قاسم سليماني الجنرال الإيراني الذي «يدير العراق سرا»

قائد فيلق القدس ضمن ولاية ثانية.. ويخشاه الزعماء العراقيون

الجنرال قاسم سليماني
TT

هناك قصة يحلو لمدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) الجديد، ديفيد بترايوس سردها، تعود أحداثها للفترة التي كان فيها جنرالا في العراق يحمل على كتفيه أربع نجوم. في مطلع عام 2008، خلال سلسلة من المعارك بين الجيشين الأميركي والعراقي من ناحية، وميليشيات شيعية من ناحية أخرى، تم تسليم هاتف جوال لبترايوس يحمل رسالة نصية من جنرال إيراني تحول فيما بعد إلى لعنة تطارده.

تلك الرسالة كانت من رئيس فيلق القدس النخبوي الإيراني، قاسم سليماني، ونقلها زعيم عراقي بارز. وجاء نصها كالتالي: «الجنرال بترايوس، عليك أن تعلم أنه أنا، قاسم سليماني، من يدير السياسة الإيرانية تجاه العراق ولبنان وغزة وأفغانستان. في الواقع، السفير في بغداد عضو في فيلق القدس. والشخص الذي سيحل محله من فيلق القدس أيضا».

لم يكن بترايوس بحاجة لمن يذكره بهذا الأمر، ذلك أن الكثير من الجهود المشتركة بين المؤسسة العسكرية الأميركية والشيعة في العراق تقوضت بسبب سليماني وعملائه من الميليشيات الشيعية العاملة بتوجيهات من فيلق القدس الذي يترأسه. وكذلك كان الحال مع الجهود الدبلوماسية الأميركية في دول أخرى في الشرق الأوسط، خاصة لبنان.

خلال كلمة ألقاها أمام «معهد دراسات الحرب»، تناول بترايوس المشكلات التي خلقها سليماني أمامه، وقال: «الآن، أصبحت الجهود الدبلوماسية تزداد صعوبة إذا ما راودك الظن بأن الدبلوماسية تعني التعامل مع وزارة الخارجية بدولة أخرى، لأنها في واقع الأمر أصبحت تعني التعامل، ليس مع الوزارة، وإنما مع الجهاز الأمني».

ومع استعداده لتولي إدارة وكالة التجسس الأميركية، قطعا كان بترايوس يهيئ نفسه لمزيد من العراك السري. والملاحظ أن سمعة سليماني كأقوى مدير للعملاء بالمنطقة لم تتضاءل خلال السنوات الثلاث الماضية، بل إنها في بعض الجوانب زادت، حيث أصبحت سوريا الآن جزءا من دائرة نفوذ سليماني.

واتضحت متانة الروابط بين سليماني ونواب برلمانيين عراقيين خلال مقابلات أجريت على مدار أسابيع مع عدد من كبار المسؤولين، بينهم من يكنون له إعجابا شديدا وآخرون يخشونه كما لو كانوا يخشون رجلا من قبل.

ويعد شيروان الوائلي، وزير الدولة السابق لشؤون الأمن الوطني بالعراق، ممن عرفوا سليماني عن قرب. وخلال مقابلة رسمية بين صحيفة «الغارديان» والوائلي العام الماضي، اتخذ الحديث نبرة مغايرة تماما بمجرد ذكر اسم سليماني.

ومن المعروف أن الوائلي، العضو الشيعي في البرلمان، حليف لإيران لدرجة أن أعضاء علمانيين وسنة بالبرلمان يعتبرونه شخصا على استعداد لتنفيذ كل أوامر إيران. ونفى الوائلي اضطلاع إيران بأي دور مهيمن في العراق حتى قاطعه المحاور بسؤال فضل المسؤولون العراقيون تجاهله لفترة طويلة: متى كانت آخر مرة زار خلالها قاسم سليماني المنطقة الخضراء، وهي الضاحية الحكومية المحصنة الواقعة بقلب بغداد؟

وفجأة، ارتجفت يد الوائلي اليسرى قليلا وعقد حاجبيه، وقال: «تقصد السيد قاسم سليماني»، مضيفا إلى الاسم لقب تبجيل عربيا. لكنه رفض الرد على السؤال.

في بغداد، ليس هناك اسم آخر يمكنه إثارة نفس رد الفعل بين قيادات البلاد، رد فعل يتسم بالقلق والتوتر والخوف. وعن ذلك، قال موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق: «إنه أقوى رجل في العراق من دون منازع. لا شيء ينجز من دونه».

وحتى الآن، لم يجرؤ سوى القليل من العراقيين الحديث علانية عن هذا الجنرال الإيراني الغامض وطبيعة الدور الذي يلعبه في العراق وكيف يصوغ الأجندات الأساسية على نحو لا يضاهيه فيه آخر. وقال مسؤول أميركي بارز: «إنهم مشغولون للغاية في التعامل مع التداعيات. إنه يفرض الشروط، ثم يجعل الأمور تحدث، ويجد العراقيون لزاما عليهم إدارة موقف لم يشاركوا فيه من الأساس».

تضرب رحلة سليماني نحو القمة في العراق بجذورها في الثورة الإسلامية عام 1979، التي أطاحت بالشاه وأعادت رسم صورة إيران كدولة إسلامية شيعية أصولية. وصعد بثبات عبر صفوف المؤسسة العسكرية الإيرانية حتى عام 2002 عندما تم تعيينه، قبل شهور من الغزو الأميركي للعراق، قائدا لأعلى قوة نخبوية داخل المؤسسة العسكرية الإيرانية، فيلق القدس التابع لفيالق الحرس الثوري.

لا يوجد لفيلق القدس نظير داخل إيران. ورغم أن هدفه المعلن هو حماية الثورة، فإنه جرى تفسير هذا الهدف باعتباره تصدير أهداف الثورة لأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. وأثبتت المجتمعات الشيعية في مختلف أرجاء المنطقة كونها أراضي خصبة أمام رسائل ثورية وشكلت شراكات عميقة مع فيلق القدس. وكذلك الحال مع الكثير من الجماعات السنية المعارضة لإسرائيل، خاصة حماس في قطاع غزة. إلا أن العراق شكل منطقة محورية أمام سليماني. وشهدت السنوات الثماني الأخيرة حربا بالوكالة بين فيلق القدس بقيادة سليماني والقوات الأميركية، ولا تزال تداعياتها تتجلى حتى الآن، مع استعداد الولايات المتحدة للانسحاب الكامل من العراق وتفكير القيادات العراقية فيما إذا كان عليهم أن يطلبوا من القوات الأميركية البقاء.

هذا الوضع يتعلق بمن سيملك في يده صياغة مستقبل المنطقة. وقال صالح المطلك، السني العلماني، وأحد النواب الثلاثة لرئيس الوزراء العراقي «إنه (سليماني) يستمد قوته مباشرة من خامنئي. ويتجاوز هذا الوضع أي مسؤول آخر، بما في ذلك أحمدي نجاد». وأوضح أن «هناك قولا في الإسلام يفيد بضرورة ألا يعصي المرء والديه. ويفسر الشيعة هذا القول باعتباره يعني ضرورة احترام ما يقوله خامنئي عبر سليماني من جميع الشيعة داخل وخارج إيران. جميع الشخصيات المهمة في العراق تذهب لمقابلته. إن الناس يفتنون بسحره وينظرون إليه باعتباره ملاكا».

وقال عضو آخر بارز في الدائرة المقربة من رئيس الوزراء نوري المالكي، والذي يلتقي سليماني على نحو منتظم في إيران، إن الجنرال الإيراني سافر للعراق مرة واحدة فقط خلال السنوات الثماني الماضية. ووصفه بأنه «رجل هادئ في كلامه، معتدل وشديد الأدب». وأضاف «يبدو بسيطا عندما تتحدث إليه. ولا يمكنك أن تخمن حينها مدى قوة هذا الرجل إلا عندما تعلم خلفيته. إنه يتمتع بقوة مطلقة ولا يمكن لأحد التشكيك في ذلك».

ولسليماني شعر أشيب وابتسامة خافتة هادئة ومستمرة، مما يجعله يبدو شخص غير محتمل على الإطلاق للعب دور أحد أمراء الحرب. ويقول من التقوه عام 2006 في ذروة الصراع الطائفي في العراق خلال المرة الواحدة التي زار فيها بغداد، إنه سار حول المعسكرات الخاصة بمضيفيه الأساسيين من دون حراسة شخصية. ولم يعلم الأميركيون أنه كان في العاصمة سوى بعدما عاد لإيران، وشعروا بغضب شديد لدى علمهم أن عدوهم اللدود كان بينهم. وقال مسؤول أميركي رفيع المستوى هذا الأسبوع «لا أحد يعلم عن ماضيه وأنه نفس الشخص، إنه في كل مكان ولا يوجد في مكان محدد».

وأضاف المسؤول الشيعي البارز القريب من رئيس الوزراء، أن سليماني «نجح في تكوين صلات مع كل جماعة شيعية على جميع المستويات. العام الماضي، خلال اجتماع في دمشق أثمر عن تشكيل الحكومة العراقية الراهنة، كان حاضرا بجانب قادة من سوريا وتركيا وإيران وحزب الله. وقد دفعهم جميعا لتغيير وجهة نظرهم ومباركة المالكي كرئيس للوزراء لولاية ثانية».

وعلى امتداد السنوات الخمس التي قضاها المالكي في السلطة، حظي جميع كبار مستشاريه باستقبال طيب في إيران من جانب سليماني. أيضا، التقى الرئيس العراقي، جلال طالباني، الكردي، بصورة منتظمة بالجنرال الإيراني، أحيانا على الحدود بين البلدين.

والملاحظ أن الانتفاضة السورية أضافت بعدا جديدا للأمر، حيث شاركت قوة القدس في قمع الانتفاضة السورية، طبقا لما ورد عن الكثير من المصادر داخل وخارج البلاد.

من جهتها، فرضت الولايات المتحدة عقوبات شخصية ضد سليماني واثنين من الجنرالات الإيرانيين الآخرين في القوات الأمنية تتهمهم بالمعاونة في موجة الهجمات القاسية ضد الانتفاضة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1.600 مدني.

واللافت أن إيران استثمرت بشدة في بقاء الرئيس السوري المنهك بشار الأسد، والذي ترتبط الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بصلات مع الإسلام الشيعي. وقطعا سيمثل سقوط نظام الأسد انتكاسة استراتيجية خطيرة لإيران وسليماني. وربما كان هو الجزء الوحيد من المنطقة التي يواجه فيها المزج الذي يتبعه الجنرال ما بين الدبلوماسية الاستراتيجية والعمليات القوية، اختبارات عصيبة.

في الوقت نفسه، تستمر نشاطات فيلق القدس في العراق. يذكر أن الجميع فيما عدا اثنين من بين قتلى القوات الأميركية في يونيو (حزيران) أكبر عدد من القتلى خلال أكثر من عامين، قتلوا على يد ميليشيات عميلة تعمل بتوجيهات مباشرة من سليماني، وهي كتائب حزب الله ولواء اليوم الموعود.

وقال المدير العام لقسم الاستخبارات بوزارة الداخلية العراقية، حسين كمال «من الواضح أن فيلق القدس مسؤول. كان هناك تدفق منظم للأسلحة إلى داخل العراق خلال السنوات الثماني الماضية، لكن عندما تتدفق الأسلحة من الحدود إلى داخل دولة ذات سيادة، يصبح واضحا أين يقع اللوم. إنها أسلحة مدمرة ولا يمكنهم نفي مسؤوليتهم عنها».

وقال برلماني شيعي إنه سأل شخصيا سليماني حول السبب وراء استمرار فيلق القدس في تهريب الأسلحة، والتي يجري إطلاق الكثير منها على المنطقة الخضراء، حيث يعيش المالكي ومعظم أفراد الحاشية المقربة منه. وأضاف «اكتفى بالابتسام وقال إنه لا صلة له بذلك. وقال إنه لا يعلم من أين تأتي الأسلحة».

الملاحظ أن مصادر متنوعة ممن يمقتون سليماني من سنة العراق وممن أمضوا سنوات في محاولة التعرف على حقيقته، وصفته بأنه «ماهر في أساليب الابتزاز وانتهازي».

ويقول مسؤولون أميركيون قضوا سنوات في محاولة إعاقة نشاطات الموالين له، إنهم يودون مقابلته، بينما تتملكهم الحيرة في الوقت ذاته حيال حقيقة أهدافه. وقال مسؤول عسكري أميركي رفيع المستوى «سوف أسأله ببساطة ماذا يريد منا». وإضافة إلى الجنود الذين قتلوا هذا العام، قال السفير الأميركي في بغداد جيمس جيفري الصيف الماضي، إن عملاء إيرانيين كانوا وراء نحو ربع أعداد الضحايا في صفوف المقاتلين الأميركيين في العراق، نحو1100 قتيل وعدة آلاف من الجرحى.

ورغم ذلك، وجهت واشنطن بضعة صفعات مدوية للحاشية المقربة من سليماني. ففي مارس (آذار) 2007، ألقت قوات بريطانية القبض على مسؤول بارز في حزب الله، علي موسى دقدوق، والذي يعتقد أنه خطط عملية أسفرت عن مقتل سبعة جنود في كربلاء. في العام ذاته، أسرت القوات الأميركية أيضا رجلين في الشمال الكردي اعتقدوا أنهما من قيادات فيلق القدس. وتعتقد الولايات المتحدة وبعض الدول المحورية المجاورة للعراق أن استراتيجية إيران في العراق مع انحسار الصراع تقوم على إبقاء البلاد في حالة مستمرة، لكن يمكن السيطرة عليها، من الفوضى. ووصف مسؤول لبناني في بيروت هذه الاستراتيجية بقوله إنهم «يبقون على الشعلة ويزيدونها ويخفضونها حسبما يشاءون.

ويتفق المتحدث الرسمي باسم المؤسسة العسكرية الأميركية بالعراق الميجر جنرال جيفري بوكانن مع هذا الرأي. وقال «دارت الاستراتيجية العامة حول الإبقاء على العراق معزولا عن باقي جيرانه وعن الولايات المتحدة لأن هذا الوضع يزيد من احتمالات اعتماده على إيران. إنهم يرغبون في قيام العراق بدور أضعف تابع لهم».

فقط أعضاء البرلمان العراقي هم القادرون على وقف هذه العلاقة القائمة على نمط السيد والتابع ومنعها من ترسيخ جذورها، وهي مهمة يخشى العضو الكردي بالبرلمان الوطني محمود عثمان من أنها ربما تفوق قدرات زملائه. وقال «قاسم سليماني الرجل الأول خلف جميع القرارات التي يجري اتخاذها في العراق». وأضاف «من العار أن يلعب هذا الرجل مثل هذا الدور في بلادنا. ينبغي أن تكون العلاقة بين ندين كتلك العلاقات الطبيعية بين الدول».

* بالاتفاق مع «الغارديان»