ريف دمشق سوار يطوق عنق النظام

اشتهرت بتحولها إلى مصيف جذب إليها أبناء الطبقة الثرية واختلطوا مع فقرائها وأبناء الطبقة الوسطى النازحين إليها

TT

عادة توصف غوطة دمشق وهي المناطق الخضراء من بساتين وجنائن بأنها تحيط بمدينة دمشق كما يحيط السوار بالمعصم. غوطة دمشق الأمس هي محافظة ريف دمشق اليوم، إذ تحيط مناطقها ومدنها وبلداتها بدمشق بشكل دائري ومن كافة الجهات، وبعض بلداتها تتصل بالمدينة بفضل التوسع السكني السريع، الذي جعل منها امتدادا لبعض أحيائها، مثل منطقة الدويلعة الشعبية التي تصل بين مدينة جرمانة (جنوب دمشق) وحي باب شرقي في المدينة القديمة، وبلدة جوبر الملاصقة لمنطقة العباسيين.

مع مطلع السبعينات تم اعتماد تسمية ريف دمشق بمحافظة مستقلة إداريا عن المدينة، وتتضمن 9 مناطق، 27 ناحية، 28 مدينة، 190 قرية، 82 مزرعة، وتعد مدينة دوما أكبر مدنها، ولها حدود مباشرة من الشرق مع العراق والأردن، ومع لبنان من الغرب والشمال الغربي، فيما تحدها شرقا محافظة حمص، وجنوبا درعا والسويداء، وكانت في السابق تضم المناطق الريفية المحيطة بالعاصمة قبل أن تصبح مع الوقت من أهم المحافظات السورية، بمساحة 18.018 ألف كم مربع، يعيش فيها نحو مليونين ونصف المليون نسمة.

ولعل أهم ما يميز هذه المنطقة، التي تعتبر رئة دمشق السياحية والصناعية والزراعية، هو تنوع طبيعتها بين السهول والسهوب والجبال العالية والوديان وانتشار المصايف، والمتنزهات، لا سيما في الزبداني ومضايا والديماس والصبورة وغيرها من التي يقصدها السياح صيفا من أنحاء مختلفة لا سيما دول الخليج العربي، لطقسها اللطيف ولغناها بالفاكهة والخضار التي اشتهرت بها الشام. وأهميتها التاريخية والدينية من حيث وجود المساجد والمزارات والكنائس والأديرة القديمة.

في العقدين الأخيرين ومع تنامي الهجرة الداخلية إلى العاصمة، تحولت محافظة ريف دمشق إلى حاضنة للوافدين من أبناء الريف، من طلبة وعسكريين وموظفين. وشهدت معظم مدنها ومناطقها توسعا في السكن العشوائي الشعبي، الذي بات حزاما من الفقر يطبق على عنق العاصمة، مثل الدويلعة وحرستا والقدم والقابون والسبينة والست... وزاد في تردي الحال توافد اللاجئين العراقيين الذين تركز فقراؤهم في منطقتين؛ جرمانة والست زينب.

من جانب آخر وخلف حزام الفقر كانت هناك هجرة معاكسة من أبناء الطبقة الوسطى الدمشقية الذين لم تعد المدينة تتسع لهم، بسبب تردي الوضع الاقتصادي، وراحت معظم العائلات الكبيرة تبيع بيوتها وسط المدينة لتشتري بثمنها عدة بيوت لحل مشكلة سكن أبنائها في قدسيا ودمر وحرستا. وفي المقابل، كان هناك نزوح من نوع آخر لأبناء الأثرياء الجدد ولمسؤولين نحو مناطق المصايف مثل الصبورة والديماس، حيث انتشرت بشكل كبير الفيلات ومشاريع التجمعات السكنية الفاخرة التي قامت بتنفيذها شركات عربية، وقد جاء هذا التطور بعد تنفيذ مشاريع سكنية واسعة قامت للنقابات المهنية في دمر والديماس في الثمانينات، لتكون بذلك محافظة ريف دمشق حاضنا للفقراء في مساكن عشوائية تفتقر للخدمات، وملاذا لأبناء الطبقة الوسطى، وأيضا واحة للأثرياء الجدد ممن صارت لهم مناطق منظمة ومخدمة مثل ضاحية الأسد التي يقطنها معظم المسؤولين، ولتصل أسعار العقارات فيها إلى حدود خيالية.

هذه التحولات فرضت واقعا شديد التناقض، حيث حمل أبناء الأرياف معهم الانفتاح إلى محافظة ريف دمشق المعروف بتشدده الاجتماعي والديني رغم تنوعه - إسلامي، مسيحي - لتكون المدن والبلدات القديمة نواة محافظة وتقليدية وسط محيط منفتح شديد الغنى والتنوع والتناقض، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تركز المسؤولين والأغنياء في مناطق حديثة مخدمة أظهر حالة التفاوت الطبقي التي راحت تتفاقم عاما بعد آخر، مع التقدم نحو نهاية العقد الأول من حكم الرئيس بشار الأسد. ففي هذا العقد فتح الباب على مصراعيه أمام اقتصاد السوق حتى كاد يقضي على الطبقة الوسطى، نتيجة لتأثر قطاعي الزراعة والصناعات الصغيرة، ولعل هذا في مقدمة الأسباب التي جعلت محافظة ريف دمشق في مقدمة المناطق المتأثرة سلبيا بالسياسات الاقتصادية الجديدة. إذ تتركز في هذه المحافظة المصانع الصغيرة والمزارع التي تعد المغذي الرئيسي للعاصمة بأغلب المنتوجات الصناعية والزراعية المحلية، ويقدر عدد المنشآت الصناعية على مختلف أنواعها في المحافظة بنحو 19 ألف مصنع ومعمل ومنشأة لمختلف الصناعات: الصناعات المعدنية والثقيلة والتحويلية والإلكترونية والكهربائية والغذائية والهندسية والسيارات والأثاث والكابلات والسجاد والكيماويات والمنظفات والمواد العازلة والزيوت والنسيج والملابس الجاهزة والورق والكرتون والبلاستيك والألبان.

ومن نافل القول أن ريف دمشق من أهم المحافظات السورية من الناحية الصناعية بسبب قربها من العاصمة. ومن مراكز الإنتاج والتصدير على حد سواء. حيث ترتبط مدن وبلدات ومصايف المحافظة بشبكة من الطرق الحديثة والدولية التي تخترق المحافظة من الجنوب (أوتوستراد درعا) ومن الغرب (أوتوستراد دمشق بيروت) ومن الشمال (أوتوستراد حلب) وخطوط طرقية متقاطعة في جميع الاتجاهات وكذلك خط سكك حديدية كقطار المصايف العريق والخط الحديدي الحجازي وقطار درعا وبصري وخطوط القطارات السورية التي تنطلق نحو محافظات ومدن شمال سوريا.

وعند النظر في الآثار السلبية للسياسات الاقتصادية التي اعتمدتها الحكومة السورية في خطتها الخمسية العاشرة والتي انتهت العام الماضي، يمكن تفسير أسباب خروج أبناء ريف دمشق في مظاهرات تطالب بإسقاط النظام، حيث كانت مدينة دوما، التي تعد مركز المحافظة من أوائل المدن التي خرجت فيها مظاهرات بعد مدينة درعا، لتليها المعضمية وحرستا وسقبا وحمورية وجوبر وداريا والقدم والحجر الأسود... وفتح السوق المحلية لاستيراد السلع الصينية والتركية الرخيصة، وأدى ذلك إلى توقف غالبية المنشآت عن العمل وزيادة عدد العاطلين عن العمل. الأمر الذي لم تلحظه عناية الحكومة فلم تضع ضوابط لحماية الصناعات الصغيرة، وتركتها لأهواء رياح السوق، بالتآزر مع فساد فتك بالزراعة وبالأراضي وأطاح بالملكيات الخاصة، من خلال قرارات استملاك جائرة لصالح مشاريع عقارية، أفقرت سكان المنطقة الأصليين، وزادت في ثراء الوافدين من رجال المال والأعمال من المتحالفين مع النظام. وعندما بلغ الأمر حدا لا يطاق، كان انتفاض ريف دمشق والبدء من دوما والمعضمية. وخرجت مظاهرات قام النظام بقمعها بعنف شديد كان كافيا لإبقاء جذوة الاحتجاج في تلك المناطق مشتعلة بل وتزداد اتساعا يوما بعد آخر... ليكون سوار دمشق وحدائقها طوقا يحيط بعنق النظام.