«فوبيا التيارات السلفية» تفاقم مخاوف أقباط مصر

بعد تراجع الليبراليين واليساريين عن صدارة المشهد

TT

«أنا نازل التحرير في مليونية الشريعة، يرضيكو يعني إن البلد تبقى علمانية؛ وأي حد يبوس البنات في الشارع كده»!.. هذه القبلة «المحرمة»، على حد قول محمد صلاح (حلاق)، هي المرادف الشعبي لفكرة العلمانية التي تروج لها التيارات السلفية، مؤكدة أن العلمانية إذا طبقت في مصر ستصبح الأمور من دون رقيب، ويستطيع أي أحد أن يقبل السيدات في الشوارع. لكن جملة الحلاق البسيطة التي لم تؤخذ مأخذ الجد، بل أصابت البعض بالضحك والسخرية، كان لها وقع آخر في دائرة فوبيا «التيارات السلفية» التي بدأت تتسع في أوساط المصريين، وعلى وجه الخصوص بين مسيحيي مصر.. فبدافع من هذه الفوبيا احتضنت المرأة ابنها الصغير بمجرد دخولي عربة الأجرة، وقفزت إلى ذهني جملة هذا الحلاق الساذجة. لم تستطع «مريان» القبطية رغم وجود زوجها بجوارها في المقعد الخلفي للعربة كتمان خوفها بعد ركوب «شخص مسلم» العربة نفسها التي تقل الأسرة المسيحية.

ظلت الأمور هادئة حتى شاهدنا عربات الدفاع المدني والمطافئ بكثرة تغادر في الطريق المقابل فقال السائق دون تمهيد: «لو كنت (حنا) كنت روحت لقيت بيتكم ولع».. هذه العبارة بدت كأنها رسالة غير مباشرة أراد أن يوصلها إلى صابر حنا سائق التاكسي في أثناء الرحلة الصغيرة من محافظة المنيا إلى مدينة أبو قرقاص في سيارته التي جمعت بالصدفة 4 مسيحيين ومسلما. فرغم الكلام الكثير عن وأد الفتنة الطائفية وكشف أقنعتها، فإن معاناة الأقباط في صعيد مصر لا تتركز فقط في خوفهم من تولي «إسلاميين متشددين» زمام الأمور في بلادهم، وإنما لأنهم بالفعل لم يعودوا يشعرون بالأمان في بيوتهم، فهذه المدينة شهدت ما شهدت من أحداث كان أخطرها عندما فتح أحد المتشددين الإسلاميين النار بعشوائية أمام كنيسة مار جرجس بأبو قرقراص منذ عدة سنوات، حينها كان المسيحيون يرتمون في أحضان إخوانهم المسلمين ويذهبون لبيوتهم ليجدوا بعض السكينة ولم تكن نظرات الخوف هذه متواجدة.

عربة الأجرة التي كانت مملوءة بالضحك قبل أن يركبها «المسلم» لاذت مرة واحدة بالصمت، واقتصر حديثي مع السائق الذي أخبرني بحزن شديد أن «المسلمين» حرقوا مصنعا آخر لأحد المسيحيين في شرق المدينة بالقرب من بيتي وأن المطافئ لم تأت إلا بعد أن سوى الحريق هذا المصنع بالأرض.. حزنت ولكني حزنت أكثر عندما سألني بـ«تقطيبة» من عينيه عن اسمي فانقطع الحديث فجأة وقال لي: «لا تقلق يا أستاذ» محمد ولا محمود صح «هتروح تلاقي بيتكم سليم.. لو كان اسمك حنا كنت لقيته مولع!».

وقبل النزول توقفنا عند محطة البنزين التي لا تزال آثار الحطام تملؤها بسبب انفجار عربة غاز بها قبل عدة أسابيع، وبالكاد تعمل وكأن حطامها يواسي أفئدة هؤلاء المسيحيين الذين يعملون بها، وتحدث السائق مع عامل المحطة ولكن الحديث لم يختلف عن سابقه، فالخوف يتناثر في ثنايا الجمل والحروف.. قال العامل بأسى: «دا السلفيين عاملين جمعة»، واستدرك قائلا: «يعني إحنا خدنا إيه من الثورة إحنا ما وصلناش من الثورة إلا الغاز المسيل للدموع»!.

لخص عامل محطة البنزين آلام ومخاوف المسيحيين وخوفهم البدائي من المستقبل، وسيناريوهات النظام الذي سيحكم مصر بعد انتهاء مهمة المجلس العسكري، لكن ستظل المسافة شاسعة بين ذلك الحلاق الذي ذهب إلى ميدان التحرير بالعاصمة القاهرة ليهتف ضد علمانية ومدنية لا يعرف معناهما، وبين هذا العامل، وتلك الأسرة المسيحية في إحدى مدن المنيا، فهناك مواطنون في هذا البلد لا يزالون يشعرون بأنهم من الدرجة الثانية لمجرد أنهم «مسيحيون».