إن سعد الحريري قدم تنازلات لتسوية قضية المحكمة الدولية. ما هي معلوماتك عنها طالما أنك كنت عضوا في الحكومة السابقة؟

- رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قال كلاما صريحا في هذا الأمر. كان هناك مشروع اتفاق شامل يقود إلى المصالحة ومعالجة كل مشكلات لبنان من ضمنها درء مخاطر تأثير المحكمة على علاقات اللبنانيين. فهذا هو جوهر الاتفاق إلى كان معروضا. فهو لم يكن مجرد مقايضة بين موقف متراجع من قبل سعد الحريري عن الالتزام بالمحكمة مقابل لا شيء بمعنى أنه لم تكن هناك مقايضة بين التنازل عن المحكمة واللاشيء. كانت الفكرة فكرة مصالحة، ووزير خارجية السعودية، الأمير سعود الفيصل، قال إنها مناسبة لحل كل المشكلات اللبنانية برمتها. هذه هي الفكرة ومن ضمنها التخفيف من الآثار المحتملة لصدور القرار الاتهامي للمحكمة.

* عايشت حرب 2006 فما هي أبرز الدروس التي استخلصتها من مقاربتك للموضوع كوزير للخارجية بالوكالة؟

- سيأتي الوقت الذي سأقول فيه كتابة كل ما عرفته وخبرته خلال هذه الفترة، وهو أمر قد لا يكون جديدا على اللبنانيين فمعظمه معروف، لكنه قد يكون ضروريا لوضع الحقائق التاريخية في نصابها. فأن أدون شهادتي عن تلك المرحلة ليس معناه أن أعيد التذكير بالوقائع وتسلسلها وسياقها ومواقف القوى على اختلافها لكن الدرس الوحيد بقطع النظر عما قيل من كلام يحكمه الصراع السياسي الداخلي، وحصول تعديل في الروايات اللبنانية عما جرى سنة 2006 تبعا لحسابات سياسية داخلية لبنانية، هو أنه كان هناك عدوان إسرائيلي ووقف اللبنانيون صفا واحدا في مواجهته.

كان هناك إجماع أن إسرائيل اعتدت على لبنان، وأن من حق هذا الأخير الدفاع عن نفسه، وأن لبنان لم يكن معتديا كما صور بل بات ضحية، وكان على لبنان أن يستعيد صورة الضحية، ويدافع عن نفسه، وهذا ما فعلته حكومته، وخاضت مفاوضات سياسية ودبلوماسية مريرة وعينها على استعادة دور الضحية. ثانيا، الاستناد على القانون الإنساني الدولي لإظهار حق لبنان المعتدى عليه وللوصول إلى وقف إطلاق النار بأفضل الشروط الممكنة.

طبعا كان هناك من يقاوم العدوان الإسرائيلي ببسالة قل نظيرها لكن أنا من الذين يرون أن النظرة إلى الحرب يجب أن تبدأ من وقوف لبنان كله ولا سيما حكومته في وجه العدوان الإسرائيلي.

المشكلة هو أن هناك من تأخذه حسابات السياسة الداخلية الصرفة، وأحيانا الطائفية والمذهبية، إلى تفسير ما جرى انطلاقا من الشك في الآخر السياسي على اعتبار، وهذا يأخذ في الأخير إلى المحكمة، إن هناك فسطاطين في لبنان. فسطاط الممانعة والمقاومة، وفسطاط الارتباط بالمشروع الأميركي المفترض. وبالتالي يعتبر كل ما يفعله الآخر السياسي من هذه الزاوية، وطبعا هذا عدا عن أنه بعيد من الصحة، يحجب بشكل انتقائي بعض الحقائق ويبرز أخرى، ويضخم بعض التفاصيل. وأستطيع أن أضرب أمثلة كثيرة على كلمة من هنا، وعبارة من هناك أظهرت مثلا خوفا عند بعض اللبنانيين، ولأسباب داخلية لا علاقة لإسرائيل بها، من حزب الله، فيجري تضخيمها وتفسيرها من زاوية المواجهة بين المعسكرين. هناك من يرى السياسة اللبنانية انعكاسا محليا لصراع أكبر، وهي ليست كذلك.

وبالنسبة للاغتيالات السياسية، هناك في لبنان من يبدو وكأنه غير معني بها وكأنها حدث عابر وجزء من الحياة السياسية العادية، وإذا اضطر للحديث عنها، سواء التي سبقت استشهاد الرئيس الحريري أو تلك التي تلته، يميل إلى اتهام إسرائيل بها، ثم يتهم إسرائيل بأنها وراء المحكمة، التي قامت من أجل الكشف عن المتهمين، ويتهم ضحايا الاغتيالات السياسية بأنهم يعملون على خدمة إسرائيل. فكيف يمكن التوثق من أن إسرائيل تقتل من يفترض أنهم أصدقاؤها، وتقيم محكمة خاصة لمحاكمة القتلة المفترضين. فهذا أمر غريب من نوعه.

* أنت مقرب من 14 آذار. فمتى تصبح فاعلا أساسيا فيه؟

- أنا مواطن كان وزيرا، وسأعود للكتابة والتعليم الجامعي. وأنا كنت أنتمي إلى الأكثرية الحكومية، وبالتالي قريب من 14 آذار لكنني شخص مستقل وحر، ولن انتمي إلى أي تنظيم سياسي. سأحتفظ برأيي وسأعبر عنه بالكتابة، ولكن حتى لما كنت وزيرا كان عندي في نفس الوقت مسافة. وربما بسبب تكويني الجامعي السابق، كنت مشاركا كوزير في الحياة السياسية، وكنت أيضا على مسافة نقدية منها. فذلك موضوع تفكر عندي ونقد ومساءلة. فأنا لست من الذين يمارسون السياسة كما يمارسها البعض على أنها خناقة وصدام مستمر. أنا اشمئز اشمئزازا شديدا من لغة التهديد والتنديد، وأرى أن وراء هذه اللغة ثقافة تعتبر أننا كلنا قبائل محكوم عليها أن تواجه بعضها البعض.

* أفهم من كلامك أنك لا ترغب في تكرار التجربة، وأنك قررت العودة إلى الكتابة والتدريس؟

- أنا لست من أولئك الذين يريدون الحديث عن أنفسهم كثيرا، ولم أسع لأن أكون وزيرا، وإنما الظروف شاءت أن أكون وزيرا. ومن دون ادعاء أو تواضع كاذب، وأنا لا أحب الادعاء والتواضع الكاذب، حاولت أن أمارس دوري الوزاري بروحية الخدمة العامة وليس بروحية من يمسك ببعض السلطة، وليس بروحية الكيد والمناكفة أو إيلاء الخصومة السياسية الأولوية على ما عداها. أنا لا أفهم مثلا كيف يسمح وزير لنفسه، وأستطيع أن أعطي أمثلة، وسأكتب هذا لاحقا، أنه عوض أن يهتم بأن تنجز وزارته إصلاحات لمصلحة اللبنانيين مثلا في قطاعات الماء والكهرباء والاتصالات، يقوم بصرف كل جهده للتنديد بحكومة هو عضو فيها، أي إنه يكون في الحكومة والمعارضة معا. وأيضا تسجيل المواقف ضد زملائه الوزراء، وإدانتهم وتلطيخ صورتهم، وتشويه سمعتهم. اعرف أن هذا جزء من حياتنا السياسية لكن أن تختزل هذه الحياة السياسية إلى هذا، أمر يدعو للأسف، وأحيانا كثيرة للاشمئزاز، وبمعنى ما أشعر ببعض السعادة لأنني ابتعدت عن مخالطة هذا النوع من السياسيين.

* كيف كانت علاقتك بالإعلام عندما كنت وزيرا للقطاع. ما هي خلاصة التجربة؟

- أنا كمواطن لبناني عادي وكشخص عنده تعلق كبير بالحريات، عندما كنت وزيرا للثقافة، كانت إحدى القضايا الرئيسية التي انشغلت بها هي محاربة الرقابة والدفاع عن حرية الكتابة والإبداع والتعبير والعمل الفني. وجئت وزارة الإعلام وأنا بنفس الحرص على الحريات، وكل ما حاولت القيام به كان مدفوعا بهذا الحرص ولكن في الوقت نفسه وبعدما تعرفت على وسائل الإعلام اللبنانية عن قرب، وكان يزورني إعلاميون كثر، وأحيانا يبوحون لي بمواقفهم الفعلية إزاء وسائل الإعلام التي يعملون بها.كان عندي هم أن تصير الحريات عن طريق تعزيز صدقية الإعلام. وليس سرا أن نقول إن بعض الإعلام بسبب أنه تنديدي واتهامي وتعبوي، لا يتمتع في نظر اللبنانيين، من كل الاتجاهات بالصدقية الكافية، وكانت هناك دائما أصوات لا سيما أصوات من هم في السلطة الآن التي كانت تنادي بضبط الفلتان الإعلامي، ومنع الإعلاميين من كذا وكذا. وأنا لم أكن قط مؤيدا لضبط الفلتان الإعلامي أو ممارسة ضغوط أو منع. لكنني ظننت، وقد كنت على خطأ، أنني استطيع معالجة هذه النقطة من باب آخر أي باب الاتفاق على وضع وثيقة لأخلاقيات المهنة لكن بعض وسائل الإعلام، وهي قلة، اعتبرت أن السعي الذي كنت أقف وراءه لجهة شرعة الأخلاق المهنية، له دوافع سياسية وأنه يؤدي في نهاية المطاف إلى فرض رقابة على الإعلام. ولم يكن همي فرض أي رقابة على الإعلام على الإطلاق. كان اهتمامي الأول هو تعزيز صدقية الإعلام واحترامه بين اللبنانيين. الأمر الثاني يكمن في أن الإعلام اللبناني هو إعلام حر ولم يستطع احد أن ينزع حريته منه ولكنه لسوء الحظ إعلام غير مستقل، كثير منه مرتبط جدا وأحيانا إلى حد التواطؤ مع القوى السياسية. للإعلام دوره الرئيسي الذي يجب أن يكون على مسافة نقدية من السياسة، أي أن ينتقد السياسيين ويحاسبهم لا أن يروج لهم ولأكاذيبهم وأقاويلهم وعوراتهم ومشاعر غيظهم، ولسوء الحظ أحيانا يجنح الإعلام ليكون مجرد أداة في خدمة هؤلاء الناس، ويفقد بعض الإعلاميين نتيجة هذا استقلاليتهم. فالإعلامي لا يستطيع القيام بمهمته فعليا على نحو أمين لمبادئ مهنته إلا إذا كان يتمتع بقدر كبير من الاستقلالية، ولذلك حاولت أن أضع مشروع قانون يلحظ ذلك بالإضافة إلى مسعاي الذي فشل في وضع شرعة أخلاق مهنية، حاولت أيضا أن أعد مشروع قانون للإعلام في لبنان، فنحن عندنا قوانين مبعثرة وأحيانا متعارضة، وفي كل الأحوال قديمة، فكان لا بد من تحديثها وعقلنتها وصوغها في مشروع واحد، لكن هذا المشروع أيضا تعثر لأنني أردت أن أطلق مشاورات واسعة قبل كتابة مشروع القانون. وأعتقد أن كثيرين لم يألفوا هذا النوع من العمل، فهم يتوقعون من الوزير أن تكون عنده أفكار جاهزة يضعها في نص ويذهب به إلى مجلس النواب. أنا لست من هذا النوع من الناس ولذلك تأخرت العملية لأنني أريد المشاورة، والناس أحيانا لا تفهم هذه الرغبة في المشاورات، وتعتبر أنها تخفي شيئا. فهم دائما يذهبون إلى غير المقال، إلى المخفي، ويقولون هذا الوزير يريد أن يسأل رأينا، ويدعي أنه سيأخذ بآرائنا لا بد وأن له في مكان ما مصلحة سياسية أو دوافع مخفية. إنهم دائما يبحثون عن انضباط يفقأ العيون بوضوحه.