ميدان التحرير.. للباعة الجائلين أكثر من مجرد ثورة

منفذ للتعبير عن المظالم للبعض.. ومصدر رزق للجميع

هناك من الباعة الجائلين من يرى أن المتظاهرين في ميدان التحرير يقطعون أرزاقهم وهناك من يرى عكس ذلك (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

لم تكن أم محمود تتوقع يوما أنها من الممكن أن تجلس بالقرب من الجامعة الأميركية، وفي مواجهة المتحف المصري، لتسند أنبوب الغاز الصغير المتصل بموقدها «المحمول» على جدار مجمع التحرير وسط العاصمة المصرية.

وبعفوية البسطاء، وحنكتهم التي صاغتها السنين في الوقت ذاته، تقول أم محمود التي تقتات من بيع الشاي الساخن للعابرين في الميدان: «قبل الثورة مكانش ممكن حتى نقرب من المكان دا، وكان ممنوع على البياعين إنهم يفرشوا فرشتهم في التحرير أو الحتت القريبة منه، وكانت أماكنّا على الكورنيش أو في الميادين التانية».

وبعد «25 يناير»، أصبح ميدان التحرير سكنا ومقرا دائما للعديد من الباعة الجائلين مثل أم محمود، بعد أن كان الميدان الذي يعج بالحركة ممنوعا عليهم بحكم قربه من أماكن سيادية وسياسية من قبيل مجلسي الشعب والشورى ومجلس الوزراء وجامعة الدول العربية والمتحف المصري، وغيرها من المؤسسات والسفارات.

ولكن الأمور تغيرت كثيرا بعد الثورة، وبعد تحول الميدان إلى قبلة للثوار والمعتصمين والمتظاهرين في مصر، حيث تطلب الأمر توفير خدمات ومتطلبات الزائرين، فاحتل الباعة الجائلون أرجاء الميدان ورفضوا مغادرته أو الرحيل عنه.. ليأتي الثوار ويذهبوا، ويبقى الباعة مقيمين دائمين.

أم محمود، قبل مقدمها إلى التحرير، كانت تبيع الشاي بميدان الجيزة جنوب العاصمة، ولكنها أتت في إحدى المظاهرات إلى الميدان للمطالبة بالإفراج عن ابنها السجين في مشاجرة قبل تسعة أشهر من الثورة.

حينها قررت نقل مكان عملها للميدان، ومنذ ذلك الحين أيضا لم تنتقل منه.. إلا أن بقاءها في الميدان جعلها تقول: «أنا نفسي الدنيا تتصلح زي ما كانت، والشباب يلاقي شغل والناس المسجونة تطلع والظلم مايرجعش تاني».

وعلى خلاف أم محمود وأحلامها البسيطة، تقول فوزية حسن، التي تبيع بعض العصائر في الميدان: «أنا بلف بصندوقي في كل (مناطق الثورة)، أنا رحت ماسبيرو والتحرير ومصطفى محمود وكله أكل عيش».

ورغم أن فوزية لا تكاد تميز بين المتظاهرين في هذه الأماكن، واختلاف مشاربهم وأهدافهم الجوهرية، فإنها تهتف لتحقيق مطالب الثورة في التحرير، وتذهب إلى مصطفى محمود لتهتف مطالبة بعدم محاكمة الرئيس السابق! فهي لا تلقي لهذه الاختلافات بالا، إلا أنها تعتبر الثورة مصدرا للرزق، بغض النظر عن خلافات الميادين التي يتجمع فيها المتظاهرون.

فالبيع الجائل مهنة، يلتحق بها من عانده المجتمع والظروف وفشل في أن يجد عملا أو مهنة محددة له. ومما أضاف رواجا لتلك المهنة، إقبال فصل الصيف بقيظه، والثائرون الذين لا يجدون صدى من السلطة لتلبية مطالبهم.

ورغم اختلاف أنواع المشروبات والأطعمة التي يقدمها الباعة الجائلون في الميدان، فإنهم يتفقون في أحلامهم البسيطة التي يطلبونها من الثورة. فحسين إبراهيم، الذي جاء للميدان يبيع أعلام مصر بالإضافة لمجموعة من الملابس التي تحمل شعارات الثورة، يقول: «إحنا كل اللي عاوزينه نعيش كويس ونلاقي لقمة العيش ونقضي يومنا إحنا وعيالنا».

وحسين، الذي ترك عمله في أحد المصانع بسبب قله الأجر، على الرغم من أنه كان يعمل 12 ساعة يوميا، يؤكد قائلا: «الثورة كويسة، وكفاية إنها فتحت لينا حتة ناكل منها عيش». الثورة بالنسبة لحسين لا تتعدي كونها فتحت له طريقا لأكل العيش وما دام أن هذا الطريق لم يغلق، فالثورة تحقق أهدافها بالنسبة له.

ولذا يحرص حسين - هو وغيره - على البقاء في الميدان، بل يرحبون بالمظاهرات المليونية التي يتم تنظيمها من حين لآخر، ويقول: «ما دام مافيش ضرب ولا خناقات مافيش مشكلة إن الناس تتظاهر وتعتصم في الميدان، والميدان يساع الكل».

إلا أن أم أسامة تصب جام غضبها على الثورة، على الرغم من أنها تستفيد من الأعداد الكبيرة التي تأتي للميدان ويشترون ما تبيعه من مناديل ورقية، وتقول أم أسامة بكل غضب: «ماينفعش العيال دول كل كام يوم يقطعوا الطريق ويقفلوا الميدان والمجمع، أنا عاوزه البلد تمشي والدنيا ترجع لطبيعتها».

ولم تكتف أم أسامة بذلك؛ بل أعلنت رفضها لشباب الثورة قائلة: «دول اللي قاعدين وقافلين الميدان هما اللي هربوا من السجون، يا ريت ترجع أيام مبارك والعادلي، ويرجعوا الناس دي لجحورها تاني».

وما بين أم أسامة الرافضة للثورة وبين غيرها ممن اعتبروها مصدرا للرزق، أو وسيلة لاسترداد حقوق كانت ضائعة، يبقى الباعة الجائلون في ميدان التحرير.. ويبقى الميدان شاهدا على ثورة مصر وعلى ما بعدها.