حماه تنظم نفسها ودفاعاتها وتتخيل شكل الحياة بعد نهاية حكم الأسد

قيادات جديدة ظهرت داخل المدينة.. والمظاهرات تبدأ بعد منتصف الليل.. وشباب يحتفلون بقدرتهم على الاحتجاج

تظاهرات ليلية في حماه أمس في صورة مأخوذة من موقع شبكة شام الاخبارية
TT

في هذه المدينة التي تظهر عليها آثار أحد أكثر الأحداث دموية بمنطقة الشرق الأوسط الحديث، دفعت الثورة ضد حكم الرئيس بشار الأسد سوريين إلى تخيل شكل الحياة بعد انقضاء الحكم الديكتاتوري، ويأتي هذا في وقت تظهر فيه قيادات جديدة داخل المدينة التي تنظم دفاعاتها وتنظر إلى ماضٍ مظلم في معرض تجربة يكتنفها الغموض تظهر قوى ربما تضع النهاية لحكم عائلة الأسد.

تشكل العشرات من صناديق القمامة وأعمدة الإنارة في الشوارع والبلدوزرات والأكياس الرملية، يتم حمايتها بحذر متفاوت، وحواجز تحسبا لعودة القوات الأمنية بعد أن انسحبت بصورة مفاجئة الشهر الماضي.

تبدأ المظاهرات بعد منتصف الليل، وتجوب حشود صاخبة لشباب يحتفلون بأنهم قادرون على الاحتجاج. في وقت الغسق تتردد صرخات على حوائط المنازل تصور رسما لمشاعر خوف وفرح وذكرى إجراءات قمعية وقعت قبل أعوام لا تزال حصيلتها غير معروفة على وجه التحديد، 10.000 أو 20.000 أو أكثر من ذلك. هتف المتظاهرون: «حماه حرة، وستظل حرة». كثيرا ما تسمع كلمة «الحرية» في هذه الأيام داخل مدينة حماه، رابع كبرى المدن السورية، على الرغم من أن الحرية ما زالت شيئا غير ملموس. تمردت حماه الشهر الماضي، وقامت الحكومة بسحب الجنود والقوات الأمنية، وبدا أن ذلك بهدف تجنب إراقة المزيد من الدماء، وتنازلت عن مساحة بامتداد نهر العاصي لم تحرر ولكن لم تقهر.

وفي فترة من عدم الاستقرار غير واضحة المعالم، ومع مخاوف من احتمالية عودة القوات الأمنية وخوف من مخبرين موجودين، تظهر حماه خلال أربعة أشهر من الثورة ضد الأسد كنموذج مضطرب لما قد تمثله أي مدينة داخل سوريا بمجرد انتهاء أربعة عقود من الديكتاتورية. وداخل شوارع غير مستقرة توجد على الأقل أفكار ناشئة عن حرية الإرادة، بينما يسعى سكان محليون للحديث عن أنفسهم والدفاع عن مدينة أعلنوا أنها مدينتهم.

يتدلى الملصق الوحيد للأسد داخل المدينة من مقر لم يدمر لحزب البعث الحاكم. تتجمع مجموعات من السكان المحليين لتناقش مواضيع سياسية وتنشد أغاني احتجاجية وتحكي صدمات خلفتها إجراءات قمعية عام 1982، عندما اقتحمت الحكومة حماه لإنهاء انتفاضة إسلامية. وللمرة الأولى يتناقش رجال دين ونخبة مثقفة داخل حماه بشأن كيفية إدارة المدينة داخل دولة لطالما ألفت مراسيم تأتي من الحاكم إلى المحكومين.

وقال موظف حكومي سابق يبلغ من العمر 49 عاما: «تلك هي الصورة التي يفترض أن تكون المدينة عليها». وقال الرجل إن اسمه أبو محمد، وكما الحال مع الكثير من المواطنين رفض ذكر اسمه بالكامل.

ويظهر الطريق إلى حماه، الذي تحيط به أشجار الدفلي والكافور، مدى التحديات أمام الأسد حاليا. تقبع الدبابات داخل حمص جنوبا، ويوجد المزيد منها في مداخل مدن أصغر بين حمص وحماه، مثل تلبيسة والرستن، حيث قام متظاهرون بتفكيك تمثال لحافظ الأسد الذي تولى سدة الحكم عام 1970. وعند مدخل تنتشر فيه حجارة ألقاها متظاهرون، يوجد شعار يقول «الجيش والشعب يد واحدة». ولكن مشهد الجنود خلف كثبان رملية وأعلى دبابات يشير إلى حركة مرورية توحي بجيش احتلال. وقال أحد السكان المحليين: «سوريا مستعمرة من جانب أبنائها».

تستعد حماه لهجوم تشنه الحكومة التي قد تتراجع عن قرارها بالانسحاب في الأسبوع الأول من يونيو (حزيران) بعد يوم جمعة دامٍ. ولكن تبدو السلطات حائرة بشأن كيفية استعادة السيطرة على المدينة المتمردة، التي تعد أكثر المدن المحافظة تدينا في سوريا. أزيلت بعض الحجارة من طرق جانبية لبناء العشرات من الحواجز تغلق مداخل معظم المناطق. وتراكمت الفضلات داخل شوارع يبدو أن كل صندوق قمامة فيها جزء من حاجز.

قام الشباب بتوزيع أكياس بها صخور على نقاط التفتيش، وحمل شباب صغار السن قضبان حديد وعصيا، وأخذ آخرون يشربون السجائر خلسة، بعيدا عن أنظار آباءهم الرافضين. وبدت لافتة في أحد الميادين تؤكد على قضيتهم، حيث كتب عليها: «هنا حماه وليس تل أبيب»، في إشارة إلى إسرائيل، عدو سوريا.

وقال نجار يبلغ من العمر 30 عاما له لحية وعينان زرقاوان: «بالطبع، نعرف أن النظام يستطيع الدخول في أي وقت». وهز الرجل، الذي قال إن اسمه عبد الرازق، كتفيه مضيفا: «حينئذ ستحدث المعركة. ما الذي نستطيع القيام به؟».

وعلى الرغم من الاحتفال بسعي حماه من أجل الحرية، يتساءل سكان داخل مناطق أخرى عما دفع الحكومة إلى سحب قواتها من حماه. وأشار البعض إلى ضغوط أجنبية، بينما أشار آخرون إلى طبيعة حماه الديموغرافية. وعلى عكس حمص، لا توجد داخل حماه الأقلية العلوية، التي منها النخبة الحاكمة ومنها يكتسب النظام الدعم. ويبدو على المسحيين داخل المدينة شعور بالحذر، ولكنهم لا يشعرون بالذعر.

ماضي المدينة الأليم

* يعتقد المعظم أن السر في ماضي حماه، وهذا ما توحي به عبارة تسمعها كلما ذكر اسمه المدينة. والعبارة هي: «حماه جريحة». بناء على أوامر من حافظ الأسد، قام الجيش السوري بسحق انتفاضة عام 1982 بوحشية ظلت تحدد معالم حكمه في ما بعد. أنهى حافظ الأسد الثورة ولكن غير هذا الأسلوب الوحشي من قيادته للأبد، حيث أثار شكوكا ومشاعر خوف لا تزال مسيطرة على الساحة السياسية تحت حكم عائلته. تركت ثلاثة أسابيع من القتال مقبرة داخل هذه المدينة، بعد أن قامت الطائرات بإلقاء قذائف على المنطقة التاريخية بحماه واندفعت الدبابات عبر الشوارع الضيقة. وكان مألوفا تنفيذ عمليات إعدام جماعية، ويبدو التعذيب واضحا على أجساد الباقين على قيد الحياة. ويقول فنان يعيش بالمدينة: «حماه مقبرة الدولة». وقال مهندس بترول يبلغ من العمر 25 عاما: «يوجد في كل بيت شهداء». انضم آخرون إلى المهندس، الذي قال إن اسمه عدنان، وجلسوا على مقاعد بلاستيكية يحتسون الشاي.

ويقول عدنان وآخرون إن سبعة عشر شخصا ماتوا في شارعهم، الذي أطلق عليه اسم شارع الشيخ مصطفى الحميد. وحمل الكثير من الأطفال ممن كانوا يلعبون كرة القدم في الجوار أسماء القتلى. ذكر أحدهم عمه محمود، الذي قال إنه أطلقت عليه 24 طلقة رصاص، ولكنه ظل على قيد الحياة ليعاني من الشلل. وقال: «بدا مثل المصفاة». وقال صيدلاني إنه لم يسمع صوت قريبه عثمان مرة أخرى. وقال أبو محمد، الموظف الحكومي السابق: «أبناؤهم وأحفادهم هم من ينظمون الاحتجاجات حاليا».

وفي أيام الجمعة المتتالية منذ سحب الحكومة لقواتها تنمو المظاهرات في ميدان العاصي - الذي أعيد تسميته بميدان الشهداء - بسرعة كبيرة مع ذهاب الشعور بالخوف، لتصل الأعداد إلى أكثر من 100.000 هذا الشهر. وتنتشر على موقع «يوتيوب» أغانٍ مثل «ارحل بشار»، أنشدها متظاهرون في مدن أخرى.

وفي ميدان الرئيس قامت الحكومة المحلية بتفكيك تمثال لحافظ الأسد في 10 يونيو (حزيران). وفي اليوم التالي وضع رجل يطلق عليه غيلامو حمارا على قاعدة التمثال، بحسب ما ذكره بعض السكان المحليين. وتجمع المئات يصفقون. ويقول سكان إنهم كانوا يهتفون: «يا شباب دمشق، نحن في حماه أطحنا بالنظام. أزلنا حافظ ووضعنا حمارا مكانه». وقال مواطنون إن القوات الأمنية أطلقت النار على الحمار بعد أيام قليلة.

وفي ظل الفراغ بدأت قيادات جديدة تظهر وتتعايش، في بعض الأحيان، بشكل متوتر داخل مدينة تبدو تتجه صوب المجهول. شكّل متظاهرون شباب في مجموعة يطلق عليها «أحرار حماه»، ولكنه اسم أكثر منه تنظيما. ويقول نشطاء إن عملهم الحقيقي في مناطقهم، حيث ينظمون ورديات للدفاع عن الحواجز، ويقنعون أمهاتهم بطهو الطعام لأصدقائهم. كما يقومون بتوثيق الانتفاضة بالكاميرات وأجهزة الهاتف الجوال.

ويقولون إنه لا يستطيع أي من القوات الأمنية الاقتراب، من دون أن تدق أجهزة الإنذار في الشوارع وتعلو صيحات «الله أكبر». ويعلق عدنان، أحد قادة حركة الاحتجاجات، قائلا: «لقد تبدد الخوف».

وعلى الرغم من ذلك لا يوجد لدى المحتجين نفوذ كبير على الحكومة، التي تفاوضت مع المدينة بصورة مدهشة. وفي هذه الأيام يمثل حماه مصطفى عبد الرحمن، وهو رجل دين يبلغ من العمر 60 عاما مسؤول عن مسجد «سرجاوي». ويقول سكان محليون إنه يتشاور مع المصلين في المسجد، إلى جانب أطباء ومحامين ومهندسين في المناطق، حول وسائل لنزع فتيل التوتر. وبموجب آخر اتفاق وافقت الحكومة على إطلاق سراح السجناء حال قيام متظاهرين بتفكيك نقاط التفتيش على الطرق الرئيسية. وقام المحتجون بذلك ولكن في النهاية لم يطلق سراح سوى نسبة صغيرة مما يزيد على 1200 معتقل. ويقول طارق، وهو محتج يبلغ من العمر 22 عاما: «سيستمرون يأخذون الناس لأجل غير مسمى. لا يمكن أن نثق فيهم، لا يمكن أن نثق فيهم أكثر من ذلك».

وعلى مدار الأسابيع الستة الماضية ظهرت حماه كنموذج مصغر للثورة، ما يراه المتظاهرون نماذج متنافسة للتحرر وما تسميه الحكومة فوضى.

وكما الحال داخل أماكن أخرى، تتحدث الحكومة عن عصابات مسلحة وإسلاميين يجوبون شوارع المدينة، ولكن خلال يومين لم يظهر سلاح واحد. يعيش هنا إسلاميون وربما يسيطرون على صفوف المحتجين، ووفقا لبعض التقديرات فقد نزح قرابة ربع سكان المدينة خشية حدوث مواجهات، أكثر من خوفهم من نمط حكم قد يفرضه إسلاميون.

وقد تحدثت الحكومة عن فقدان السيطرة، على الرغم من أن المدينة لا تزال تعمل، فقد أعادت المحلات التجارية فتح أبوابها، ويمشي المواطنون في الشوارع، وبدأت الإدارة المحلية - بدءا من المحاكم ووصولا إلى عمليات جمع القمامة - العمل مرة أخرى يوم السبت بعد إضراب استمر لأسبوعين. ونشر متعهدو الحدائق المياه في ميادين المدينة، وتلتزم السيارات بإشارات المرور في شوارع لا يظهر فيها أي ضرر بالمباني الحكومية، باستثناء القليل من النوافذ المحطمة. وعلى الرغم من أن القوات الأمنية قد اختفت - كل الأفرع الستة عشر وفقا لرواية بعض السكان المحليين - فلا تزال شرطة المرور تؤدي عملها. ويقول أبو محمد: «لن تشعر بالأمن ما لم تذهب القوات الأمنية». ولكن ظهرت مواقف غاب فيها حكم القانون ووقعت فيها حوادث انتقام بالمدينة، حيث تم شنق مخبر في عمود كهرباء الشهر الماضي. وألقيت جثث ثلاثة أو أربعة في نهر العاصي، بحسب ما يقوله سكان محليون. وقبل أسبوع سُرقت ثلاث سيارات كورية الصنع من توكيل سيارات، بحسب ما قاله مواطنون. واشتكى بعض رجال الأعمال من أن نقاط التفتيش والإضراب الذي استمر لأسبوعين أغلقوا حماه. وشعر البعض بالضيق من تفكيك أعمدة الإنارة وغيرها من البنية التحتية لبناء الحواجز.

وتساءل تاجر يبلغ من العمر 40 عاما قال إن اسمه أحمد: «لم يتم تدمير شيء أثناء الاحتجاجات، لماذا يحدث ذلك من أجل نقاط التفتيش؟»، وأضاف: «لا شك في أن الناس يشعرون بالغضب، وأنا نفسي أشعر بالغضب، فهناك بلطجية، ولا يوجد من يردعهم». ووفق الروايات المتناقلة على الأقل يبدو أن رأيه هذا يعبر عن أقلية.

وقد كانت المشاهد مساء السبت تعبر عن الاحتفال أكثر منها فوضوية، حيث تجمعت الحشود في الشوارع لمشاهدة مظاهرة تلقائية احتفالا بإطلاق سراح عدد قليل من السجناء. واتجهت المظاهرة إلى مبنى المحافظ، الذي كان مزينا بشعار لا يزال عليه «سوريا الأسد». واندفع الشباب بسياراتهم، وزادوا سرعتها داخل الشوارع، وكانوا يتبادلون الشائعات والأخبار عبر أجهزة الهاتف الجوال التي أخذت ترن بصورة مستمرة. كما تبادلوا المزاح عند نقاط التفتيش. وقال أحدهم: «عندما أراك لاحقا سنكون نلعب كوتشينه في السجن».

وفي وقت منتصف الليل تقريبا انضم محتجّ يدعى عُبادة إلى أصدقائه، في مكان بدا يجمع ما بين غرفة سكنية ومنزل آمن. كان يتم تجهز الفحم للنرجيلة في ركن الغرفة، وذلك بالقرب من أجهزة كومبيوتر وتليفونات وتلفزيون ذي شاشة ضخمة وجهاز سكانر وأجهزة مزج أصوات وعدد من أقراص الكومبيوتر المدمجة توثق الاحتجاجات وعمليات إلقاء القبض ومصادمات مع القوات الأمنية.

أخذ كل منهم دوره بذكر ما تعنيه انتفاضتهم، فقال مصطفى (27 عاما): «لا يوجد خوف». وأضاف صديق يُدعى محمود: «تستطيع المشي في الشوارع بأمان». وبينما كان يكتب على جهاز كومبيوتر، تطوع فادي قائلا: «لقد تجمعنا معا». وهز باسم رأسه قائلا: «لسنا أحرارا حتى الآن».

* خدمة «نيويورك تايمز»