بعد رحيلها.. «أم الثوار» توحد الصفوف كردستانيا وعراقيا

جثمان والدة بارزاني يجمع الفرقاء على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم السياسية والدينية والمذهبية

TT

هناك من يموت ولا يترك أثرا، يندثر جسده تحت التراب وليس في صحيفة أعماله ومواقفه ما يشفع له بالذكرى، اللهم إلا في قلوب قلة من أفراد أسرته. ولكن السيدة حمايل خان رحلت عن هذه الدنيا، وأبت حتى بعد موتها إلا أن تترك أثرا عظيما حقق مكسبا عجزت عنه الدبلوماسية والعلاقات العامة عن تحقيقه، وذلك عندما تجمع حول جثمانها قادة جميع القوى العراقية والكردستانية بمختلف أطيافها وانتماءاتها السياسية والدينية والمذهبية والقومية.

ودعت كردستان السيدة حمايل، والدة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، التي استحقت بجدارة لقب «أم الثوار» لأنها أعطت للثورات الكردية المتلاحقة كل ما لديها، فجادت بدماء العديد من أفراد عائلتها وعشيرتها، وخاضت الجبال والوديان برفقة زوجها الملا مصطفى بارزاني الأب الروحي للأكراد، فتعرفت على البيشمركة الرابضين فوق قمم الجبال وداخل خنادق النضال، ووزعت حنانها وعطفها على كل أجيال البيشمركة. والقدر رسم لهذه السيدة أن تحمل على أكتافها هموم شعبها لسنين طوال، سواء بمعية زوجها الراحل أو في زعامة ابنها مسعود ورغم أن الحمل كان ثقيلا تنوء به الجبال، ولكن قدر حمايل خان كان أن تولد وتتربى وتعيش بين أحضان الثورة، وكم كانت سعيدة وهي تجني أخيرا ثمار ما قدمته وزوجها وابنها وعشيرتها من عطاءات نضالية حين تحقق حلم شعبها بإنشاء الكيان الكردي المستقل في إطار الدولة العراقية الديمقراطية الفيدرالية الموحدة.

فرقاء عراقيون تنافسوا ثم تناحروا وتصارعوا إلى درجة كسر العظم، لكنهم وقفوا صفا واحدا أمام جثمان هذه المرأة العظيمة التي كانت دائما ملاذا للقادة الأكراد لحل منازعاتهم الداخلية، فكانت تحكم بالعدل بينهم، وتوصيهم دائما بالتمسك بوحدة الصف، ولطالما نصحت ابنها والزعيم المنافس له الرئيس العراقي جلال طالباني بأن يتوحدا من أجل مصلحة شعبهما، ويروي الكثيرون أن طالباني كان دائما يلجأ إليها أثناء احتدام خلافاته مع زوجها الراحل، ولم يتركها حتى في سنوات زعامة ولده مسعود، فكانت هي الملاذ عندما تشتد الخلافات والصراعات بينهما.

رصدت «الشرق الأوسط» في عزاء السيدة حمايل خان المقام بجامع «الصواف» في قلب مدينة أربيل وجود ذلك الحضور السياسي والاجتماعي الرائع في المراسم، فالوزير كان يجلس إلى جوار نجار سوق القيصرية، ومحافظ المدينة يرشد بائع الجبن وكسبة المدينة وموظفيها بمن فيهم موظفو محافظته إلى الأماكن الشاغرة للجلوس، وفي زوايا الجامع يجلس صاحب العقال الأسود بجوار اليشماخ الأحمر القادم من أرض السعودية، وهناك أعضاء القنصليات والسفارات والمنظمات الأجنبية يتوافدون على نيجيرفان بارزاني حفيد الملا مصطفى يقدمون له التعازي واحدا بعد آخر، والرجل لا يستريح للحظة أو حتى يريح قدميه من كثرة الضيوف الوافدين إلى المسجد للتعبير عن حزنهم البالغ برحيل أمهم.

وفي قاعة الاستقبال التي استقبل فيها الرئيس بارزاني كبار ضيوف الإقليم، يجالس إياد علاوي زعيم القائمة العراقية، خصمه اللدود رئيس الوزراء نوري المالكي جنبا إلى جنب ناسيين في تلك اللحظة خلافاتهما السياسية، وطالباني يجمع حوله نائبيه ورئيس البرلمان وكبار قادة الدولة، ناهيك بالحضور المكثف لممثلي التيار الصدري والمجلس الأعلى وأحزاب سنية وشيعية، علمانية وإسلامية، كلها متخاصمة طوال نشوء العملية السياسية بالعراق، ولكن القامة المهيبة للسيدة حمايل خان تفرض هيبتها على الجالسين حولها، وتنسيهم ولو للحظات خصوماتهم السياسية عسى أن تلهمهم تلك اللحظات التفكير في تجاوز أزمة العراق.

في الطرف الآخر كان التركماني القادم من كركوك يتحاور مع تركماني أربيل، وخلفهم يجلس شيوخ العشائر العربية القادمة من كركوك أيضا، وهناك من جاء من ديالى وخانقين، والناصرية والبصرة، يجتمعون كلهم تحت قبة المسجد، يتهامسون بين تلاوات القرآن، مأخوذين بتلك الكثافة الكبيرة للحضور من مختلف أطياف العراق وكردستان التي تقف صفا واحدا في مراسم التوديع والترحم على «أم الثوار».

وفي السليمانية أيضا كان لرحيل السيدة حمايل خان تأثير فيما يشبه انفراجا بالأزمة السياسية التي تعاني منها كردستان بين أحزاب السلطة والمعارضة. فبعد مبادرة رئيس المعارضة نوشيروان مصطفى الذي سما فوق خلافاته السياسية مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقود السلطة مع حليفه الاتحاد الوطني الكردستاني، وبعث فور سماعه بنبأ رحيل السيدة حمايل خان ببرقية مواساة إلى رئيس الإقليم، ثم حضر مراسم التعزية المقامة في مسجد عبد القادر جويسة بالمدينة، زار وفد من الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة أدهم بارزاني، نوشيروان في منزله في بادرة تعتبر الأولى من نوعها منذ نشوب الأزمة السياسية بين السلطة والمعارضة بكردستان، مما اعتبرها العديد من المراقبين انفراجا مهما في علاقات الحزبين وبادرة مهمة في طريق تطبيع العلاقات وإعادة بناء الثقة مجددا بين السلطة والمعارضة.

أما على الصعيد الدولي فتتالت برقيات التعزية على مسعود بارزاني وعائلته من جميع أرجاء العالم، ابتداء من نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، مرورا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، ووزراء خارجية معظم البلدان العربية والأوروبية، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة السفير أد ميلكرت، إلى جانب حضور مكثف للقناصل وممثلي السفارات الأجنبية في مراسم التعزية.

رغم الخسارة الكبيرة التي تكبدها الأكراد برحيل «أم الثوار»، لكن الحضور الواسع لمختلف القوى السياسية والاجتماعية حول رئيس الإقليم مسعود بارزاني والأجواء الإيجابية التي سادت بين قياداتها، قد يسهم ويساعد في تدعيم جهود بارزاني لإخراج العراق من أزمته السياسية الحالية، كما يساعده على تطبيع علاقات الأحزاب الكردية وحل الأزمة السياسية بكردستان، وذلك هو الأثر الذي أبت «أم الثوار» إلا أن تتركه بعد رحيلها.