عاصفة الغضب ضد مردوخ تعكس مشاعر السياسيين تجاه صحافة «التابلويد»

الصحف في بريطانيا تتمتع بنفوذ هائل وتضطلع بدور محوري في تحديد الأجندة السياسية

TT

تدور أحداث فضيحة التنصت على الهواتف، التي زعزعت إمبراطورية روبرت مردوخ الإعلانية واستحوذت على اهتمام الرأي العام على جانبي الأطلسي، على خلفية ثقافة سياسية - إعلامية سريعة الاشتعال تختلف بشدة عن تلك السائدة داخل الولايات المتحدة.

وتعكس موجة الغضب المنصبة على مردوخ وصحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» التي أغلقت، والتي امتدت أذرعها داخل مجالي السياسة وفرض القانون، أكثر من مجرد غضب شعبي جراء الكشف عن عمليات تنصت على هواتف مشاهير وسياسيين وفتاة تعرضت للقتل.

في الواقع، يعكس رد الفعل أيضا غضب السياسيين الذين تعرضوا على امتداد فترة طويلة للتهديد من قبل أساليب صحف «التابلويد» العدوانية، والذين شعروا بالحاجة إلى محاولة كسب ود أقطاب الإعلام الأقوياء، خصوصا مردوخ، وذلك للفوز بتأييد هذه الصحف وحماية أنفسهم من تغطياتها المتطفلة.

في بريطانيا، يلعب المال دورا في الحياة السياسية أصغر مما عليه الحال في الولايات المتحدة، وليس أمام السياسيين سوى القليل من الوسائل للتواصل مع الرأي العام بخلاف الإعلام. ولا تلعب الإعلانات التلفزيونية دورا يذكر في الحملات الانتخابية، علاوة على أنه لا يسمح بها في الغالب.

وبينما بإمكان السياسي الأميركي، الذي يشعر بضيم من الإعلام، شراء فترات تلفزيونية للرد على الإعلام، لا يملك نظيره البريطاني مثل هذا الخيار. وعليه، يتحتم على المسؤولين المنتخبين الاعتماد على رضا الصحف للحصول على تغطية إيجابية لنشاطاتهم.

ولا يعد مردوخ المالك الوحيد لصحيفة بريطانية الذي يلجأ موظفوه لأساليب مريبة سعيا وراء الحصول على قصص مثيرة ونفوذ سياسي، وإن كان المدى الذي وصلت إليه «نيوز أوف ذي وورلد» شكل صدمة حتى لأكثر الناس تشاؤما.

إلا أن مردوخ باعتباره أكبر وأقوى مالكي وسائل الإعلام، حيث بني سمعته في هذا المجال على امتداد 3 عقود، يدفع الآن ثمن خطاياه وخطايا الصناعة، حيث وفرت الفضيحة الأخيرة وسيلة لإنزال الانتقام على نطاق واسع.

ولا أحد يدري على وجه التحديد النتائج التي ستتمخض عنها التحقيقات الجنائية والسياسية الجارية، لكن الأمر شبه المؤكد أنها ستقلص نفوذ مردوخ، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى إحداث تغيير في أسلوب تعامل السياسيين مع وسائل الإعلام بوجه عام.

بيد أن ما سبق لا يعني أن ما حدث في بريطانيا لم يكن ليحدث في الولايات المتحدة، بل إن هناك تساؤلات قائمة بالفعل حول ما إذا كانت أعمال التنصت على الهواتف هناك قد امتدت إلى هنا. ومع ذلك، فإن في الولايات المتحدة مكافئ للنفوذ والقوة التي تتمتع بها الصحافة البريطانية، والعلاقة بين قيادات إمبراطورية مردوخ والساسة البريطانيين أو دور الأموال والدعاية في الساحة السياسية.

ومما أسهم في هذه الثقافة حقيقة أن لندن تعد أشبه بقرية على نحو لا ينطبق على أي مدينة أميركية، فهنا تعتبر واشنطن المركز السياسي للبلاد، ونيويورك المركز المالي، ولوس أنجليس المركز الإعلامي والترفيهي. في بريطانيا، كل القوة مركزية في لندن، وعد مردوخ أقوى لاعب على الساحة الإعلامية بفارق كبير بينه وبين أقرب منافسيه. ولأن الجميع يعرفون بعضهم البعض داخل هذا المجتمع الصغير، فإنه عندما تشتعل فضيحة، فلا يمر وقت طويل قبل أن تنتقل إلى الصعيد السياسي.

ولتفهم الطبيعة البريطانية الفريدة لهذه الفضيحة، فمن الضروري النظر إلى التداخل القائم بين الإعلام والسياسة. على خلاف الحال داخل الولايات المتحدة، لا تزال الصحف في بريطانيا تتمتع بنفوذ هائل. في المقابل، تخضع الشبكات التلفزيونية لقيود قانونية بالنسبة لما يمكنها قوله أو بثه. مثلا، نجد أن «بي بي سي» ملزمة من جانب ميثاقها بالتمسك بالتغطية المتوازنة. وتفتقر بريطانيا إلى ثقافة تلفزيونات الكيبل، على خلاف الحال في الولايات المتحدة الأميركية، التي تقسم المشاهدين تبعا للآيديولوجيا وتغذي الحوار السياسي على نحو يومي.

بدلا من ذلك، تضطلع الصحف بهذا الدور في بريطانيا. ولأن الصحف البريطانية تركز على نطاق وطني، فإنها تضطلع بدور محوري في تحديد الأجندة السياسية. والملاحظ أن الصحف هنا، خصوصا «التابلويد»، أقل «دقة»، حسب الوصف الرقيق لأحد الصحافيين البريطانيين، في مراعاة القواعد الأخلاقية ومعايير التغطية الصحافية عن أفضل الصحف الأميركية.

والملاحظ أيضا أن الصحف البريطانية تعلن بصخب عن توجهاتها الحزبية، ويتبع أسلوب التغطية الصحافية توجه رئاسة التحرير على نحو لا يحدث في الولايات المتحدة. ويحظى حزب العمال بأنصاره، وبينهم صحيفة «ميرور» (التابلويد) و«غارديان»، لكن عددا أكبر من الصحف البريطانية يميل نحو حزب المحافظين، وكانت «صن» المملوكة لمردوخ الأقوى بين هذه الصحف.

من جهته، أشار ستان غرينبرغ، الأميركي الذي يعمل في مجال استطلاعات الرأي وسبق له العمل مع حزب العمال في حملاته السياسية لسنوات كثيرة، إلى أن قراء «صن» يمثلون أكثر من خُمس الناخبين البريطانيين. في المقابل، فإن مثل هذا النفوذ والقوة المحتملة أمر يتعذر تخيل وجوده داخل الولايات المتحدة، وهذا هو السر وراء السعي الحثيث للسياسيين البريطانيين للفوز بتأييد مردوخ.

وقد أيد مردوخ لفترة طويلة حكومة حزب المحافظين برئاسة مارغريت ثاتشر، وكذلك خليفتها جون ميجور، وإن كان بحماس أقل. ولا يزال سياسيو حزب العمال يتذكرون تغطية «صن» ومقالاتها الافتتاحية التي هاجمت نيل كينوك، زعيم حزب العمال، أثناء الحملة الانتخابية عام 1992.

في أحد أيام الحملة الانتخابية، حملت «صن» عنوانا رئيسيا على صدر صفحتها الأولى يقول: «إذا فاز كينوك اليوم، فنرجو من آخر شخص يغادر بريطانيا إطفاء الأنوار». وعندما فاز المحافظون على نحو غير متوقع، أعقبت «صن» ذلك بعنوان رئيس آخر يقول: «إنها (صن) التي فازت». ولم يغفر بعض سياسيي حزب العمال لـ«صن» قط ما فعلته.

إلا أن توني بلير لم يكن من هؤلاء، فعندما تولى زعامة حزب العمال، سعى إلى كسب ود مردوخ بناء على اعتقاده بأنه من دون دعم «صن» المملوكة لمردوخ، سيخسر حزبه الانتخابات التالية. في يونيو (حزيران) 1995، سافر بلير إلى أستراليا لإلقاء كلمة أمام مؤتمر عقدته «نيوز كوربوريشن» التابعة لمردوخ، وأثار ذلك صدمة الكثير من زملائه داخل الحزب، بينما نظر بلير إلى الأمر على نحو مغاير، فحسب ما كتب في مذكراته، فإنه: «مرة ثانية.. يبدو واضحا الآن أن أقوى مالك للصحف في البلاد، الذي أبدت صحفه كراهية شديدة في معارضتها لحزب العمال، يدعونا إلى الذهاب إلى عرين الأسد.. إذن عليك الذهاب، أليس كذلك؟».

في المقابل، نجد أن رؤساء أميركيين، خصوصا في فترات سابقة، سعوا إلى صداقة وكسب دعم مالكي الصحف القوية. إلا أن هذا الأمر انتهى الآن. هل سيعبأ المرشحون الرئاسيون اليوم بالسفر لنصف العالم الآخر لمجرد التودد إلى مالك صحيفة معادية؟ الإجابة واضحة.

ومع أن قناة «فوكس» الإخبارية، المملوكة لمردوخ، ربما تجتذب اهتمام بعض السياسيين الجمهوريين والمرشحين الرئاسيين، فإن نفوذها لا يرقى إلى مستوى نفوذ إمبراطورية مردوخ في بريطانيا.

بالنسبة لبلير، عادت عليه جهود التودد إلى مردوخ بمنافع كبيرة، حيث حولت «صن» من ولائها وساندت حزب العمال في انتخابات عام 1997 التي فاز فيها الحزب باكتساح، رغم أنه كان من الممكن أن يفوز بلير من دون مساندة مردوخ، بالنظر إلى السأم الذي تملك الرأي العام البريطاني تجاه المحافظين.

بيد أنه من الواضح أن بلير لم يكن مستعدا للمجازفة. وعليه؛ تنامت سمعة مردوخ كصانع لرؤساء الوزراء، ونال قدرا بالغا من التبجيل وقدرة على الاتصال برئيس الوزراء استمرت طوال العقد الذي قضاه حزب العمال في السلطة.

واستمر رئيس الوزراء السابق غوردن براون، خليفة بلير، في التودد بدأب إلى مردوخ أثناء وجوده في السلطة. وعندما توفيت ابنته الرضيعة، دعا براون محررين من «صن» و«ديلي ميرور» لحضور الجنازة. وقال براون الأسبوع الماضي إنه أيضا كان ضحية عملية تنصت، مشيرا إلى أنه جرى التجسس على سجلاته الطبية والمالية.

ويستخدم مستشار سياسي أميركي عمل لفترة في بريطانيا هذا الأمر للتمييز بين وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية، حيث أعرب عن اعتقاده بأنه من المستحيل تخيل إمكانية حدوث الأمر ذاته مع رئيس أميركي، بينما في بريطانيا لا يبدو الأمر غريبا.

وعندما فاز ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء الحالي، بزعامة حزب المحافظين عام 2005، سعى إلى استعادة ولاء مردوخ. وكان صديقا لريبيكا بروكس، رئيسة تحرير «نيوز أوف ذي وورلد» السابقة، التي تولت لاحقا رئاسة «نيوز إنترناشيونال» المملوكة لمردوخ. كما ضم لفريق الحملة الانتخابية المعاون له آندي كولسون كمدير لشؤون الاتصالات.

وكان كولسون أيضا رئيس تحرير سابق لـ«نيوز أوف ذي وورلد» وقت وقوع أعمال التنصت على الهواتف، رغم نفيه أي معرفة مباشرة له بهذه الأعمال التي ألقت بمراسل ومحقق خاص في السجن. وأثناء مثوله أمام البرلمان، يوم الأربعاء الماضي، قال كاميرون إنه لو عاد به الزمن وعرف ما يعرفه الآن ما كان ليعرض على كولسون دورا في الفريق المعاون له.

يذكر أن بروكس وكولسون ألقي القبض عليهما في أعقاب فضيحة التنصت على الهواتف. وعاد كاميرون من رحلة إلى أفريقيا للمثول أمام البرلمان للدفاع عن نفسه في خضم ضجة حول علاقته بمردوخ وقيادات إمبراطوريته، التي قطعا ستتبدل خلال الشهور المقبلة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»